صفحة جزء
باب حكم المرتد والمرتدة واستتابتهم وقال ابن عمر والزهري وإبراهيم تقتل المرتدة وقال الله تعالى كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أن الرسول حق وجاءهم البينات والله لا يهدي القوم الظالمين أولئك جزاؤهم أن عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين خالدين فيها لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا لن تقبل توبتهم وأولئك هم الضالون وقال يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين وقال إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلاوقال من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرينوقال ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة وأن الله لا يهدي القوم الكافرين أولئك الذين طبع الله على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم وأولئك هم الغافلون لا جرم يقول حقا أنهم في الآخرة هم الخاسرون إلى لغفور رحيم ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون

6524 حدثنا أبو النعمان محمد بن الفضل حدثنا حماد بن زيد عن أيوب عن عكرمة قال أتي علي رضي الله عنه بزنادقة فأحرقهم فبلغ ذلك ابن عباس فقال لو كنت أنا لم أحرقهم لنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تعذبوا بعذاب الله ولقتلتهم لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم من بدل دينه فاقتلوه
[ ص: 280 ] قوله : ( باب حكم المرتد والمرتدة ) أي هل هما سواء أم لا .

قوله : ( واستتابتهم ) كذا لأبي ذر ، وفي رواية القابسي : " واستتابتهما " وحذف للباقين لكنهم ذكروها كأبي ذر بعد ذكر الآثار عن ابن عمر وغيره . وتوجيه الأولى أنه جمع على إرادة الجنس .

قال ابن المنذر : قال الجمهور تقتل المرتدة ، وقال علي تسترق ، وقال عمر بن عبد العزيز : تباع بأرض أخرى ، وقال الثوري : تحبس ولا تقتل وأسنده عن ابن عباس قال وهو قول عطاء ، وقال أبو حنيفة : تحبس الحرة ويؤمر مولى الأمة أن يجبرها .

قوله : ( وقال ابن عمر والزهري وإبراهيم ) يعني النخعي : تقتل المرتدة ، أما قول ابن عمر فنسبه مغلطاي إلى تخريج ابن أبي شيبة ، وأما قول الزهري وإبراهيم فوصله عبد الرزاق عن معمر عن الزهري في المرأة تكفر بعد إسلامها قال : تستتاب فإن تابت وإلا قتلت ، وعن معمر عن سعيد بن أبي عروبة عن أبي معشر عن إبراهيم مثله ، وأخرجه ابن أبي شيبة من وجه آخر عن حماد بن أبي سليمان عن إبراهيم ، وأخرج سعيد بن منصور عن هشيم عن عبيدة بن مغيث عن إبراهيم قال : إذا ارتد الرجل أو المرأة عن الإسلام استتيبا فإن تابا تركا وإن أبيا قتلا .

وأخرج ابن أبي شيبة عن حفص عن عبيدة عن إبراهيم " لا يقتل " والأول أقوى فإن عبيدة ضعيف ، وقد اختلف نقله عن إبراهيم ، ومقابل قول هؤلاء حديث ابن عباس " لا تقتل النساء إذا هن ارتددن " رواه أبو حنيفة عن عاصم عن أبي رزين عن ابن عباس أخرجه ابن أبي شيبة والدارقطني ، وخالفه جماعة من الحفاظ في لفظ المتن ، وأخرج الدارقطني عن ابن المنكدر عن جابر " أن امرأة ارتدت فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقتلها " وهو يعكر على ما نقله ابن الطلاع في الأحكام أنه لم ينقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قتل مرتدة .

قوله : ( وقال الله تعالى : كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أن الرسول حق - إلى قوله - : غفور رحيم إن الذين كفروا إلى آخرها ) كذا لأبي ذر وساق الآية إلى الظالمون ، وفي رواية القابسي بعد قوله : لن تقبل توبتهم وأولئك هم الضالون ، وفي رواية النسفي كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم - الآيتين إلى قوله - : كافرين كذا عنده ، وكأنه وقع عنده خلط هذه بالتي بعدها ، وساق في رواية كريمة والأصيلي ما حذف من الآية لأبي ذر .

وقد أخرج النسائي وصححه ابن حبان عن ابن عباس : [ ص: 281 ] " كان رجل من الأنصار أسلم ثم ندم وأرسل إلى قومه فقالوا : يا رسول الله ، هل له من توبة؟ فنزلت ( كيف يهدي الله قوما - إلى قوله - : إلا الذين تابوا ) فأسلم " .

