صفحة جزء
6937 وحدثني عبد الله بن أبي الأسود حدثنا الفضل بن العلاء حدثنا إسماعيل بن أمية عن يحيى بن محمد بن عبد الله بن صيفي أنه سمع أبا معبد مولى ابن عباس يقول سمعت ابن عباس يقول لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل إلى نحو أهل اليمن قال له إنك تقدم على قوم من أهل الكتاب فليكن أول ما تدعوهم إلى أن يوحدوا الله تعالى فإذا عرفوا ذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في يومهم وليلتهم فإذا صلوا فأخبرهم أن الله افترض عليهم زكاة في أموالهم تؤخذ من غنيهم فترد على فقيرهم فإذا أقروا بذلك فخذ منهم وتوق كرائم أموال الناس
[ ص: 361 ] قوله : سمعت ابن عباس لما بعث ) كذا فيه بحذف . ( قال أو يقول ) وقد جرت العادة بحذفه خطا ويقال يشترط النطق به .

قوله ( لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل إلى نحو أهل اليمن ) أي إلى جهة أهل اليمن ، وهذه الرواية تقيد الرواية المطلقة بلفظ " حين بعثه إلى اليمن " فبينت هذه الرواية أن لفظ اليمن من باب حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه ، أو من إطلاق العام وإرادة الخاص ، أو لكون اسم الجنس يطلق على بعضه كما يطلق على كله ، والراجح أنه من حمل المطلق على المقيد كما صرحت به هذه الرواية ، وقد تقدم في باب بعث أبي موسى ومعاذ إلى اليمن في أواخر " المغازي " من رواية أبي بردة بن أبي موسى ، وبعث كل واحد منهما على مخلاف قال " واليمن مخلافان " وتقدم ضبط المخلاف وشرحه هناك ، ثم قوله " إلى أهل اليمن " من إطلاق الكل وإرادة البعض ؛ لأنه إنما بعثه إلى بعضهم لا إلى جميعهم ، ويحتمل أن يكون الخبر على عمومه في الدعوى إلى الأمور المذكورة وإن كانت إمرة معاذ إنما كانت على جهة من اليمن مخصوصة .

قوله ( إنك تقدم على قوم من أهل الكتاب ) هم اليهود ، وكان ابتداء دخول اليهودية اليمن في زمن أسعد ذي كرب وهو تبع الأصغر كما ذكره ابن إسحاق مطولا في السيرة ، فقام الإسلام وبعض أهل اليمن على اليهودية ، ودخل دين النصرانية إلى اليمن بعد ذلك لما غلبت الحبشة على اليمن ، وكان منهم إبرهة صاحب الفيل الذي غزا مكة وأراد هدم الكعبة حتى أجلاهم عنها سيف بن ذي يزن ، كما ذكره ابن إسحاق مبسوطا أيضا ، ولم يبق بعد ذلك باليمن أحد من النصارى أصلا إلا بنجران وهي بين مكة واليمن ، وبقي ببعض بلادها قليل من اليهود .

