صفحة جزء
باب قول النبي صلى الله عليه وسلم إنما الكرم قلب المؤمن وقد قال إنما المفلس الذي يفلس يوم القيامة كقوله إنما الصرعة الذي يملك نفسه عند الغضب كقوله لا ملك إلا لله فوصفه بانتهاء الملك ثم ذكر الملوك أيضا فقال إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها

5829 حدثنا علي بن عبد الله حدثنا سفيان عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقولون الكرم إنما الكرم قلب المؤمن
قوله : ( باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : إنما الكرم قلب المؤمن ، وقد قال : إنما المفلس الذي يفلس يوم القيامة كقوله : إنما الصرعة الذي يملك نفسه عند الغضب ، كقوله : لا ملك إلا الله فوصفه بانتهاء الملك . ثم ذكر الملوك أيضا فقال : إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها ) غرض البخاري أن الحصر ليس على ظاهره ، وإنما المعنى أن الأحق باسم الكرم قلب المؤمن ، ولم يرد أن غيره لا يسمى كرما ، كما أن المراد بقوله إنما المفلس من ذكر ولم يرد أن من يفلس في الدنيا لا يسمى مفلسا ، وبقوله إنما الصرعة كذلك ، وكذا قوله لا ملك إلا الله لم يرد أنه لا يجوز أن يسمى غيره ملكا ، وإنما أراد الملك الحقيقي وإن سمي غيره ملكا ، واستشهد لذلك بقوله - تعالى - : إن الملوك وفي القرآن من ذلك عدة أمثلة كقوله - تعالى - : وقال الملك في صاحب يوسف وغيره ، وأشار ابن بطال إلى أنه يؤخذ من ذلك ترك المبالغة والإغراق في الوصف إذا كان الموصوف لا يستحق ذلك ، وحديث إنما المفلس يأتي الكلام عليه في الرقاق ، وحديث إنما الصرعة تقدم قريبا ، وحديث لا ملك إلا الله يأتي الكلام عليه في " باب أبغض الأسماء إلى الله " ووقع لبعض الرواة هنا بلفظ لا ملك إلا لله بضم الميم وسكون اللام وحذف الألف بعد قوله إلا ، والأول هو اللائق للسياق .

قوله : ( ويقولون الكرم إنما الكرم قلب المؤمن ) هكذا وقع في هذه الرواية من طريق سفيان بن عيينة قال حدثنا الزهري عن سعيد ، ووقع في الباب الذي قبله من رواية معمر عن الزهري عن أبي سلمة بلفظ لا تسموا العنب كرما وهي رواية ابن سيرين عن أبي هريرة عند مسلم ، وعنده من طريق همام عن أبي هريرة لا يقل أحدكم للعنب الكرم ، إنما الكرم الرجل المسلم وله من حديث وائل بن حجر لا تقولوا الكرم ، ولكن قولوا العنب والحبلة قالوا وفي قوله في الباب " ويقولون " عاطفة على شيء حذف هنا وكأنه الحديث الذي قبله ، وقد أخرجه ابن أبي عمر في مسنده عن سفيان ومن طريقه الإسماعيلي فقال في أوله " يقولون " بغير واو أخرجه الحميدي في مسنده ومن طريقه أبو نعيم وذكره بالواو كما ذكره البخاري عن علي بن عبد الله ، وكذا أخرجه أحمد في مسنده عن سفيان ولكن قال فيه " عن أبي هريرة رفعه " وقال مرة " يبلغ به " وقال مرة " قال رسول الله [ ص: 583 ] - صلى الله عليه وسلم - " وأخرجه مسلم عن ابن أبي عمر وعمرو الناقد قالا : حدثنا سفيان بهذا السند قال : " قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لا تقولوا كرم فإن الكرم قلب المؤمن " وقوله ويقولون الكرم هو مبتدأ وخبره محذوف أي يقولون الكرم شجر العنب . وقد أخرج الطبراني والبزار من حديث سمرة رفعه إن اسم الرجل المؤمن في الكتب الكرم من أجل ما أكرمه الله على الخليقة ، وإنكم تدعون الحائط من العنب الكرم الحديث قال الخطابي ما ملخصه : إن المراد بالنهي تأكيد تحريم الخمر بمحو اسمها ، ولأن في تبقية هذا الاسم لها تقريرا لما كانوا يتوهمونه من تكرم شاربها فنهى عن تسميتها كرما وقال : إنما الكرم قلب المؤمن لما فيه من نور الإيمان وهدى الإسلام ، وحكى ابن بطال عن ابن الأنباري أنهم سموا العنب كرما لأن الخمر المتخذة منه تحث على السخاء وتأمر بمكارم الأخلاق حتى قال شاعرهم :

