صفحة جزء
629 حدثنا محمد بن بشار بندار قال حدثنا يحيى عن عبيد الله قال حدثني خبيب بن عبد الرحمن عن حفص بن عاصم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله الإمام العادل وشاب نشأ في عبادة ربه ورجل قلبه معلق في المساجد ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه ورجل طلبته امرأة ذات منصب وجمال فقال إني أخاف الله ورجل تصدق أخفى حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه
قوله : ( حدثنا يحيى ) هو القطان ، وعبيد الله هو ابن عمر العمري ، وخبيب بضم المعجمة وهو خال عبيد الله الراوي عنه ، وحفص بن عاصم هو ابن عمر بن الخطاب وهو جد عبيد الله المذكور لأبيه .

قوله : ( عن أبي هريرة ) لم تختلف الرواة عن عبيد الله في ذلك ، ورواه مالك في الموطأ عن خبيب فقال " عن أبي سعيد وأبي هريرة " على الشك ، ورواه أبو قرة عن مالك بواو العطف فجعله عنهما ، وتابعه مصعب الزبيري ، وشذا في ذلك عن أصحاب مالك ، والظاهر أن عبيد الله حفظه لكونه لم يشك فيه ولكونه من رواية خاله وجده ، والله أعلم .

قوله : ( سبعة ) ظاهره اختصاص المذكورين بالثواب المذكور ، ووجهه الكرماني بما محصله أن الطاعة إما أن تكون بين العبد وبين الرب أو بينه وبين الخلق ، فالأول باللسان وهو الذكر ، أو بالقلب وهو المعلق بالمسجد ، أو بالبدن وهو الناشئ في العبادة . والثاني عام وهو العادل ، أو خاص بالقلب وهو التحاب ، أو بالمال وهو الصدقة ، أو بالبدن وهو العفة . وقد نظم السبعة العلامة أبو شامة عبد الرحمن بن إسماعيل فيما أنشدناه أبو إسحاق التنوخي إذنا عن أبي الهدى أحمد بن أبي شامة عن أبيه سماعا من لفظه قال :

وقال النبي المصطفى إن سبعة يظلهم الله الكريم بظله     محب عفيف ناشئ متصدق
وباك مصل والإمام بعدله

ووقع في صحيح مسلم من حديث أبي اليسر مرفوعا من أنظر معسرا أو وضع له أظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله وهاتان الخصلتان غير السبعة الماضية فدل على أن العدل المذكور لا مفهوم له . وقد ألقيت هذه المسألة على العالم شمس الدين بن عطاء الرازي المعروف بالهروي لما قدم القاهرة وادعى أنه يحفظ صحيح مسلم ، فسألته بحضرة الملك المؤيد عن هذا وعن غيره فما استحضر في ذلك شيئا ، ثم تتبعت بعد ذلك الأحاديث الواردة في مثل ذلك فزادت على عشر خصال ، وقد انتقيت منها سبعة وردت بأسانيد جياد ونظمتها في بيتين تذييلا على بيتي أبي شامة وهما : [ ص: 169 ]

وزد سبعة : إظلال غاز وعونه     وإنظار ذي عسر وتخفيف حمله
وإرفاد ذي غرم وعون مكاتب     وتاجر صدق في المقال وفعله

فأما إظلال الغازي فرواه ابن حبان وغيره من حديث عمر ، وأما عون المجاهد فرواه أحمد والحاكم من حديث سهم بن حنيف ، وأما إنظار المعسر والوضيعة عنه ففي صحيح مسلم كما ذكرنا ، وأما إرفاد الغارم وعون المكاتب فرواهما أحمد والحاكم من حديث سهل بن حنيف المذكور ، وأما التاجر الصدوق فرواه البغوي في شرح السنة من حديث سلمان وأبو القاسم التيمي من حديث أنس ، والله أعلم . ونظمته مرة أخرى فقلت في السبعة الثانية :

وتحسين خلق مع إعانة غارم     خفيف يد حتى مكاتب أهله

وحديث تحسين الخلق أخرجه الطبراني من حديث أبي هريرة بإسناد ضعيف ، ثم تتبعت ذلك فجمعت سبعة أخرى ونظمتها في بيتين آخرين وهما :

وزد سبعة : حزن ومشي لمسجد     وكره وضوء ثم مطعم فضله
وآخذ حق باذل ثم كافل     وتاجر صدق في المقال وفعله

ثم تتبعت ذلك فجمعت سبعة أخرى ، ولكن أحاديثها ضعيفة وقلت في آخر البيت : تربع به السبعات من فيض فضله . وقد أوردت الجميع في " الأمالي " ، وقد أفردته في جزء سميته " معرفة الخصال الموصلة إلى الظلال " .

