صفحة جزء
باب إثم من قتل ذميا بغير جرم

6516 حدثنا قيس بن حفص حدثنا عبد الواحد حدثنا الحسن حدثنا مجاهد عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال من قتل نفسا معاهدا لم يرح رائحة الجنة وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عاما
قوله : ( باب إثم من قتل ذميا بغير جرم ) بضم الجيم وسكون الراء ، وقد بينت في الجزية حكمة هذا القيد وأنه وإن لم يذكر في الخبر فقد عرف من قاعدة الشرع ، ووقع نصا في رواية أبي معاوية عن الحسن بن عمرو عند الإسماعيلي بلفظ : " حق " ، وللبيهقي من رواية صفوان بن سليم عن ثلاثين من أبناء أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن آبائهم عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بلفظ من قتل معاهدا له ذمة الله ورسوله .

ولأبي داود والنسائي من حديث أبي بكرة " من قتل معاهدا في غير كنهه " ، والذمي منسوب إلى الذمة وهي العهد ومنه " ذمة المسلمين واحدة " .

قوله : ( عبد الواحد ) هو ابن زياد .

قوله : ( حدثنا الحسن ) هو ابن عمرو الفقيمي بفاء ثم قاف مصغر وقد بينت حاله في كتاب الجزية .

قوله : ( مجاهد عن عبد الله بن عمرو ) هكذا في جميع الطرق بالعنعنة وقد وقع في رواية مروان بن معاوية عن الحسن بن عمرو عن مجاهد عن جنادة بن أبي أمية عن عبد الله بن عمرو فزاد فيه رجلا بين مجاهد وعبد الله [ ص: 271 ] أخرجه النسائي وابن أبي عاصم من طريقه ، وجزم أبو بكر البردنجي في كتابه في بيان المرسل أن مجاهدا لم يسمع من عبد الله بن عمرو .

قوله : ( من قتل نفسا معاهدا ) كذا ترجم بالذمي ، وأورد الخبر في المعاهد وترجم في الجزية بلفظ : " من قتل معاهدا " كما هو ظاهر الخبر ، والمراد به من له عهد مع المسلمين سواء كان بعقد جزية أو هدنة من سلطان أو أمان من مسلم ، وكأنه أشار بالترجمة هنا إلى رواية مروان بن معاوية المذكورة فإن لفظه : " من قتل قتيلا من أهل الذمة " .

وللترمذي من حديث أبي هريرة " من قتل نفسا معاهدا له ذمة الله وذمة رسوله " الحديث ، وقد ذكرت في الجزية من تابع عبد الواحد على إسقاط جنادة ، ونقلت ترجيح الدارقطني لرواية مروان لأجل الزيادة وبينت أن مجاهدا ليس مدلسا وسماعه من عبد الله بن عمرو ثابت فترجح رواية عبد الواحد لأنه توبع وانفرد مروان بالزيادة ، وقوله : " لم يرح " تقدم شرحه في الجزية ، والمراد بهذا النفي وإن كان عاما التخصيص بزمان ما لما تعاضدت الأدلة العقلية والنقلية أن من مات مسلما ولو كان من أهل الكبائر فهو محكوم بإسلامه غير مخلد في النار ومآله إلى الجنة ولو عذب قبل ذلك .

قوله : ( ليوجد ) كذا للأكثر هنا وفي رواية الكشميهني بحذف اللام .

قوله : ( أربعين عاما ) كذا وقع للجميع وخالفهم عمرو بن عبد الغفار عن الحسن بن عمرو عند الإسماعيلي فقال : " سبعين عاما " ، ومثله في حديث أبي هريرة عند الترمذي من طريق محمد بن عجلان عن أبيه عنه ولفظه : " وإن ريحها ليوجد من مسيرة سبعين خريفا " .

ومثله في رواية صفوان بن سليم المشار إليها ، ونحوه لأحمد من طريق هلال بن يساف عن رجل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - " سيكون قوم لهم عهد فمن قتل منهم رجلا لم يرح رائحة الجنة وإن ريحها ليوجد من مسيرة سبعين عاما " ، وعند الطبراني في الأوسط من طريق محمد بن سيرين عن أبي هريرة بلفظ : " من مسيرة مائة عام " ، وفي الطبراني عن أبي بكرة " خمسمائة عام " ، ووقع في الموطإ في حديث آخر " إن ريحها يوجد من مسيرة خمسمائة عام " ، وأخرجه الطبراني في المعجم الصغير من حديث أبي هريرة ، وفي حديث لجابر ذكره صاحب الفردوس " إن ريح الجنة يدرك من مسيرة ألف عام " وهذا اختلاف شديد .

وقد تكلم ابن بطال على ذلك فقال : الأربعون هي الأشد فمن بلغها زاد عمله ويقينه وندمه ، فكأنه وجد ريح الجنة التي تبعثه على الطاعة ، قال : والسبعون آخر المعترك ويعرض عندها الندم وخشية هجوم الأجل فتزداد الطاعة بتوفيق الله فيجد ريحها من المدة المذكورة ، وذكر في الخمسمائة كلاما متكلفا حاصله أنها مدة الفترة التي بين كل نبي ونبي فمن جاء في آخرها وآمن بالنبيين يكون أفضل في غيره فيجد ريح الجنة ، وقال الكرماني : يحتمل أن لا يكون العدد بخصوصه مقصودا بل المقصود المبالغة في التكثير ، ولهذا خص الأربعين والسبعين لأن الأربعين يشتمل على جميع أنواع العدد لأن فيه الآحاد وآحاده عشرة والمائة عشرات والألف مئات والسبع عدد فوق العدد الكامل وهو ستة ؛ إذ أجزاؤه بقدره وهي النصف والثلث والسدس بغير زيادة ولا نقصان ، وأما الخمسمائة فهي ما بين السماء والأرض .

قلت : والذي يظهر لي في الجمع أن يقال إن الأربعين أقل زمن يدرك به ريح الجنة من في الموقف والسبعين فوق ذلك أو ذكرت للمبالغة ، والخمسمائة ثم الألف أكثر من ذلك ، ويختلف ذلك باختلاف الأشخاص والأعمال ، فمن أدركه من المسافة البعدى أفضل ممن أدركه من المسافة القربى وبين ذلك ، وقد أشار إلى ذلك شيخنا في شرح الترمذي فقال : الجمع بين هذه الروايات أن ذلك يختلف باختلاف الأشخاص بتفاوت منازلهم ودرجاتهم . [ ص: 272 ] ثم رأيت نحوه في كلام ابن العربي فقال : ريح الجنة لا يدرك بطبيعة ولا عادة وإنما يدرك بما يخلق الله من إدراكه فتارة يدركه من شاء الله من مسيرة سبعين وتارة من مسيرة خمسمائة .

ونقل ابن بطال أن المهلب احتج بهذا الحديث على أن المسلم إذا قتل الذمي أو المعاهد لا يقتل به للاقتصار في أمره على الوعيد الأخروي دون الدنيوي ، وسيأتي البحث في هذا الحكم في الباب الذي بعده .

التالي السابق


الخدمات العلمية