قوله : وقال يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين قال عكرمة : نزلت في شاس بن قيس اليهودي ، دس على الأنصار من ذكرهم بالحروب التي كانت بينهم فتمادوا يقتتلون ، فأتاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكرهم فعرفوا أنها من الشيطان فعانق بعضهم بعضا ثم انصرفوا سامعين مطيعين فنزلت ، أخرجه إسحاق في تفسيره مطولا . وأخرجه الطبراني من حديث ابن عباس موصولا ، وفي هذه الآية الإشارة إلى التحذير عن مصادقة أهل الكتاب إذ لا يؤمنون أن يفتنوا من صادقهم عن دينه .

قوله : وقال إن الذين آمنوا ثم كفروا إلى ( سبيلا ) كذا لأبي ذر ، وللنسفي : ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا الآية وساقها كلها في رواية كريمة . وقد استدل بها من قال لا تقبل توبة الزنديق كما سيأتي تقريره .

قوله : من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه ، وساق في رواية كريمة إلى الكافرين ووقع في رواية أبي ذر ( من يرتدد ) بدالين وهي قراءة ابن عامر ونافع ، وللباقين من القراء ورواة الصحيح من يرتد بتشديد الدال ، ويقال إن الإدغام لغة تميم والإظهار لغة الحجاز ، ولهذا قيل إنه وجد في مصحف عثمان بدالين ، وقيل بل وافق كل قارئ مصحف بلده ، فعلى هذا فهي في مصحفي المدينة والشام بدالين وفي البقية بدال واحدة .

قوله : ولكن من شرح بالكفر صدرا إلى وأولئك هم الغافلون كذا لأبي ذر وساق في رواية كريمة الآيات كلها ، وهي حجة لعدم المؤاخذة بما وقع حالة الإكراه كما سيأتي تقريره بعد هذا .

قوله : ( لا جرم ) يقول حقا أنهم في الآخرة هم الخاسرون - إلى - لغفور رحيم والمراد أن معنى لا جرم حقا وهو كلام أبي عبيدة وحذف من رواية النسفي ؛ ففيها بعد قوله صدرا الآيتين إلى قوله غفور رحيم ، وفي الآية وعيد شديد لمن ارتد مختارا لقوله تعالى : ولكن من شرح بالكفر صدرا إلى آخره .

قوله : ( ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا - إلى قوله - : وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ) كذا لأبي ذر ، وساق في رواية كريمة أيضا الآيات كلها ، والغرض منها قوله : إن استطاعوا ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر إلى آخرها فإنه يقيد مطلق ما في الآية السابقة من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم إلى آخرها .

قال ابن بطال : اختلف في استتابة المرتد فقيل يستتاب فإن تاب وإلا قتل وهو قول الجمهور ، وقيل : يجب قتله في الحال جاء ذلك عن الحسن وطاوس وبه قال أهل الظاهر .

قلت : ونقله ابن المنذر عن معاذ وعبيد بن عمير وعليه يدل تصرف البخاري فإنه استظهر بالآيات التي لا ذكر فيها للاستتابة والتي فيها أن التوبة لا تنفع ، وبعموم قوله : " من بدل دينه فاقتلوه " وبقصة معاذ التي بعدها ولم يذكر غير ذلك .

قال الطحاوي : ذهب هؤلاء إلى أن حكم من ارتد عن الإسلام حكم الحربي الذي بلغته الدعوة فإنه يقاتل من قبل أن يدعى ، قالوا : وإنما تشرع الاستتابة لمن خرج عن الإسلام لا عن بصيرة ، فأما من خرج عن بصيرة فلا .

ثم نقل عن أبي يوسف موافقتهم لكن قال : إن جاء مبادرا بالتوبة خليت سبيله ووكلت أمره إلى الله تعالى .

وعن ابن عباس وعطاء : إن كان أصله مسلما لم يستتب [ ص: 282 ] وإلا استتيب ، واستدل ابن القصار لقول الجمهور بالإجماع يعني السكوتي ؛ لأن عمر كتب في أمر المرتد : هلا حبستموه ثلاثة أيام وأطعمتموه في كل يوم رغيفا لعله يتوب فيتوب الله عليه؟ قال : ولم ينكر ذلك أحد من الصحابة كأنهم فهموا من قوله - صلى الله عليه وسلم - : من بدل دينه فاقتلوه أي إن لم يرجع ، وقد قال تعالى : فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم واختلف القائلون بالاستتابة هل يكتفى بالمرة أو لا بد من ثلاث؟ وهل الثلاث في مجلس أو في يوم أو في ثلاثة أيام؟ وعن علي : يستتاب شهرا ، وعن النخعي : يستتاب أبدا كذا نقل عنه مطلقا ، والتحقيق أنه في من تكررت منه الردة وسيأتي مزيد لذلك في الحديث الأول عند ذكر الزنادقة . ثم ذكر في الباب حديثين :

قوله : ( أيوب ) هو السختياني ، وعكرمة هو مولى ابن عباس .