قوله : ( في ظله ) قال عياض : إضافة الظل إلى الله إضافة ملك ، وكل ظل فهو ملكه . كذا قال ، وكان حقه أن يقول إضافة تشريف ، ليحصل امتياز هذا على غيره ، كما قيل للكعبة بيت الله مع أن المساجد كلها ملكه . وقيل المراد بظله كرامته وحمايته كما يقال فلان في ظل الملك ، وهو قول عيسى بن دينار وقواه عياض ، وقيل المراد ظل عرشه ، ويدل عليه حديث سلمان عند سعيد بن منصور بإسناد حسن سبعة يظلهم الله في ظل عرشه فذكر الحديث ، وإذا كان المراد ظل العرش استلزم ما ذكر من كونهم في كنف الله وكرامته من غير عكس فهو أرجح ، وبه جزم القرطبي ، ويؤيده أيضا تقييد ذلك بيوم القيامة كما صرح به . ابن المبارك في روايته عن عبيد الله بن عمر وهو عند المصنف في كتاب الحدود ، وبهذا يندفع قول من قال : المراد ظل طوبى أو ظل الجنة لأن ظلهما إنما يحصل ثم بعد الاستقرار في الجنة . ثم إن ذلك مشترك لجميع من يدخلها ، والسياق يدل على امتياز أصحاب الخصال المذكورة ، فيرجح أن المراد ظل العرش ، وروى الترمذي وحسنه من حديث أبي سعيد مرفوعا أحب الناس إلى الله يوم القيامة وأقربهم منه مجلسا إمام عادل .

قوله : ( الإمام العادل ) اسم فاعل من العدل ، وذكر ابن عبد البر أن بعض الرواة عن مالك رواه بلفظ " العدل " قال وهو أبلغ لأنه جعل المسمى نفسه عدلا ، والمراد به صاحب الولاية العظمى ، ويلتحق به كل من ولي شيئا من أمور المسلمين فعدل فيه ، ويؤيده رواية مسلم من حديث عبد الله بن عمرو رفعه أن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن ، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا وأحسن [ ص: 170 ] ما فسر به العادل أنه الذي يتبع أمر الله بوضع كل شيء في موضعه من غير إفراط ولا تفريط ، وقدمه في الذكر لعموم النفع به .

قوله : ( وشاب ) خص الشاب لكونه مظنة غلبة الشهوة لما فيه من قوة الباعث على متابعة الهوى ؛ فإن ملازمة العبادة مع ذلك أشد وأدل على غلبة التقوى .

قوله : ( في عبادة ربه ) في رواية الإمام أحمد عن يحيى القطان " بعبادة الله " وهي رواية مسلم ، وهما بمعنى ، زاد حماد بن زيد عن عبيد الله بن عمر حتى توفي على ذلك أخرجه الجوزقي . وفي حديث سلمان " أفنى شبابه ونشاطه في عبادة الله " .

قوله : ( معلق في المساجد ) هكذا في الصحيحين ، وظاهره أنه من التعليق كأنه شبهه بالشيء المعلق في المسجد كالقنديل مثلا إشارة إلى طول الملازمة بقلبه وإن كان جسده خارجا عنه ، ويدل عليه رواية الجوزقي كأنما قلبه معلق في المسجد ويحتمل أن يكون من العلاقة وهي شدة الحب ، ويدل عليه رواية أحمد " معلق بالمساجد " وكذا رواية سلمان " من حبها " وزاد الحموي والمستملي " متعلق " بزيادة مثناة بعد الميم وكسر اللام ، زاد سلمان " من حبها " وزاد مالك " إذا خرج منه حتى يعود إليه " . وهذه الخصلة هي المقصودة من هذا الحديث للترجمة ، ومناسبتها للركن الثاني من الترجمة وهو فضل المساجد ظاهرة ، وللأول من جهة ما دل عليه من الملازمة للمسجد واستمرار الكون فيه بالقلب وإن عرض للجسد عارض .