قوله : فليكن أول ما تدعوهم إلى أن يوحدوا الله فإذا عرفوا ذلك ) مضى في وسط الزكاة من طريق إسماعيل بن أمية عن يحيى بن عبد الله بلفظ : فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله فإذا عرفوا الله ، وكذا أخرجه مسلم عن الشيخ الذي أخرجه عنه البخاري ، وقد تمسك به من قال أول واجب المعرفة كإمام الحرمين واستدل بأنه لا يتأتى الإتيان بشيء من المأمورات على قصد الامتثال ، ولا الانكفاف عن شيء من المنهيات على قصد الانزجار إلا بعد معرفة الآمر والناهي ، واعترض عليه بأن المعرفة لا تتأتى إلا بالنظر والاستدلال ، وهو مقدمة الواجب فيجب فيكون أول واجب النظر ، وذهب إلى هذا طائفة كابن فورك ، وتعقب بأن النظر ذو أجزاء يترتب بعضها على بعض ، فيكون أول واجب جزءا من النظر وهو محكي عن القاضي أبي بكر بن الطيب وعن الأستاذ أبي إسحاق الإسفراييني أول واجب القصد إلى النظر ، وجمع بعضهم بين هذه الأقوال بأن من قال أول واجب المعرفة أراد طلبا وتكليفا ، ومن قال النظر أو القصد أراد امتثالا ؛ لأنه يسلم أنه وسيلة إلى تحصيل المعرفة ، فيدل ذلك على سبق وجوب المعرفة ، وقد ذكرت في " كتاب الإيمان " من أعرض عن هذا من أصله وتمسك بقوله تعالى فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها وحديث كل مولود يولد على الفطرة فإن ظاهر الآية والحديث أن المعرفة حاصلة بأصل الفطرة ، وأن الخروج عن ذلك يطرأ على الشخص لقوله عليه الصلاة والسلام فأبواه يهودانه وينصرانه وقد وافق أبو جعفر السمناني وهو من رءوس الأشاعرة على هذا وقال : إن هذه المسألة بقيت في مقالة الأشعري من مسائل المعتزلة ، وتفرع عليها أن الواجب على كل أحد معرفة الله بالأدلة الدالة عليه ، وأنه لا يكفي التقليد في ذلك انتهى . وقرأت في جزء من كلام شيخ شيخنا الحافظ صلاح الدين العلائي ما ملخصه : أن هذه المسألة مما تناقضت فيها المذاهب وتباينت [ ص: 362 ] بين مفرط ومفرط ومتوسط ، فالطرف الأول قول من قال يكفي التقليد المحض في إثبات وجود الله تعالى ونفي الشريك عنه ، وممن نسب إليه إطلاق ذلك عبيد الله بن الحسن العنبري وجماعة من الحنابلة والظاهرية ، ومنهم من بالغ فحرم النظر في الأدلة واستند إلى ما ثبت عن الأئمة الكبار من ذم الكلام كما سيأتي بيانه . والطرف الثاني : قول من وقف صحة إيمان كل أحد على معرفة الأدلة من علم الكلام ، ونسب ذلك لأبي إسحاق الإسفراييني ، وقال الغزالي : أسرفت طائفة فكفروا عوام المسلمين ، وزعموا أن من لم يعرف العقائد الشرعية بالأدلة التي حرروها فهو كافر ، فضيقوا رحمة الله الواسعة وجعلوا الجنة مختصة بشرذمة يسيرة من المتكلمين ، وذكر نحوه أبو المظفر بن السمعاني وأطال في الرد على قائله ، ونقل عن أكثر أئمة الفتوى أنهم قالوا : لا يجوز أن تكلف العوام اعتقاد الأصول بدلائلها ؛ لأن في ذلك من المشقة أشد من المشقة في تعلم الفروع الفقهية .

وأما المذهب المتوسط فذكره وسأذكره ملخصا بعد هذا ، وقال القرطبي في المفهم : في شرح حديث أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم الذي تقدم شرحه في أثناء " كتاب الأحكام " وهو في أوائل " كتاب العلم " من صحيح مسلم ، هذا الشخص الذي يبغضه الله هو الذي يقصد بخصومته مدافعة الحق ورده بالأوجه الفاسدة والشبه الموهمة ، وأشد ذلك الخصومة في أصول الدين ، كما يقع لأكثر المتكلمين المعرضين عن الطرق التي أرشد إليها كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وسلف أمته ، إلى طرق مبتدعة واصطلاحات مخترعة وقوانين جدلية وأمور صناعية مدار أكثرها على آراء سوفسطائية ، أو مناقضات لفظية ينشأ بسببها على الآخذ فيها شبه ربما يعجز عنها ، وشكوك يذهب الإيمان معها ، وأحسنهم انفصالا عنها أجدلهم لا أعلمهم ، فكم من عالم بفساد الشبهة لا يقوى على حلها ، وكم من منفصل عنها لا يدرك حقيقة علمها ثم إن هؤلاء قد ارتكبوا أنواعا من المحال لا يرتضيها البله ولا الأطفال ، لما بحثوا عن تحيز الجواهر والألوان والأحوال ، فأخذوا فيما أمسك عنه السلف الصالح من كيفيات تعلقات صفات الله تعالى وتعديدها واتحادها في نفسها ، وهل هي الذات أو غيرها؟ وفي الكلام : هل هو متحد أو منقسم ؟