قوله : ( أتي علي ) هو ابن أبي طالب ، تقدم في " باب لا يعذب بعذاب الله " من كتاب الجهاد من طريق سفيان بن عيينة عن أيوب بهذا السند أن عليا حرق قوما ، وذكرت هناك أن الحميدي رواه عن سفيان بلفظ : " حرق المرتدين " ، ومن وجه آخر عند ابن أبي شيبة : " كان أناس يعبدون الأصنام في السر " .

وعند الطبراني في الأوسط من طريق سويد بن غفلة " أن عليا بلغه أن قوما ارتدوا عن الإسلام فبعث إليهم فأطعمهم ثم دعاهم إلى الإسلام فأبوا ، فحفر حفيرة ثم أتى بهم فضرب أعناقهم ورماهم فيها ثم ألقى عليهم الحطب فأحرقهم ثم قال : صدق الله ورسوله " .

وزعم أبو المظفر الإسفرايني في " الملل والنحل " أن الذين أحرقهم علي طائفة من الروافض ادعوا فيه الإلهية وهم السبائية وكان كبيرهم عبد الله بن سبأ يهوديا ثم أظهر الإسلام وابتدع هذه المقالة ، وهذا يمكن أن يكون أصله ما رويناه في الجزء الثالث من حديث أبي طاهر المخلص من طريق عبد الله بن شريك العامري عن أبيه قال : قيل لعلي إن هنا قوما على باب المسجد يدعون أنك ربهم ، فدعاهم فقال لهم ويلكم ما تقولون؟ قالوا : أنت ربنا وخالقنا ورازقنا . فقال : ويلكم إنما أنا عبد مثلكم آكل الطعام كما تأكلون وأشرب كما تشربون ، إن أطعت الله أثابني إن شاء وإن عصيته خشيت أن يعذبني ، فاتقوا الله وارجعوا ، فأبوا ، فلما كان الغد غدوا عليه فجاء قنبر فقال : قد والله رجعوا يقولون ذلك الكلام ، فقال أدخلهم فقالوا كذلك ، فلما كان الثالث قال لئن قلتم ذلك لأقتلنكم بأخبث قتلة ، فأبوا إلا ذلك ، فقال يا قنبر ائتني بفعلة معهم مرروهم فخد لهم أخدودا بين باب المسجد والقصر وقال : احفروا فأبعدوا في الأرض ، وجاء بالحطب فطرحه بالنار في الأخدود وقال : إني طارحكم فيها أو ترجعوا ، فأبوا أن يرجعوا فقذف بهم فيها حتى إذا احترقوا قال :

إني إذا رأيت أمرا منكرا أوقدت ناري ودعوت قنبرا

وهذا سند حسن ، وأما ما أخرجه ابن أبي شيبة من طريق قتادة " أن عليا أتي بناس من الزط يعبدون وثنا فأحرقهم " فسنده منقطع ، فإن ثبت حمل على قصة أخرى ، فقد أخرج ابن أبي شيبة أيضا من طريق أيوب بن النعمان " شهدت عليا في الرحبة ، فجاءه رجل فقال : إن هنا أهل بيت لهم وثن في دار يعبدونه فقام يمشي إلى الدار فأخرجوا إليه بمثال رجل قال فألهب عليهم علي الدار " .

قوله : ( بزنادقة ) بزاي ونون وقاف جمع زنديق بكسر أوله وسكون ثانيه ، قال أبو حاتم السجستاني وغيره : الزنديق فارسي معرب أصله " زنده كرداي " يقول بدوام الدهر لأن " زنده " الحياة و " كرد " العمل ، [ ص: 283 ] ويطلق على من يكون دقيق النظر في الأمور .

وقال ثعلب : ليس في كلام العرب زنديق وإنما قالوا زندقي لمن يكون شديد التحيل ، وإذا أرادوا ما تريد العامة قالوا ملحد ودهري بفتح الدال أي يقول بدوام الدهر ، وإذا قالوها بالضم أرادوا كبر السن .

