صفحة جزء
باب قول الله تعالى ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير ولم يقل ماذا خلق ربكم وقال جل ذكره من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه وقال مسروق عن ابن مسعود إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السموات شيئا فإذا فزع عن قلوبهم وسكن الصوت عرفوا أنه الحق ونادواماذا قال ربكم قالوا الحق ويذكر عن جابر عن عبد الله بن أنيس قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول يحشر الله العباد فيناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب أنا الملك أنا الديان

7043 حدثنا علي بن عبد الله حدثنا سفيان عن عمرو عن عكرمة عن أبي هريرة يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله كأنه سلسلة على صفوان قال علي وقال غيره صفوان ينفذهم ذلك فإذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير قال علي وحدثنا سفيان حدثنا عمرو عن عكرمة عن أبي هريرة بهذا قال سفيان قال عمرو سمعت عكرمة حدثنا أبو هريرة قال علي قلت لسفيان قال سمعت عكرمة قال سمعت أبا هريرة قال نعم قلت لسفيان إن إنسانا روى عن عمرو عن عكرمة عن أبي هريرة يرفعه أنه قرأ فرغ قال سفيان هكذا قرأ عمرو فلا أدري سمعه هكذا أم لا قال سفيان وهي قراءتنا
[ ص: 462 ] قوله : باب قول الله تعالى : ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له ) وساق إلى آخر الآية ثم قال : ولم يقل ماذا خلق ربكم قال ابن بطال : استدل البخاري بهذا على أن قول الله قديم لذاته قائم بصفاته لم يزل موجودا به ولا يزال كلامه لا يشبه المخلوقين ، خلافا للمعتزلة التي نفت كلام الله ، وللكلابية في قولهم هو كناية عن الفعل والتكوين ، وتمسكوا بقول العرب قلت بيدي هذا " أي حركتها ، واحتجوا بأن الكلام لا يعقل إلا بأعضاء ولسان ، والباري منزه عن ذلك ، فرد عليهم البخاري بحديث الباب والآية ، وفيه أنهم إذا ذهب عنهم الفزع قالوا لمن فوقهم : ماذا قال ربكم ، فدل ذلك على أنهم سمعوا قولا لم يفهموا معناه من أجل فزعهم فقالوا : " ماذا قال " ولم يقولوا : ماذا خلق وكذا أجابهم من فوقهم من الملائكة بقولهم " قالوا الحق ، والحق أحد صفتي الذات التي لا يجوز عليها غيره ؛ لأنه لا يجوز على كلامه الباطل ، فلو كان خلقا أو فعلا لقالوا : خلق خلقا إنسانا أو غيره ، فلما وصفوه بما يوصف به الكلام لم يجز أن يكون القول بمعنى التكوين انتهى . وهذا الذي نسبه للكلابية بعيد من كلامهم ، وإنما هو كلام بعض المعتزلة ، فقد ذكر البخاري في خلق أفعال العباد عن أبي عبيد القاسم بن سلام أن المريسي قال في قوله تعالى إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون هو كقول العرب : قالت السماء فأمطرت ، وقال الجدار هكذا إذا مال ، فمعناه قوله إذا أردناه : إذا كوناه ، وتعقبه أبو عبيد بأنه أغلوطة ؛ لأن القائل إذا قال : قالت السماء لم يكن كلاما صحيحا حتى يقول فأمطرت ، بخلاف من يقول قال الإنسان فإنه يفهم منه أنه قال كلاما ، فلولا قوله فأمطرت لكان الكلام باطلا ؛ لأن السماء لا قول لها فإلى هذا أشار البخاري ، وهذا أول باب تكلم فيه البخاري على مسألة الكلام وهي طويلة الذيل ، قد أكثر أئمة الفرق فيها القول ، وملخص ذلك قال البيهقي في " كتاب الاعتقاد " : القرآن كلام الله وكلام الله صفة من صفات ذاته ، وليس شيء من صفات ذاته مخلوقا ولا محدثا ولا حادثا . قال تعالى إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون فلو كان القرآن مخلوقا لكان مخلوقا بكن ويستحيل أن يكون قول الله لشيء بقول ؛ لأنه يوجب قولا ثانيا وثالثا فيتسلسل وهو فاسد ، وقال الله تعالى الرحمن علم القرآن خلق الإنسان فخص القرآن بالتعليم ؛ لأنه كلامه وصفته ، وخص الإنسان بالتخليق ؛ لأنه خلقه ومصنوعه ، ولولا ذلك لقال : خلق القرآن والإنسان ، وقال الله تعالى وكلم الله موسى تكليما ولا يجوز أن يكون كلام المتكلم قائما بغيره ، وقال الله تعالى وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا الآية ، فلو كان لا يوجد إلا مخلوقا في شيء مخلوق لم يكن لاشتراط الوجوه المذكورة في الآية معنى لاستواء جميع الخلق في سماعه عن غير الله فبطل قول الجهمية " إنه مخلوق في غير الله " ويلزمهم في قولهم " إن الله خلق كلاما في شجرة كلم به موسى " أن يكون من سمع كلام الله من ملك أو نبي أفضل في سماع الكلام من موسى ، ويلزمهم أن تكون الشجرة هي المتكلمة بما ذكر الله أنه كلم به موسى وهو قوله إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وقد أنكر الله تعالى قول المشركين إن هذا إلا قول البشر ، ولا يعترض بقوله تعالى إنه لقول رسول كريم ؛ لأن معناه قول تلقاه عن رسول كريم كقوله تعالى فأجره حتى يسمع كلام الله ولا بقوله [ ص: 463 ] إنا جعلناه قرآنا عربيا ؛ لأن معناه سميناه قرآنا ، وهو كقوله وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون وقوله ويجعلون لله ما يكرهون وقوله ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث فالمراد أن تنزيله إلينا هو المحدث لا الذكر نفسه ، وبهذا احتج الإمام أحمد ثم ساق البيهقي حديث نيار - بكسر النون وتخفيف التحتانية - ابن مكرم أن أبا بكر قرأ عليهم سورة الروم فقالوا : هذا كلامك أو كلام صاحبك ، قال ليس كلامي ولا كلام صاحبي ولكنه كلام الله ، وأصل هذا الحديث أخرجه الترمذي مصححا ، وعن علي بن أبي طالب ما حكمت مخلوقا ، ما حكمت إلا القرآن ، ومن طريق سفيان بن عيينة سمعت عمرو بن دينار وغيره من مشيختنا يقولون : القرآن كلام الله ليس بمخلوق ، وقال ابن حزم في الملل والنحل : أجمع أهل الإسلام على أن الله تعالى كلم موسى ، وعلى أن القرآن كلام الله وكذا غيره من الكتب المنزلة والصحف ، ثم اختلفوا فقالت المعتزلة : إن كلام الله صفة فعل مخلوقة وأنه كلم موسى بكلام أحدثه في الشجرة ، وقال أحمد ومن تبعه : كلام الله هو علمه لم يزل وليس بمخلوق ، وقالت الأشعرية كلام الله صفة ذات لم يزل وليس بمخلوق وهو غير علم الله وليس لله إلا كلام واحد ، واحتج لأحمد بأن الدلائل القاطعة قامت على أن الله لا يشبهه شيء من خلقه بوجه من الوجوه فلما كان كلامنا غيرنا ، وكان مخلوقا وجب أن يكون كلامه سبحانه وتعالى ليس غيره وليس مخلوقا ، وأطال في الرد على المخالفين لذلك وقال غيره : اختلفوا فقالت الجهمية والمعتزلة وبعض الزيدية والإمامية وبعض الخوارج : كلام الله مخلوق خلقه بمشيئته وقدرته في بعض الأجسام كالشجرة حين كلم موسى ، وحقيقته قولهم : إن الله لا يتكلم وإن نسب إليه ذلك فبطريق المجاز ، وقالت المعتزلة يتكلم حقيقة لكن يخلق ذلك الكلام في غيره وقالت الكلابية : الكلام صفة واحدة قديمة العين لازمة لذات الله كالحياة ، وأنه لا يتكلم بمشيئته وقدرته وتكليمه لمن كلمه إنما هو خلق إدراك له يسمع به الكلام ونداؤه لموسى لم يزل لكنه أسمعه ذلك النداء حين ناجاه ويحكى عن أبي منصور الماتريدي من الحنفية نحوه لكن قال : خلق صوتا حين ناداه فأسمعه كلامه ، وزعم بعضهم أن هذا هو مراد السلف الذين قالوا : إن القرآن ليس بمخلوق ، وأخذ بقول ابن كلاب القابسي والأشعري وأتباعهما وقالوا : إذا كان الكلام قديما لعينه لازما لذات الرب وثبت أنه ليس بمخلوق فالحروف ليست قديمة ؛ لأنها متعاقبة ، وما كان مسبوقا بغيره لم يكن قديما ، والكلام القديم معنى قائم بالذات لا يتعدد ولا يتجزأ بل هو معنى واحد إن عبر عنه بالعربية فهو قرآن أو بالعبرانية فهو توراة مثلا وذهب بعض الحنابلة وغيرهم إلى أن القرآن العربي كلام الله وكذا التوراة ، وأن الله لم يزل متكلما إذا شاء وأنه تكلم بحروف القرآن وأسمع من شاء من الملائكة والأنبياء صوته ، وقالوا : إن هذه الحروف والأصوات قديمة العين لازمة الذات ليست متعاقبة بل لم تزل قائمة بذاته مقترنة لا تسبق والتعاقب إنما يكون في حق المخلوق بخلاف الخالق ، وذهب أكثر هؤلاء إلى أن الأصوات والحروف هي المسموعة من القارئين ، وأبى ذلك كثير منهم فقالوا ليست هي المسموعة من القارئين ، وذهب بعضهم إلى أنه متكلم بالقرآن العربي بمشيئته وقدرته بالحروف والأصوات القائمة بذاته وهو غير مخلوق لكنه في الأزل لم يتكلم لامتناع وجود الحادث في الأزل ، فكلامه حادث في ذاته لا محدث ، وذهب الكرامية إلى أنه حادث في ذاته ومحدث ، وذكر الفخر الرازي في المطالب العالية أن قول من قال : إنه تعالى متكلم بكلام يقوم بذاته وبمشيئته واختياره هو أصح الأقوال نقلا وعقلا ، وأطال في تقرير ذلك ، والمحفوظ عن جمهور السلف ترك الخوض في ذلك والتعمق فيه والاقتصار على القول بأن القرآن كلام الله وأنه غير مخلوق ثم السكوت عما وراء ذلك ، وسيأتي الكلام على مسألة اللفظ حيث ذكره المصنف بعد إن شاء الله تعالى .

قوله ( وقال جل ذكره : من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه ) زعم ابن بطال أنه أشار بذلك إلى سبب [ ص: 464 ] النزول ؛ لأنه جاء أنهم لما قالوا : شفعاؤنا عند الله الأصنام نزلت . فأعلم الله أن الذين يشفعون عنده من الملائكة والأنبياء إنما يشفعون فيمن يشفعون فيه بعد إذنه لهم في ذلك انتهى . ولم أقف على نقل في هذه الآية بخصوصها وأظن البخاري أشار بهذا إلى ترجيح قول من قال : إن الضمير في قوله " عن قلوبهم " للملائكة وأن فاعل الشفاعة في قوله " ولا تنفع الشفاعة " هم الملائكة بدليل قوله بعد وصف الملائكة ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون بخلاف قول من زعم أن الضمير للكفار المذكورين في قوله تعالى ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه كما نقله بعض المفسرين ، وزعم أن المراد بالتفزيع حالة مفارقة الحياة ، ويكون اتباعهم إياه مستصحبا إلى يوم القيامة على طريق المجاز والجملة من قوله قل ادعوا إلى آخره معترضة ، وحمل هذا القائل على هذا الزعم أن قوله حتى إذا فزع عن قلوبهم غاية لا بد لها من مغيا فادعى أنه ما ذكره ، وقال بعض المفسرين من المعتزلة : المراد بالزعم الكفر في قوله تعالى زعمتم أي تماديتم في الكفر إلى غاية التفزيع ، ثم تركتم زعمكم وقلتم قال الحق وفيه التفات من الخطاب إلى الغيبة ، ويفهم من سياق الكلام أن هناك فزعا ممن يرجو الشفاعة هل يؤذن له بالشفاعة أو لا ؟ فكأنه قال : يتربصون زمانا فزعين حتى إذا كشف الفزع عن الجميع بكلام يقول الله في إطلاق الإذن تباشروا بذلك ، وسأل بعضهم بعضا ماذا قال ربكم قالوا الحق ، أي القول الحق وهو الإذن في الشفاعة لمن ارتضى . قلت : وجميع ذلك مخالف لهذا الحديث الصحيح والأحاديث كثيرة تؤيده قد ذكرت بعضها في تفسير سورة سبإ وسأشير إليها هنا بعد ، والصحيح في إعرابها ما قاله ابن عطية وهو أن المغيا محذوف كأنه قيل : ولا هم شفعاء كما تزعمون بل هم عنده ممتثلون لأمره إلى أن يزول الفزع عن قلوبهم ، والمراد بهم الملائكة وهو المطابق للأحاديث الواردة في ذلك فهو المعتمد ، وأما اعتراض من تعقبه بأنهم لم يزالوا منقادين فلا يلزم منه دفع ما تأوله لكن حق العبارة أن يقول : بل هم خاضعون لأمره مرتقبون لما يأتيهم من قبله خائفون أن يكون ذلك من أمر الساعة إلى أن يكشف عنهم ذلك بإخبار جبريل بما أمر به من إبلاغ الوحي للرسل وبالله التوفيق . ثم ذكر فيه ستة أحاديث .

الحديث الأول : قوله ( وقال مسروق عن ابن مسعود إذا تكلم الله تبارك وتعالى بالوحي سمع أهل السماوات ، فإذا فزع عن قلوبهم وسكن الصوت عرفوا أنه الحق ونادوا ماذا قال ربكم ؟ قالوا الحق ) ووقع في رواية الكشميهني " وثبت " بمثلثة وموحدة مفتوحين بدل " وسكن " هكذا ذكر هذا التعليق مختصرا ، وقد وصله البيهقي في الأسماء والصفات من طريق أبي معاوية عن الأعمش عن " مسلم بن صبيح " وهو أبو الضحى عن مسروق ، وهكذا أخرجه أحمد عن أبي معاوية ولفظه إن الله عز وجل إذا تكلم بالوحي سمع أهل السماء للسماء صلصلة كجر السلسلة على الصفاء فيصعقون ، فلا يزالون كذلك حتى يأتيهم جبريل ، فإذا جاءهم جبريل فزع عن قلوبهم قال : ويقولون يا جبريل ماذا قال ربكم قال فيقول الحق ، قال فينادون الحق الحق . قال البيهقي : رواه أحمد بن شريح الرازي ، وعلي بن إشكاب وعلي بن مسلم ثلاثتهم عن أبي معاوية مرفوعا أخرجه أبو داود في السنن عنهم ولفظه مثله إلا أنه قال فيقولون : ماذا قال ربك؟ قال : ورواه شعبة عن الأعمش موقوفا وجاء عنه مرفوعا أيضا . قلت : هكذا رواه الحسن بن محمد الزعفراني عن أبي معاوية مرفوعا ، وأخرجه البخاري في كتاب خلق أفعال العباد من رواية أبي حمزة السكري عن الأعمش بهذا السند إلى مسروق قال : من كان يحدثنا بتفسير هذه الآية لولا ابن مسعود سألناه عنه فذكره موقوفا باللفظ المذكور في الصحيح ، ثم ساقه من طريق حفص بن غياث عن الأعمش قال بهذا ، وأخرجه ابن أبي حاتم في كتاب الرد على الجهمية عن علي بن إشكاب مرفوعا ، وقال هكذا حدث به [ ص: 465 ] أبو معاوية مسندا ووجدته بالكوفة موقوفا ، ثم أخرجه من رواية عبد الله بن نمير وشعبة كلاهما عن الأعمش موقوفا ، ومن رواية شعبة عن منصور والأعمش معا ومن رواية الثوري عن منصور كذلك ، وهكذا رواه عبد الرحمن