والخمر مشتقة المعنى من الكرم

وقال آخر :

شققت من الصبى واشتق مني     كما اشتقت من الكرم الكروم

فلذلك نهى عن تسمية العنب بالكرم حتى لا يسموا أصل الخمر باسم مأخوذ من الكرم ، وجعل المؤمن الذي يتقي شربها ويرى الكرم في تركها أحق بهذا الاسم انتهى . وأما قول الأزهري : سمي العنب كرما لأنه ذلل لقاطفه وليس فيه سلاء يعقر جانيه ويحمل الأصل منه مثل ما تحمل النخلة فأكثر ، وكل شيء كثر فقد كرم ، فهو صحيح أيضا من حيث الاشتقاق لكن المعنى الأول أنسب للنهي . وقال النووي : النهي في هذا الحديث عن تسمية العنب كرما وعن تسمية شجرها أيضا للكراهية . وحكى القرطبي عن المازري أن السبب في النهي أنه لما حرمت عليهم الخمر وكانت طباعهم تحثهم على الكرم كره - صلى الله عليه وسلم - أن يسمى هذا المحرم باسم تهيج طباعهم إليه عند ذكره فيكون ذلك كالمحرك لهم ، وتعقبه بأن محل النهي إنما هو تسمية العنب كرما ، وليست العنبة محرمة ، والخمر لا تسمى عنبة بل العنب قد يسمى خمرا باسم ما يئول إليه . قلت : والذي قاله المازري موجه ; لأنه يحمل على إرادة حسم المادة بترك تسمية أصل الخمر بهذا الاسم الحسن ، ولذلك ورد النهي تارة عن العنب وتارة عن شجرة العنب فيكون التنفير بطريق الفحوى ; لأنه إذا نهى عن تسمية ما هو حلال في الحال بالاسم الحسن لما يحصل منه بالقوة مما ينهى عنه فلأن ينهى عن تسمية ما ينهى عنه بالاسم الحسن أحرى . وقال الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة ما ملخصه : لما كان اشتقاق الكرم من الكرم ، والأرض الكريمة هي أحسن الأرض فلا يليق أن يعبر بهذه الصفة إلا عن قلب المؤمن الذي هو خير الأشياء لأن المؤمن خير الحيوان ، وخير ما فيه قلبه ; لأنه إذا صلح صلح الجسد كله ، وهو أرض لنبات شجرة الإيمان . قال : ويؤخذ منه أن كل خير - باللفظ أو المعنى أو بهما أو مشتقا منه أو مسمى به - إنما يضاف بالحقيقة الشرعية ; لأن الإيمان وأهله وإن أضيف إلى ما عدا ذلك فهو بطريق المجاز ، وفي تشبيه الكرم بقلب المؤمن معنى لطيف ; لأن أوصاف الشيطان تجري مع الكرمة كما يجري الشيطان في بني آدم مجرى الدم ، فإذا غفل المؤمن عن شيطانه أوقعه في المخالفة ، كما أن من غفل عن عصير كرمه تخمر فتنجس . ويقوي التشبه أيضا أن الخمر يعود خلا من ساعته بنفسه أو بالتخليل فيعود طاهرا ، كذا المؤمن يعود من ساعته بالتوبة النصوح طاهرا من خبث الذنوب المتقدمة التي كان متنجسا باتصافه بها إما بباعث من غيره من موعظة ونحوها وهو كالتخليل ، أو بباعث من نفسه وهو كالتخلل . فينبغي للعاقل أن يتعرض لمعالجة قلبه لئلا يهلك وهو على الصفة المذمومة .

( تنبيه ) : الحبلة المذكورة في حديث وائل عند مسلم بفتح المهملة وحكي ضمها وسكون الموحدة وبفتحها أيضا وهو أشهر : هي شجرة العنب ، وقيل أصل الشجرة ، وقيل القضيب منها . وقال في " المحكم " الحبل [ ص: 584 ] بفتحتين شجر العنب ، الواحدة حبلة ، وبالضم ثم السكون الكرم ، وقيل الأصل من أصوله ، وهو أيضا اسم ثمر السمر والعضاه .

التالي السابق


الخدمات العلمية