وقال الجوهري : الزنديق من الثنوية ، كذا قال ، وفسره بعض الشراح بأنه الذي يدعي أن مع الله إلها آخر ، وتعقب بأنه يلزم منه أن يطلق على كل مشرك ، والتحقيق ما ذكره من صنف في الملل أن أصل الزنادقة اتباع ديصان ثم ماني ثم مزدك الأول بفتح الدال وسكون المثناة التحتانية بعدها صاد مهملة ، والثاني بتشديد النون وقد تخفف والياء خفيفة ، والثالث بزاي ساكنة ودال مهملة مفتوحة ثم كاف ، وحاصل مقالتهم أن النور والظلمة قديمان وأنهما امتزجا فحدث العالم كله منهما ، فمن كان من أهل الشر فهو من الظلمة ومن كان من أهل الخير فهو من النور ، وأنه يجب السعي في تخليص النور من الظلمة فيلزم إزهاق كل نفس .

وإلى ذلك أشار المتنبي حيث قال في قصيدته المشهورة :

وكم لظلام الليل عندك من يد     تخبر أن المانوية تكذب

وكان بهرام جد كسرى تحيل على ماني حتى حضر عنده وأظهر له أنه قبل مقالته ثم قتله وقتل أصحابه وبقيت منهم بقايا اتبعوا مزدك المذكور ، وقام الإسلام والزنديق يطلق على من يعتقد ذلك ، وأظهر جماعة منهم الإسلام خشية القتل ، ومن ثم أطلق الاسم على كل من أسر الكفر وأظهر الإسلام حتى قال مالك : الزندقة ما كان عليه المنافقون وكذا أطلق جماعة من الفقهاء الشافعية وغيرهم أن الزنديق هو الذي يظهر الإسلام ويخفي الكفر ، فإن أرادوا اشتراكهم في الحكم فهو كذلك وإلا فأصلهم ما ذكرت .

وقد قال النووي في لغات الروضة : الزنديق الذي لا ينتحل دينا .

وقال محمد بن معن في " التنقيب على المهذب " : الزنادقة من الثنوية يقولون ببقاء الدهر وبالتناسخ ، قال ومن الزنادقة الباطنية وهم قوم زعموا أن الله خلق شيئا ثم خلق منه شيئا آخر فدبر العالم بأسره ويسمونهما العقل والنفس وتارة العقل الأول والعقل الثاني ، وهو من قول الثنوية في النور والظلمة إلا أنهم غيروا الاسمين ، قال ولهم مقالات سخيفة في النبوات وتحريف الآيات وفرائض العبادات ، وقد قيل إن سبب تفسير الفقهاء الزنديق بما يفسر به المنافق قول الشافعي في المختصر : وأي كفر ارتد إليه مما يظهر أو يسر من الزندقة وغيرها ثم تاب سقط عنه القتل ، وهذا لا يلزم منه اتحاد الزنديق والمنافق بل كل زنديق منافق من غير عكس وكان من أطلق عليه في الكتاب والسنة المنافق يظهر الإسلام ويبطن عبادة الوثن أو اليهودية ، وأما الثنوية فلا يحفظ أن أحدا منهم أظهر الإسلام في العهد النبوي ، والله أعلم .

وقد اختلف النقلة في الذين وقع لهم مع علي ما وقع على ما سأبينه ، واشتهر في صدر الإسلام الجعد بن درهم فذبحه خالد القسري في يوم عيد الأضحى ، ثم كثروا في دولة المنصور وأظهر له بعضهم معتقده فأبادهم بالقتل ، ثم ابنه المهدي فأكثر في تتبعهم وقتلهم ، ثم خرج في أيام المأمون بابك بموحدتين مفتوحتين ثم كاف مخففة الخرمي بضم المعجمة وتشديد الراء ، فغلب على بلاد الجبل وقتل في المسلمين وهزم الجيوش إلى أن ظفر به المعتصم فصلبه ، وله أتباع يقال لهم الخرمية وقصصهم في التواريخ معروفة .

قوله : ( فبلغ ذلك ابن عباس ) لم أقف على اسم من بلغه ، وابن عباس كان حينئذ أميرا على البصرة من قبل علي .