بن محمد المحاربي وجرير عن الأعمش موقوفا ، ورواه فضيل بن عياض عن منصور عن أبي الضحى ، ورواه الحسن بن عبيد الله النخعي عن أبي الضحى مرفوعا ، وأخرجه ابن أبي حاتم من طريق السدي عن أبي مالك عن مسروق كذلك ، وأغفل أبو الحسن بن الفضل في الجزء الذي جمعه في الكلام على أحاديث الصوت هذه الطرق كلها ، واقتصر على طريق البخاري فنقل كلام من تكلم فيه ، وأسند إلى أن الجرح مقدم على التعديل وفيه نظر ؛ لأنه ثقة مخرج حديثه في الصحيحين ولم ينفرد به ، وقد نقل ابن دقيق العيد عن ابن المفضل وكان شيخ والده أنه كان يقول فيمن خرج له في الصحيحين : هذا جاز القنطرة ، وقرر ابن دقيق العيد ذلك بأن من اتفق الشيخان على التخريج لهم ثبتت عدالتهم بالاتفاق بطريق الاستلزام لاتفاق العلماء على تصحيح ما أخرجاه ومن لازمه عدالة رواته إلى أن تتبين العلة القادحة بأن تكون مفسرة ولا تقبل التأويل .

قوله : سمع أهل السماوات ) في رواية أبي داود وغيره : سمع أهل السماء للسماء صلصلة كجر السلسلة على الصفا " ولبعضهم " الصفوان " بدل " الصفا ، وفي رواية الثوري " الحديد " بدل " السلسلة " وفي رواية شيبان بن عبد الرحمن عن منصور عند ابن أبي حاتم " مثل صوت السلسلة وعنده من رواية عامر الشعبي عن ابن مسعود : سمع من دونه صوتا كجر السلسلة " ووقع في حديث النواس بن سمعان عند ابن أبي حاتم " إذا تكلم الله بالوحي أخذت السماوات منه رجفة " أو قال " رعدة شديدة من خوف الله ، فإذا سمع ذلك أهل السماوات صعقوا وخروا لله سجدا " وكذا وقع قوله " ويخرون سجدا " في رواية أبي مالك وكذا في رواية سفيان وابن نمير المشار إليها ، ووقع في رواية شعبة " فيرون أنه من أمر الساعة فيفزعون " .

الحديث الثاني : قوله ( ويذكر عن جابر بن عبد الله عن عبد الله بن أنيس ) بنون مهملة مصغر هو الجهني كما تقدم في " كتاب العلم " وأن الحديث الموقوف هناك طرف من هذا الحديث المرفوع ، وتقدم بيان الحكمة في إيراده هناك بصيغة الجزم وهنا بصيغة التمريض ، وساق هنا من الحديث بعضه وأخرجه بتمامه في الأدب المفرد ، وكذا أخرجه أحمد وأبو يعلى والطبراني كلهم من طريق همام بن يحيى عن القاسم بن عبد الواحد المكي عن عبد الله بن محمد بن عقيل أنه سمع جابر بن عبد الله يقول فذكر القصة ، وأول المتن المرفوع يحشر الله الناس يوم القيامة - أو قال - العباد ، عراة غرلا بهما ، قال قلنا : وما بهما ؟ قال : ليس معهم شيء ، ثم يناديهم فذكره وزاد بعد قوله الديان " لا ينبغي لأحد من أهل النار أن يدخل النار وله عند أحد من أهل الجنة حق حتى أقصه منه ، ولا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة ولأحد من أهل النار عنده حق حتى أقصه منه حتى اللطمة ، قال قلنا : كيف ؟ وإنا إنما نأتي عراة بهما ، قال الحسنات والسيئات لفظ أحمد عن يزيد بن هارون عن همام وعبيد الله بن محمد بن عقيل مختلف في الاحتجاج به وقد أشرت إلى ذكر من تابعه في " كتاب العلم ، وقوله " غرلا " بضم المعجمة وسكون الراء ، وقد تقدم بيانه في الرقاق في شرح حديث ابن عباس وفيه " حفاة " بدل قوله " بهما " وهو بضم الموحدة وسكون الهاء ، وقيل معناه الذين لا شيء معهم ، وقيل المجهولون ، وقيل المتشابهو الألوان ، والأول الموافق لما هنا .