وعلى الثاني : هل ينقسم بالنوع أو الوصف؟ ، وكيف تعلق في الأزل بالمأمور مع كونه حادثا؟ ، ثم إذا انعدم المأمور هل يبقى التعلق؟ ، وهل الأمر لزيد بالصلاة مثلا هو نفس الأمر لعمرو بالزكاة؟ إلى غير ذلك مما ابتدعوه مما لم يأمر به الشارع وسكت عنه الصحابة ومن سلك سبيلهم ، بل نهوا عن الخوض فيها لعلمهم بأنه بحث عن كيفية ما لا تعلم كيفيته بالعقل ؛ لكون العقول لها حد تقف عنده ، ولا فرق بين البحث عن كيفية الذات وكيفية الصفات ، ومن توقف في هذا فليعلم أنه إذا كان حجب عن كيفية نفسه مع وجودها ، وعن كيفية إدراك ما يدرك به فهو عن إدراك غيره أعجز ، وغاية علم العالم أن يقطع بوجود فاعل لهذه المصنوعات منزه عن الشبيه مقدس عن النظير متصف بصفات الكمال ، ثم متى ثبت النقل عنه بشيء من أوصافه وأسمائه قبلناه واعتقدناه وسكتنا عما عداه ، كما هو طريق السلف ، وما عداه لا يأمن صاحبه من الزلل ، ويكفي في الردع عن الخوض في طرق المتكلمين ما ثبت عن الأئمة المتقدمين كعمر بن عبد العزيز ومالك بن أنس والشافعي ، وقد قطع بعض الأئمة بأن الصحابة لم يخوضوا في الجوهر والعرض وما يتعلق بذلك من مباحث المتكلمين ، فمن رغب عن طريقهم فكفاه ضلالا .

قال : وأفضى الكلام بكثير من أهله إلى الشك ، وببعضهم إلى الإلحاد وببعضهم إلى التهاون بوظائف العبادات ، وسبب ذلك إعراضهم عن نصوص الشارع وتطلبهم حقائق الأمور من غيره ، وليس في قوة العقل ما يدرك ما في نصوص الشارع من الحكم التي استأثر بها ، وقد رجع كثير من أئمتهم عن طريقهم ، حتى جاء عن إمام الحرمين أنه قال " ركبت البحر الأعظم ، وغصت في كل شيء نهى عنه أهل العلم في طلب الحق فرارا من التقليد والآن فقد رجعت [ ص: 363 ] واعتقدت مذهب السلف " هذا كلامه أو معناه وعنه أنه قال عند موته " يا أصحابنا لا تشتغلوا بالكلام ، فلو عرفت أنه يبلغ بي ما بلغت ما تشاغلت به ، إلى أن قال القرطبي : ولو لم يكن في الكلام إلا مسألتان هما من مبادئه لكان حقيقا بالذم : إحداهما قول بعضهم إن أول واجب الشك إذ هو اللازم عن وجوب النظر أو القصد إلى النظر ، وإليه أشار الإمام بقوله : ركبت البحر . ثانيتهما قول جماعة منهم إن من لم يعرف الله بالطرق التي رتبوها والأبحاث التي حرروها لم يصح إيمانه ، حتى لقد أورد على بعضهم أن هذا يلزم منه تكفير أبيك وأسلافك وجيرانك ، فقال لا تشنع علي بكثرة أهل النار ، قال وقد رد بعض من لم يقل بهما على من قال بهما بطريق من الرد النظري وهو خطأ منه ، فإن القائل بالمسألتين كافر شرعا ، لجعله الشك في الله واجبا ، ومعظم المسلمين كفارا حتى يدخل في عموم كلامه السلف الصالح من الصحابة والتابعين ، وهذا معلوم الفساد من الدين بالضرورة ، وإلا فلا يوجد في الشرعيات ضروري ، وختم القرطبي كلامه بالاعتذار عن إطالة النفس في هذا الموضع لما شاع بين الناس من هذه البدعة حتى اغتر بها كثير من الأغمار فوجب بذل النصيحة ، والله يهدي من يشاء انتهى . وقال الآمدي في أبكار الأفكار : ذهب أبو هاشم من المعتزلة إلى أن من لا يعرف الله بالدليل فهو كافر ؛ لأن ضد المعرفة النكرة والنكرة كفر .