قوله : ( لنهي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا تعذبوا بعذاب الله ) أي لنهيه عن القتل بالنار لقوله : " لا تعذبوا " ، وهذا يحتمل أن يكون مما سمعه ابن عباس من النبي صلى الله عليه وسلم ، ويحتمل أن يكون سمعه من [ ص: 284 ] بعض الصحابة ، وقد تقدم في " باب لا يعذب بعذاب الله " من كتاب الجهاد من حديث أبي هريرة : " بعثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : إن وجدتم فلانا وفلانا فأحرقوهما " الحديث . وفيه " أن النار لا يعذب بها إلا الله " وبينت هناك اسمهما وما يتعلق بشرح الحديث ، وعند أبي داود عن ابن مسعود في قصة أخرى " أنه لا ينبغي أن يعذب بالنار إلا رب النار " .

قوله : ( ولقتلتهم لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم ) في رواية إسماعيل ابن علية عند أبي داود في الموضعين : " فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال " .

قوله : ( من بدل دينه فاقتلوه ) زاد إسماعيل ابن علية في روايته " فبلغ ذلك عليا فقال : ويح أم ابن عباس " ، كذا عند أبي داود وعند الدارقطني بحذف " أم " وهو محتمل أنه لم يرض بما اعترض به ورأى أن النهي للتنزيه كما تقدم بيان الاختلاف فيه ، وسيأتي في الحديث الذي يليه مذهب معاذ في ذلك وأن الإمام إذا رأى التغليظ بذلك فعله ، وهذا بناء على تفسير " ويح " بأنها كلمة رحمة فتوجع له لكونه حمل النهي على ظاهره فاعتقد التحريم مطلقا فأنكر ; ويحتمل أن يكون قالها رضا بما قال ، وأنه حفظ ما نسيه بناء على أحد ما قيل في تفسير " ويح أنها تقال بمعنى المدح والتعجب كما حكاه في النهاية ، وكأنه أخذه من قول الخليل : هي في موضع رأفة واستملاح كقولك للصبي : ويحه ما أحسنه ؛ حكاه الأزهري .

وقوله : من هو عام تخص منه من بدله في الباطن ولم يثبت عليه ذلك في الظاهر فإنه تجري عليه أحكام الظاهر ويستثنى منه من بدل دينه في الظاهر لكن مع الإكراه كما سيأتي في كتاب الإكراه بعد هذا ، واستدل به على قتل المرتدة كالمرتد ، وخصه الحنفية بالذكر وتمسكوا بحديث النهي عن قتل النساء وحمل الجمهور النهي على الكافرة الأصلية إذا لم تباشر القتال ولا القتل لقوله في بعض طرق حديث النهي عن قتل النساء لما رأى المرأة مقتولة " ما كانت هذه لتقاتل " ثم نهى عن قتل النساء ، واحتجوا أيضا بأن " من " الشرطية لا تعم المؤنث ، وتعقب بأن ابن عباس راوي الخبر قد قال : تقتل المرتدة ، وقتل أبو بكر في خلافته امرأة ارتدت والصحابة متوافرون فلم ينكر ذلك عليه أحد ، وقد أخرج ذلك كله ابن المنذر .

وأخرج الدارقطني أثر أبي بكر من وجه حسن ، وأخرج مثله مرفوعا في قتل المرتدة لكن سنده ضعيف ، واحتجوا من حيث النظر بأن الأصلية تسترق فتكون غنيمة للمجاهدين والمرتدة لا تسترق عندهم فلا غنم فيها فلا يترك قتلها .

وقد وقع في حديث معاذ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما أرسله إلى اليمن قال له : أيما رجل ارتد عن الإسلام فادعه فإن عاد وإلا فاضرب عنقه ، وأيما امرأة ارتدت عن الإسلام فادعها فإن عادت وإلا فاضرب عنقها وسنده حسن ، وهو نص في موضع النزاع فيجب المصير إليه ، ويؤيده اشتراك الرجال والنساء في الحدود كلها الزنا والسرقة وشرب الخمر والقذف .

ومن صور الزنا رجم المحصن حتى يموت فاستثني ذلك من النهي عن قتل النساء ، فكذلك يستثنى قتل المرتدة ، وتمسك به بعض الشافعية في قتل من انتقل من دين كفر إلى دين كفر سواء كان ممن يقر أهله عليه بالجزية أو لا وأجاب بعض الحنفية بأن العموم في الحديث في المبدل لا في التبديل ، فأما التبديل فهو مطلق لا عموم فيه ، وعلى تقدير التسليم فهو متروك الظاهر اتفاقا في الكافر ولو أسلم فإنه يدخل في عموم الخبر وليس مرادا ، واحتجوا أيضا بأن الكفر ملة واحدة فلو تنصر اليهودي لم يخرج عن دين الكفر ، وكذا لو تهود الوثني ، فوضح أن المراد من بدل دين الإسلام بدين غيره لأن الدين في الحقيقة هو الإسلام ، قال الله تعالى : إن الدين عند الله الإسلام وما عداه فهو بزعم المدعي .