قوله : ( تحابا ) بتشديد الباء وأصله تحاببا أي اشتركا في جنس المحبة وأحب كل منهما الآخر حقيقة لا إظهارا فقط ، ووقع في رواية حماد بن زيد ورجلان قال كل منهما للآخر إني أحبك في الله فصدرا على ذلك ونحوه في حديث سلمان .

قوله : ( اجتمعا على ذلك وتفرقا عليه ) في رواية الكشميهني " اجتمعا عليه " وهي رواية مسلم أي على الحب المذكور ، والمراد أنهما داما على المحبة الدينية ولم يقطعاها بعارض دنيوي سواء اجتمعا حقيقة أم لا حتى فرق بينهما الموت . ووقع في الجمع للحميدي " اجتمعا على خير " ولم أر ذلك في شيء من نسخ الصحيحين ولا غيرهما من المستخرجات وهي عندي تحريف .

( تنبيه ) : عدت هذه الخصلة واحدة مع أن متعاطيها اثنان لأن المحبة لا تتم إلا باثنين ، أو لما كان المتحابان بمعنى واحد كان عد أحدهما مغنيا عن عد الآخر ، لأن الغرض عد الخصال لا عد جميع من اتصف بها .

قوله : ( ورجل طلبته ذات منصب ) بين المحذوف أحمد في روايته عن يحيى القطان فقال " دعته امرأة " وكذا في رواية كريمة ، ولمسلم وهو للمصنف في الحدود عن ابن المبارك ، والمراد بالمنصب الأصل أو الشرف ، وفي رواية مالك " دعته ذات حسب " وهو يطلق على الأصل وعلى المال أيضا ، وقد وصفها بأكمل الأوصاف التي جرت العادة بمزيد الرغبة لمن تحصل فيه وهو المنصب الذي يستلزمه الجاه والمال مع الجمال وقل من يجتمع ذلك فيها من النساء ، زاد ابن المبارك " إلى نفسها " وللبيهقي في الشعب من طريق أبي صالح عن أبي هريرة " فعرضت نفسها عليه " والظاهر أنها دعته إلى الفاحشة وبه جزم القرطبي ولم يحك غيره ، وقال بعضهم [ ص: 171 ] يحتمل أن تكون دعته إلى التزوج بها فخاف أن يشتغل عن العبادة بالافتتان بها ، أو خاف أن لا يقوم بحقها لشغله بالعبادة عن التكسب بما يليق بها ، والأول أظهر ، ويؤيده وجود الكناية في قوله " إلى نفسها " ولو كان المراد التزويج لصرح به ، والصبر عن الموصوفة بما ذكر من أكمل المراتب لكثرة الرغبة في مثلها وعسر تحصيلها لا سيما وقد أغنت من مشاق التوصل إليها بمراودة ونحوها .

قوله : ( فقال إني أخاف الله ) زاد في رواية كريمة " رب العالمين " والظاهر أنه يقول ذلك بلسانه إما ليزجرها عن الفاحشة أو ليعتذر إليها ، ويحتمل أن يقوله بقلبه ، قال عياض قال القرطبي : إنما يصدر ذلك عن شدة خوف من الله تعالى ومتين تقوى وحياء .

قوله : ( تصدق أخفى ) بلفظ الماضي ، قال الكرماني هو جملة حالية بتقدير قد ، ووقع في رواية أحمد " تصدق فأخفى " وكذا للمصنف في الزكاة عن مسدد عن يحيى تصدق بصدقة فأخفاها ومثله لمالك في الموطأ ، فالظاهر أن راوي الأولى حذف العاطف ، ووقع في رواية الأصيلي " تصدق إخفاء " بكسر الهمزة ممدودا على أنه مصدر أو نعت لمصدر محذوف ، ويحتمل أن يكون حالا من الفاعل أي مخفيا ، وقوله " بصدقة " نكرها ليشمل كل ما يتصدق به من قليل وكثير ، وظاهره أيضا يشمل المندوبة والمفروضة ، لكن نقل النووي عن العلماء أن إظهار المفروضة أولى من إخفائها .

قوله : ( حتى لا تعلم ) بضم الميم وفتحها .