قال : وأصحابنا مجمعون على خلافه وإنما اختلفوا فيما إذا كان الاعتقاد موافقا لكن عن غير دليل ، فمنهم من قال : إن صاحبه مؤمن عاص بترك النظر الواجب ، ومنهم من اكتفى بمجرد الاعتقاد الموافق وإن لم يكن عن دليل وسماه علما ، وعلى هذا فلا يلزم من حصول المعرفة بهذا الطريق وجوب النظر ، وقال غيره : من منع التقليد وأوجب الاستدلال لم يرد التعمق في طريق المتكلمين ، بل اكتفى بما لا يخلو عنه من نشأ بين المسلمين من الاستدلال بالمصنوع على الصانع ، وغايته أنه يحصل في الذهن مقدمات ضرورية تتألف تألفا صحيحا وتنتج العلم ؛ لكنه لو سئل كيف حصل له ذلك ما اهتدى للتعبير به ، وقيل الأصل في هذا كله المنع من التقليد في أصول الدين وقد انفصل بعض الأئمة عن ذلك بأن المراد بالتقليد أخذ قول الغير بغير حجة ، ومن قامت عليه حجة بثبوت النبوة حتى حصل له القطع بها ، فمهما سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم كان مقطوعا عنده بصدقه فإذا اعتقده لم يكن مقلدا ؛ لأنه لم يأخذ بقول غيره بغير حجة ، وهذا مستند السلف قاطبة في الأخذ بما ثبت عندهم من آيات القرآن وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم فيما يتعلق بهذا الباب ، فآمنوا بالمحكم من ذلك وفوضوا أمر المتشابه منه إلى ربهم ، وإنما قال من قال إن مذهب الخلف أحكم بالنسبة إلى الرد على من لم يثبت النبوة ، فيحتاج من يريد رجوعه إلى الحق أن يقيم عليه الأدلة إلى أن يذعن فيسلم أو يعاند فيهلك ، بخلاف المؤمن فإنه لا يحتاج في أصل إيمانه إلى ذلك ، وليس سبب الأول إلا جعل الأصل عدم الإيمان فلزم إيجاب النظر المؤدي إلى المعرفة وإلا فطريق السلف أسهل من هذا كما تقدم إيضاحه من الرجوع إلى ما دلت عليه النصوص حتى يحتاج إلى ما ذكر من إقامة الحجة على من ليس بمؤمن ، فاختلط الأمر على من اشترط ذلك والله المستعان .

واحتج بعض من أوجب الاستدلال باتفاقهم على ذم التقليد ، وذكروا الآيات والأحاديث الواردة في ذم التقليد ، وبأن كل أحد قبل الاستدلال لا يدري أي الأمرين هو الهدي ، وبأن كل ما لا يصح إلا بالدليل فهو دعوى لا يعمل بها ، وبأن العلم اعتقاد الشيء على ما هو عليه من ضرورة أو استدلال وكل ما لم يكن علما فهو جهل ، ومن لم يكن عالما فهو ضال .

والجواب عن الأول أن المذموم من التقليد أخذ قول الغير بغير حجة ، وهذا ليس منه حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن الله أوجب اتباعه في كل ما يقول ، وليس العمل فيما أمر به أو نهى عنه داخلا تحت التقليد المذموم اتفاقا ، وأما من دونه ممن اتبعه في قول قاله واعتقد أنه لو لم يقله لم يقل هو به فهو المقلد المذموم ، [ ص: 364 ] بخلاف ما لو اعتقد ذلك في خبر الله ورسوله فإنه يكون ممدوحا ، وأما احتجاجهم بأن أحدا لا يدري قبل الاستدلال أي الأمرين هو الهدى فليس بمسلم ، بل من الناس من تطمئن نفسه وينشرح صدره للإسلام من أول وهلة ، ومنهم من يتوقف على الاستدلال ، فالذي ذكروه هم أهل الشق الثاني ، فيجب عليه النظر ليقي نفسه النار لقوله تعالى قوا أنفسكم وأهليكم نارا ويجب على كل من استرشده أن يرشده ويبرهن له الحق وعلى هذا مضى السلف الصالح من عهد النبي صلى الله عليه وسلم وبعده . وأما من استقرت نفسه إلى تصديق الرسول ولم تنازعه نفسه إلى طلب دليل توفيقا من الله وتيسيرا فهم الذين قال الله في حقهم ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم الآية . وقال فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام الآية وليس هؤلاء مقلدين لآبائهم ولا لرؤسائهم ؛ لأنهم لو كفر آباؤهم أو رؤساؤهم لم يتابعوهم بل يجدون النفرة عن كل من سمعوا عنه ما يخالف الشريعة وأما الآيات والأحاديث فإنما وردت في حق الكفار الذين اتبعوا من نهوا عن اتباعه وتركوا اتباع من أمروا باتباعه . وإنما كلفهم الله الإتيان ببرهان على دعواهم بخلاف المؤمنين فلم يرد قط أنه أسقط اتباعهم حتى يأتوا بالبرهان . وكل من خالف الله ورسوله فلا برهان له أصلا وإنما كلف الإتيان بالبرهان تبكيتا وتعجيزا .