وأما قوله تعالى : ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه فقد احتج به بعض [ ص: 285 ] الشافعية فقال : يؤخذ منه أنه لا يقر على ذلك ، وأجيب بأنه ظاهر في أن من ارتد عن الإسلام لا يقر على ذلك ، سلمنا ، لكن لا يلزم من كونه لا يقبل منه أنه لا يقر بالجزية ، بل عدم القبول والخسران إنما هو في الآخرة ، سلمنا ، أن عدم القبول يستفاد منه عدم التقرير في الدنيا لكن المستفاد أنه لا يقر عليه ، فلو رجع إلى الدين الذي كان عليه وكان مقرا عليه بالجزية فإنه يقتل إن لم يسلم مع إمكان الإمساك بأنا لا نقبل منه ولا نقتله ، ويؤيد تخصيصه بالإسلام ما جاء في بعض طرقه : فقد أخرجه الطبراني من وجه آخر عن عكرمة عن ابن عباس رفعه من خالف دينه دين الإسلام فاضربوا عنقه واستدل به على قتل الزنديق من غير استتابة وتعقب بأن في بعض طرقه كما تقدم أن عليا استتابهم ، وقد نص الشافعي كما تقدم على القبول مطلقا وقال يستتاب الزنديق كما يستتاب المرتد .

وعن أحمد وأبي حنيفة روايتان إحداهما لا يستتاب والأخرى إن تكرر منه لم تقبل توبته ، وهو قول الليث وإسحاق ، وحكي عن أبي إسحاق المروزي من أئمة الشافعية ولا يثبت عنه بل قيل إنه تحريف من إسحاق ابن راهويه والأول هو المشهور عند المالكية ، وحكى عن مالك إن جاء تائبا يقبل منه وإلا فلا ، وبه قال أبو يوسف ، واختاره الأستاذان أبو إسحاق الإسفرايني وأبو منصور البغدادي .

وعن بقية الشافعية أوجه كالمذاهب المذكورة ، وخامس يفصل بين الداعية فلا يقبل منه وتقبل توبة غير الداعية ، وأفتى ابن الصلاح بأن الزنديق إذا تاب تقبل توبته ويعزر فإن عاد بادرناه بضرب عنقه ولم يمهل ، واستدل من منع بقوله تعالى : إلا الذين تابوا وأصلحوا فقال : الزنديق لا يطلع على صلاحه لأن الفساد إنما أتى مما أسره فإذا اطلع عليه وأظهر الإقلاع عنه لم يزد على ما كان عليه ، ولقوله تعالى : إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا لم يكن الله ليغفر لهم الآية .

وأجيب بأن المراد من مات منهم على ذلك كما فسره ابن عباس فيما أخرجه ابن أبي حاتم وغيره ، واستدل لمالك بأن توبة الزنديق لا تعرف ، قال وإنما لم يقتل النبي - صلى الله عليه وسلم - المنافقين للتألف ولأنه لو قتلهم لقتلهم بعلمه فلا يؤمن أن يقول قائل إنما قتلهم لمعنى آخر ، ومن حجة من استتابهم قوله تعالى : اتخذوا أيمانهم جنة فدل على أن إظهار الإيمان يحصن من القتل ، وكلهم أجمعوا على أن أحكام الدنيا على الظاهر والله يتولى السرائر ، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - لأسامة : هلا شققت عن قلبه وقال للذي ساره في قتل رجل : " أليس يصلي؟ قال : نعم . قال : أولئك الذين نهيت عن قتلهم " .

وسيأتي قريبا أن في بعض طرق حديث أبي سعيد أن خالد بن الوليد لما استأذن في قتل الذي أنكر القسمة وقال كم من مصل يقول بلسانه ما ليس في قلبه فقال - صلى الله عليه وسلم - : إني لم أومر أن أنقب عن قلوب الناس أخرجه مسلم ، والأحاديث في ذلك كثيرة .

التالي السابق


الخدمات العلمية