قوله : ( شماله ما تنفق يمينه ) هكذا وقع في معظم الروايات في هذا الحديث في البخاري وغيره ، ووقع في صحيح مسلم مقلوبا حتى لا تعلم يمينه ما تنفق شماله وهو نوع من أنواع علوم الحديث أغفله ابن الصلاح وإن كان أفرد نوع المقلوب لكنه قصره على ما يقع في الإسناد ، ونبه عليه شيخنا في محاسن الاصطلاح ومثل له بحديث إن ابن أم مكتوم يؤذن بليل وقد قدمنا الكلام عليه في كتاب الأذان ، وقال شيخنا : ينبغي أن يسمى هذا النوع المعكوس . انتهى . والأولى تسميته مقلوبا فيكون المقلوب تارة في الإسناد وتارة في المتن كما قالوه في المدرج سواء ، وقد سماه بعض من تقدم مقلوبا ، قال عياض : هكذا في جميع النسخ التي وصلت إلينا من صحيح مسلم وهو مقلوب أو الصواب الأول وهو وجه الكلام لأن السنة المعهودة في الصدقة إعطاؤها باليمين ، وقد ترجم عليه البخاري في الزكاة " باب الصدقة باليمين " قال : ويشبه أن يكون الوهم فيه ممن دون مسلم بدليل قوله في رواية مالك لما أوردها عقب رواية عبيد الله بن عمر فقال بمثل حديث عبيد الله فلو كانت بينهما مخالفة لبينها كما نبه على الزيادة في قوله " ورجل قلبه معلق بالمسجد إذا خرج منه حتى يعود إليه " . انتهى .

وليس الوهم فيه ممن دون مسلم ولا منه بل هو من شيخه أو من شيخ شيخه يحيى القطان ، فإن مسلما أخرجه عن زهير بن حرب وابن نمير كلاهما عن يحيى وأشعر سياقه بأن اللفظ لزهير ، وكذا أخرجه أبو يعلى في مسنده عن زهير ، وأخرجه الجوزقي في مستخرجه عن أبي حامد بن الشرقي عن عبد الرحمن بن بشر بن الحكم عن يحيى القطان كذلك ، وعقبه بأن قال : سمعت أبا حامد بن الشرقي يقول يحيى القطان عندنا واهم في هذا ، إنما هو حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه قلت : والجزم بكون يحيى هو الواهم فيه نظر ، لأن الإمام أحمد قد رواه عنه على الصواب ، وكذلك أخرجه البخاري هنا عن محمد بن بشار وفي الزكاة عن مسدد ، وكذا أخرجه الإسماعيلي من طريق يعقوب الدورقي وحفص بن عمر وكلهم عن يحيى ، وكأن أبا حامد [ ص: 172 ] لما رأى عبد الرحمن قد تابع زهيرا ترجح عنده أن الوهم من يحيى ، وهو محتمل بأن يكون منه لما حدث به هذين خاصة ، مع احتمال أن يكون الوهم منهما تواردا عليه . وقد تكلف بعض المتأخرين توجيه هذه الرواية المقلوبة ، وليس بجيد لأن المخرج متحد ولم يختلف فيه على عبيد الله بن عمر شيخ يحيى فيه ولا على شيخه خبيب ولا على مالك رفيق عبيد الله بن عمر فيه . وأما استدلال عياض على أن الوهم فيه ممن دون مسلم بقوله في رواية مالك مثل عبيد الله فقد عكسه غيره فواخذ مسلما بقوله مثل عبيد الله لكونهما ليستا متساويتين ، والذي يظهر أن مسلما لا يقصر لفظ المثل على المساوي في جميع اللفظ والترتيب ، بل هو في المعظم إذا تساويا في المعنى ، والمعنى المقصود من هذا الموضع إنما هو إخفاء الصدقة والله أعلم ، ولم نجد هذا الحديث من وجه من الوجوه إلا عن أبي هريرة ، إلا ما وقع عند مالك من التردد هل هو عنه أو عن أبي سعيد كما قدمناه قبل ، ولم نجده عن أبي هريرة إلا من رواية حفص ، ولا عن حفص إلا من رواية خبيب . نعم أخرجه البيهقي في الشعب من طريق سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة والراوي له عن سهيل عبد الله بن عامر الأسلمي وهو ضعيف لكنه ليس بمتروك ، وحديثه حسن في المتابعات ، ووافق في قوله " تصدق بيمينه " وكذا أخرجه سعيد بن منصور من حديث سلمان الفارسي بإسناد حسن موقوفا عليه لكن حكمه الرفع . وفي مسند أحمد من حديث أنس بإسناد حسن مرفوعا إن الملائكة قالت : يا رب هل من خلقك شيء أشد من الجبال ؟ قال : نعم ، الحديد . قالت : فهل أشد من الحديد ؟ قال : نعم ، النار . قالت : فهل أشد من النار ؟ قال : نعم ، الماء . قالت : فهل أشد من الماء ؟ قال : نعم ، الريح . قالت : فهل أشد من الريح ؟ قال . نعم ، ابن آدم يتصدق بيمينه فيخفيها عن شماله ثم إن المقصود منه المبالغة في إخفاء الصدقة بحيث إن شماله مع قربها من يمينه وتلازمهما لو تصور أنها تعلم لما علمت ما فعلت اليمين لشدة إخفائها ، فهو على هذا من مجاز التشبيه . ويؤيده رواية حماد بن زيد عند الجوزقي تصدق بصدقة كأنما أخفى يمينه من شماله ويحتمل أن يكون من مجاز الحذف والتقدير حتى لا يعلم ملك شماله . وأبعد من زعم أن المراد بشماله نفسه وأنه من تسمية الكل باسم الجزء فإنه ينحل إلى أن نفسه لا تعلم ما تنفق نفسه ، وقيل هو من مجاز الحذف والمراد بشماله من على شماله من الناس كأنه قال مجاور شماله ، وقيل المراد أنه لا يرائي بصدقته فلا يكتبها كاتب الشمال ، وحكى القرطبي عن بعض مشايخه أن معناه أن يتصدق على الضعيف المكتسب في صورة الشراء لترويج سلعته أو رفع قيمتها واستحسنه ، وفيه نظر إن كان أراد أن هذه الصورة مراد الحديث خاصة ، وإن أراد أن هذا من صور الصدقة المخفية فسلم والله أعلم .