وأما من اتبع الرسول فيما جاء به فقد اتبع الحق الذي أمر به وقامت البراهين على صحته ، سواء علم هو بتوجيه ذلك البرهان أم لا . وقول من قال منهم إن الله ذكر الاستدلال وأمر به مسلم لكن هو فعل حسن مندوب لكل من أطاقه ، وواجب على كل من لم تسكن نفسه إلى التصديق كما تقدم تقريره وبالله التوفيق . وقال غيره قول من قال طريقة السلف أسلم وطريقة الخلف أحكم ليس بمستقيم ؛ لأنه ظن أن طريقة السلف مجرد الإيمان بألفاظ القرآن والحديث من غير فقه في ذلك ، وأن طريقة الخلف هي استخراج معاني النصوص المصروفة عن حقائقها بأنواع المجازات ، فجمع هذا القائل بين الجهل بطريقة السلف والدعوى في طريقة الخلف ، وليس الأمر كما ظن ، بل السلف في غاية المعرفة بما يليق بالله تعالى ، وفي غاية التعظيم له والخضوع لأمره والتسليم لمراده ، وليس من سلك طريق الخلف واثقا بأن الذي يتأوله هو المراد ولا يمكنه القطع بصحة تأويله ، وأما قولهم في العلم فزادوا في التعريف عن ضرورة أو استدلال وتعريف العلم ، انتهى . عند قوله عليه : فإن أبوا إلا الزيادة فليزدادوا عن تيسير الله له ذلك وخلقه ذلك المعتقد في قلبه ، وإلا فالذي زادوه هو محل النزاع فلا دلالة فيه وبالله التوفيق . وقال أبو المظفر بن السمعاني تعقب بعض أهل الكلام قول من قال : إن السلف من الصحابة والتابعين لم يعتنوا بإيراد دلائل العقل في التوحيد بأنهم لم يشتغلوا بالتعريفات في أحكام الحوادث وقد قبل الفقهاء ذلك واستحسنوه فدونوه في كتبهم ، فكذلك علم الكلام ، ويمتاز علم الكلام بأنه يتضمن الرد على الملحدين وأهل الأهواء ، وبه تزول الشبهة عن أهل الزيغ ويثبت اليقين لأهل الحق ، وقد علم الكل أن الكتاب لم تعلم حقيقته ، والنبي لم يثبت صدقه إلا بأدلة العقل ، وأجاب : أما أولا فإن الشارع والسلف الصالح نهوا عن الابتداع وأمروا بالاتباع ، وصح عن السلف أنهم نهوا عن علم الكلام وعدوه ذريعة للشك والارتياب .

وأما الفروع فلم يثبت عن أحد منهم النهي عنها إلا من ترك النص الصحيح وقدم عليه القياس ، وأما من اتبع النص وقاس عليه فلا يحفظ عن أحد من أئمة السلف إنكار ذلك ؛ لأن الحوادث في المعاملات لا تنقضي وبالناس حاجة إلى معرفة الحكم ، فمن ثم تواردوا على استحباب الاشتغال بذلك بخلاف علم الكلام . وأما ثانيا : فإن الدين كمل لقوله تعالى اليوم أكملت لكم دينكم فإذا كان أكمله وأتمه وتلقاه الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم واعتقده من تلقى عنهم واطمأنت به [ ص: 365 ] نفوسهم فأي حاجة بهم إلى تحكيم العقول والرجوع إلى قضاياها وجعلها أصلا ، والنصوص الصحيحة الصريحة تعرض عليها فتارة يعمل بمضمونها ، وتارة تحرف عن مواضعها لتوافق العقول . وإذا كان الدين قد كمل فلا تكون الزيادة فيه إلا نقصانا في المعنى ، مثل زيادة أصبع في اليد فإنها تنقص قيمة العبد الذي يقع به ذلك ، وقد توسط بعض المتكلمين فقال : لا يكفي التقليد بل لا بد من دليل ينشرح به الصدر ، وتحصل به الطمأنينة العلمية ، ولا يشترط أن يكون بطريق الصناعة الكلامية بل يكفي في حق كل أحد بحسب ما يقتضيه فهمه انتهى . والذي تقدم ذكره من تقليد النصوص كاف في هذا القدر ، وقال بعضهم المطلوب من كل أحد التصديق الجزمي الذي لا ريب معه بوجود الله تعالى والإيمان برسله وبما جاءوا به كيفما حصل وبأي طريق إليه يوصل ، ولو كان عن تقليد محض إذا سلم من التزلزل . قال القرطبي : هذا الذي عليه أئمة الفتوى ومن قبلهم من أئمة السلف ، واحتج بعضهم بما تقدم من القول في أصل الفطرة وبما تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم الصحابة أنهما حكموا بإسلام من أسلم من جفاة العرب ممن كان يعبد الأوثان ، فقبلوا منهم الإقرار بالشهادتين ، والتزام أحكام الإسلام من غير إلزام بتعلم الأدلة ، وإن كان كثير منهم إنما أسلم لوجود دليل ما ، فأسلم بسبب وضوحه له ، فالكثير منهم قد أسلموا طوعا من غير تقدم استدلال ، بل بمجرد ما كان عندهم من أخبار أهل الكتاب بأن نبيا سيبعث وينتصر على من خالفه ، فلما ظهرت لهم العلامات في محمد صلى الله عليه وسلم بادروا إلى الإسلام ، وصدقوه في شيء قاله ودعاهم إليه من الصلاة والزكاة وغيرهما ، وكثير منهم كان يؤذن له في الرجوع إلى معاشه من رعاية الغنم وغيرها ، وكانت أنوار النبوة وبركاتها تشملهم فلا يزالون يزدادون إيمانا ويقينا . وقال أبو المظفر بن السمعاني أيضا ما ملخصه : إن العقل لا يوجب شيئا ولا يحرم شيئا ، ولا حظ له في شيء من ذلك ، ولو لم يرد الشرع بحكم ما وجب على أحد شيء ، لقوله تعالى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا وقوله لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وغير ذلك من الآيات ، فمن زعم أن دعوة رسل الله عليهم الصلاة والسلام إنما كانت لبيان الفروع ، لزمه أن يجعل العقل هو الداعي إلى الله دون الرسول ويلزمه أن وجود الرسول وعدمه بالنسبة إلى الدعاء إلى الله سواء ، وكفى بهذا ضلالا .

ونحن لا ننكر أن العقل يرشد إلى التوحيد وإنما ننكر أنه يستقل بإيجاب ذلك حتى لا يصح إسلام إلا بطريقه ، مع قطع النظر عن السمعيات لكون ذلك خلاف ما دلت عليه آيات الكتاب والأحاديث الصحيحة التي تواترت ولو بالطريق المعنوي ، ولو كان يقول أولئك لبطلت السمعيات التي لا مجال للعقل فيها أو أكثرها ، بل يجب الإيمان بما ثبت من السمعيات ، فإن عقلناه فبتوفيق الله وإلا اكتفينا باعتقاد حقيقته على وفق مراد الله سبحانه وتعالى انتهى . ويؤيد كلامه ما أخرجه أبو داود عن ابن عباس أن رجلا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنشدك الله ، آلله أرسلك أن نشهد أن لا إله إلا الله وأن ندع اللات والعزى ؟ قال : نعم فأسلم وأصله في الصحيحين في قصة ضمام بن ثعلبة ، وفي حديث عمرو بن عبسة عند مسلم أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال ما أنت ؟ قال : نبي الله . قلت : آلله أرسلك ؟ قال : نعم . قلت : بأي شيء ؟ قال : أوحد الله لا أشرك به شيئا الحديث ، وفي حديث أسامة بن زيد في قصة قتله الذي قال لا إله إلا الله فأنكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم وحديث المقداد في معناه ، وقد تقدما في " كتاب الديات " وفي كتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل وكسرى وغيرهما من الملوك يدعوهم إلى التوحيد ، إلى غير ذلك من الأخبار المتواترة التواتر المعنوي الدال على أنه صلى الله عليه وسلم لم يزد في دعائه المشركين على أن يؤمنوا بالله [ ص: 366 ] وحده ويصدقوه فيما جاء به عنه ، فمن فعل ذلك قبل منه سواء كان إذعانه عن تقدم نظر أم لا ، ومن توقف منهم نبهه حينئذ على النظر ، أو أقام عليه الحجة إلى أن يذعن أو يستمر على عناده . وقال البيهقي في " كتاب الاعتقاد " : سلك بعض أئمتنا في إثبات الصانع وحدوث العالم طريق الاستدلال بمعجزات الرسالة فإنها أصل في وجوب قبول ما دعا إليه النبي صلى الله عليه وسلم . وعلى هذا الوجه وقع إيمان الذين استجابوا للرسل ، ثم ذكر قصة النجاشي وقول جعفر بن أبي طالب له " بعث الله إلينا رسولا نعرف صدقه فدعانا إلى الله وتلا علينا تنزيلا من الله لا يشبهه شيء فصدقناه وعرفنا أن الذي جاء به الحق " الحديث بطوله ، وقد أخرجه ابن خزيمة في " كتاب الزكاة " من صحيحه من رواية ابن إسحاق وحاله معروفة وحديثه في درجة الحسن ، قال البيهقي : فاستدلوا بإعجاز القرآن على صدق النبي ، فآمنوا بما جاء به من إثبات الصانع ووجدانيته وحدوث العالم وغير ذلك مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم في القرآن وغيره ، واكتفاء غالب من أسلم بمثل ذلك مشهور في الأخبار ، فوجب تصديقه في كل شيء ثبت عنه بطريق السمع ، ولا يكون ذلك تقليدا بل هو اتباع والله أعلم . وقد استدل من اشترط النظر بالآيات والأحاديث الواردة في ذلك ، ولا حجة فيها ؛ لأن من لم يشترط النظر لم ينكر أصل النظر ، وإنما أنكر توقف الإيمان على وجود النظر بالطرق الكلامية ، إذ لا يلزم من الترغيب في النظر جعله شرطا ، واستدل بعضهم بأن التقليد لا يفيد العلم إذ لو أفاده لكان العلم حاصلا لمن قلد في قدم العالم ولمن قلد في حدوثه ، وهو محال لإفضائه إلى الجمع بين النقيضين ، وهذا إنما يتأتى في تقليد غير النبي صلى الله عليه وسلم . وأما تقليده صلى الله عليه وسلم فيما أخبر به عن ربه فلا يتناقض أصلا واعتذر بعضهم عن اكتفاء النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة بإسلام من أسلم من الأعراب من غير نظر بأن ذلك كان لضرورة المبادئ .