قوله : ( ذكر الله ) أي بقلبه من التذكر أو بلسانه من الذكر ، و ( خاليا ) أي من الخلو لأنه يكون حينئذ أبعد من الرياء والمراد خاليا من الالتفات إلى غير الله ولو كان في ملأ ، ويؤيده رواية البيهقي " ذكر الله بين يديه " ويؤيد الأول رواية ابن المبارك وحماد بن زيد " ذكر الله في خلاء " أي في موضع خال وهي أصح .

قوله : ( ففاضت عيناه ) أي فاضت الدموع من عينيه ، وأسند الفيض إلى العين مبالغة كأنها هي التي فاضت ، قال القرطبي : وفيض العين بحسب حال الذاكر وبحسب ما يكشف له ، ففي حال أوصاف الجلال يكون البكاء من خشية الله ، وفي حال أوصاف الجمال يكون البكاء من الشوق إليه .

قلت : قد خص في [ ص: 173 ] بعض الروايات بالأول ، ففي رواية حماد بن زيد عند الجوزقي " ففاضت عيناه من خشية الله " ونحوه في رواية البيهقي ، ويشهد له ما رواه الحاكم من حديث أنس مرفوعا من ذكر الله ففاضت عيناه من خشية الله حتى يصيب الأرض من دموعه لم يعذب يوم القيامة .

( تنبيهان ) : ( الأول ) ذكر الرجال في هذا الحديث لا مفهوم له بل يشترك النساء معهم فيما ذكر ، إلا إن كان المراد بالإمام العادل الإمامة العظمى ، وإلا فيمكن دخول المرأة حيث تكون ذات عيال فتعدل فيهم . وتخرج خصلة ملازمة المسجد لأن صلاة المرأة في بيتها أفضل من المسجد ، وما عدا ذلك فالمشاركة حاصلة لهن ، حتى الرجل الذي دعته المرأة فإنه يتصور في امرأة دعاها ملك جميل مثلا فامتنعت خوفا من الله تعالى مع حاجتها ، أو شاب جميل دعاه ملك إلى أن يزوجه ابنته مثلا فخشي أن يرتكب منه الفاحشة فامتنع مع حاجته إليه .

( الثاني ) استوعبت شرح هذا الحديث هنا وإن كان مخالفا لما شرطت لأن أليق المواضع به كتاب الرقاق ، وقد اختصرها المصنف حيث أورده فيه ، وساقه تاما في الزكاة والحدود ، فاستوفيته هنا لأن للأولية وجها من الأولوية .

التالي السابق


الخدمات العلمية