وأما بعد تقرر الإسلام وشهرته فيجب العمل بالأدلة ولا يخفى ضعف هذا الاعتذار والعجب أن من اشترط ذلك من أهل الكلام ينكرون التقليد وهم أول داع إليه حتى استقر في الأذهان أن من أنكر قاعدة من القواعد التي أصلوها فهو مبتدع ولو لم يفهمها ولم يعرف مأخذها وهذا هو محض التقليد فآل أمرهم إلى تكفير من قلد الرسول عليه الصلاة والسلام في معرفة الله تعالى والقول بإيمان من قلدهم وكفى بهذا ضلالا وما مثلهم إلا كما قال بعض السلف : إنهم كمثل قوم كانوا سفرا فوقعوا في فلاة ليس فيها ما يقوم به البدن من المأكول والمشروب ورأوا فيها طرقا شتى فانقسموا قسمين فقسم وجدوا من قال لهم أنا عارف بهذه الطرق وطريق النجاة منها واحدة فاتبعوني فيها تنجوا فتبعوه فنجوا ، وتخلفت عنه طائفة فأقاموا إلى أن وقفوا على أمارة ظهر لهم أن في العمل بها النجاة فعملوا بها فنجوا وقسم هجموا بغير مرشد ولا أمارة فهلكوا ، فليست نجاة من اتبع المرشد بدون نجاة من أخذ بالأمارة إن لم تكن أولى منها ، ونقلت من جزء الحافظ صلاح الدين العلائي يمكن أن يفصل فيقال : من لا أهلية له لفهم شيء من الأدلة أصلا وحصل له اليقين التام بالمطلوب إما بنشأته على ذلك أو لنور يقذفه الله في قلبه ، فإنه يكتفى منه بذلك ، ومن فيه أهلية لفهم الأدلة لم يكتف منه إلا بالإيمان عن دليل ، ومع ذلك فدليل كل أحد بحسبه وتكفي الأدلة المجملة التي تحصل بأدنى نظر ، ومن حصلت عنده شبهة وجب عليه التعلم إلى أن تزول عنه .

قال : فبهذا يحصل الجمع بين كلام الطائفة المتوسطة ، وأما من غلا فقال لا يكفي إيمان المقلد فلا يلتفت إليه ، لما يلزم منه من القول بعدم إيمان أكثر المسلمين ، وكذا من غلا أيضا فقال لا يجوز النظر في الأدلة لما يلزم منه من أن أكابر السلف لم يكونوا من أهل النظر انتهى . ملخصا . واستدل بقوله " فإذا عرفوا الله " بأن معرفة الله بحقيقة كنهه ممكنة للبشر ، فإن كان ذلك مقيدا بما عرف به [ ص: 367 ] نفسه من وجوده وصفاته اللائقة من العلم والقدرة والإرادة مثلا ، وتنزيهه عن كل نقيصة كالحدوث فلا بأس به ، فأما ما عدا ذلك فإنه غير معلوم للبشر وإليه الإشارة بقوله تعالى ولا يحيطون به علما فإذا حمل قوله " فإذا عرفوا الله " على ذلك كان واضحا مع أن الاحتجاج به يتوقف على الجزم بأنه صلى الله عليه وسلم نطق بهذه اللفظة وفيه نظر ؛ لأن القصة واحدة ورواة هذا الحديث اختلفوا : هل ورد الحديث بهذا اللفظ أو بغيره ؟ فلم يقل صلى الله عليه وسلم إلا بلفظ منها ، ومع احتمال أن يكون هذا اللفظ من تصرف الرواة لا يتم الاستدلال ، وقد بينت في أواخر " كتاب الزكاة " أن الأكثر رووه بلفظ فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، فإن هم أطاعوا لك بذلك ومنهم من رواه بلفظ فادعهم إلى أن يوحدوا الله ، فإذا عرفوا ذلك ومنهم من رواه بلفظ فادعهم إلى عبادة الله ، فإذا عرفوا الله ووجه الجمع بينهما أن المراد بالعبادة : التوحيد ، والمراد بالتوحيد : الإقرار بالشهادتين ، والإشارة بقوله ذلك إلى التوحيد ، وقوله : فإذا عرفوا الله أي عرفوا توحيد الله ، والمراد بالمعرفة الإقرار والطواعية فبذلك يجمع بين هذه الألفاظ المختلفة في القصة الواحدة وبالله التوفيق . وفي حديث ابن عباس في الفوائد غير ما تقدم : الاقتصار في الحكم بإسلام الكافر إذا أقر بالشهادتين ؛ فإن من لازم الإيمان بالله ورسوله التصديق بكل ما ثبت عنهما والتزام ذلك ، فيحصل ذلك لمن صدق بالشهادتين . وأما ما وقع من بعض المبتدعة من إنكار شيء من ذلك فلا يقدح في صحة الحكم الظاهر ؛ لأنه إن كان مع تأويل فظاهر ، وإن كان عنادا قدح في صحة الإسلام ، فيعامل بما يترتب عليه من ذلك كإجراء أحكام المرتد وغير ذلك . وفيه قبول خبر الواحد ووجوب العمل به ، وتعقب بأن مثل خبر معاذ حفته قرينة أنه في زمن نزول الوحي فلا يستوي مع سائر أخبار الآحاد ، وقد مضى في باب إجازة خبر الواحد ما يغني عن إعادته ، وفيه أن الكافر إذا صدق بشيء من أركان الإسلام كالصلاة مثلا يصير بذلك مسلما ، وبالغ من قال كل شيء يكفر به المسلم إذا جحده يصير الكافر به مسلما إذا اعتقده .

والأول أرجح كما جزم به الجمهور ، وهذا في الاعتقاد أما الفعل لو صلى فلا يحكم بإسلامه وهو أولى بالمنع ؛ لأن الفعل لا عموم له ، فيدخله احتمال العبث والاستهزاء . وفيه وجوب أخذ الزكاة ممن وجبت عليه ، وقهر الممتنع على بذلها ولو لم يكن جاحدا ، فإن كان مع امتناعه ذا شوكة قوتل ، وإلا فإن أمكن تعزيره على الامتناع عزر بما يليق به ، وقد ورد عن تعزيره بالمال حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده مرفوعا ولفظه ومن منعها - يعني الزكاة - فإنا آخذوها وشطر ماله عزمة من عزمات ربنا الحديث أخرجه أبو داود والنسائي وصححه ابن خزيمة والحاكم ، وأما ابن حبان فقال في ترجمة بهز بن حكيم : لولا هذا الحديث لأدخلته في " كتاب الثقات " وأجاب من صححه ولم يعمل به بأن الحكم الذي دل عليه منسوخ وأن الأمر كان أولا كذلك ثم نسخ ، وضعف النووي هذا الجواب من جهة أن العقوبة بالمال لا تعرف أولا حتى يتم دعوى النسخ ولأن النسخ لا يثبت إلا بشرطه كمعرفة التاريخ ولا يعرف ذلك ، واعتمد النووي ما أشار إليه ابن حبان من تضعيف بهز وليس بجيد ؛ لأنه موثق عند الجمهور حتى قال إسحاق بن منصور عن يحيى بن معين : بهز بن حكيم عن أبيه عن جده صحيح إذا كان دون بهز ثقة ، وقال الترمذي : تكلم فيه شعبة وهو ثقة عند أهل الحديث ، وقد حسن له الترمذي عدة أحاديث ، واحتج به أحمد وإسحاق والبخاري خارج الصحيح وعلق له في الصحيح ، وقال أبو عبيدة الآجري عن أبي داود وهو عندي حجة لا عند الشافعي فإن اعتمد من قلد الشافعي على هذا كفاه ، ويؤيده إطباق فقهاء الأمصار على ترك العمل به فدل على أن له معارضا راجحا ، وقول من قال بمقتضاه يعد في ندرة [ ص: 368 ] المخالف وقد دل خبر الباب أيضا على أن الذي يقبض الزكاة الإمام أو من أقامه لذلك .

وقد أطبق الفقهاء بعد ذلك على أن لأرباب الأموال الباطنة مباشرة الإخراج ، وشذ من قال بوجوب الدفع إلى الإمام وهو رواية عن مالك ، وفي القديم للشافعي نحوه على تفصيل عنهما فيه .

الحديث الثاني : حديث معاذ أيضا .

التالي السابق


الخدمات العلمية