قوله : فيناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب ) حمله بعض الأئمة على مجاز الحذف أي يأمر من ينادي واستبعده بعض من أثبت الصوت بأن في قوله يسمعه من بعد إشارة إلى أنه ليس من المخلوقات ؛ لأنه لم [ ص: 466 ] يعهد مثل هذا فيهم وبأن الملائكة إذا سمعوه صعقوا كما سيأتي في الكلام على الحديث الذي بعده ، وإذا سمع بعضهم بعضا لم يصعقوا ، قال فعلى هذا فصفاته صفة من صفات ذاته لا تشبه صوت غيره إذ ليس يوجد شيء من صفاته من صفات المخلوقين ، هكذا قرره المصنف في كتاب خلق أفعال العباد ، وقال غيره : معنى يناديهم يقول ، وقوله بصوت أي مخلوق غير قائم بذاته ، والحكمة في كونه خارقا لعادة الأصوات المخلوقة المعتادة التي يظهر التفاوت في سماعها بين البعيد والقريب هي أن يعلم أن المسموع كلام الله كما أن موسى لما كلمه الله كان يسمعه من جميع الجهات ، وقال البيهقي : الكلام ما ينطق به المتكلم وهو مستقر في نفسه كما جاء في حديث عمر يعني في قصة السقيفة ، وقد تقدم سياقه في كتاب الحدود ، وفيه : وكنت زورت في نفسي مقالة ، وفي رواية : هيأت في نفسي كلاما ، قال : فسماه كلاما قبل التكلم به ، قال : فإن كان المتكلم ذا مخارج سمع كلامه ذا حروف وأصوات ، وإن كان غير ذي مخارج فهو بخلاف ذلك ، والباري عز وجل ليس بذي مخارج ، فلا يكون كلامه بحروف وأصوات ، فإذا فهمه السامع تلاه بحروف وأصوات ، ثم ذكر حديث جابر عن عبد الله بن أنيس وقال : اختلف الحفاظ في الاحتجاج بروايات ابن عقيل لسوء حفظه ولم يثبت لفظ الصوت في حديث صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم غير حديثه فإن كان ثابتا فإنه يرجع إلى غيره ، كما في حديث ابن مسعود يعني الذي قبله ، وفي حديث أبي هريرة يعني الذي بعده : أن الملائكة يسمعون عند حصول الوحي صوتا فيحتمل أن يكون الصوت للسماء أو للملك الآتي بالوحي أو لأجنحة الملائكة ، وإذا احتمل ذلك لم يكن نصا في المسألة ، وأشار في موضع آخر أن الراوي أراد فينادي نداء فعبر عنه بقوله " بصوت " انتهى . وهذا حاصل كلام من ينفي الصوت من الأئمة ويلزم منه أن الله لم يسمع أحدا من ملائكته ورسله كلامه بل ألهمهم إياه ، وحاصل الاحتجاج للنفي الرجوع إلى القياس على أصوات المخلوقين ؛ لأنها التي عهد أنها ذات مخارج ، ولا يخفى ما فيه إذ الصوت قد يكون من غير مخارج كما أن الرؤية قد تكون من غير اتصال أشعة كما سبق سلمنا ، لكن تمنع القياس المذكور ، وصفات الخالق لا تقاس على صفة المخلوق ، وإذا ثبت ذكر الصوت بهذه الأحاديث الصحيحة وجب الإيمان به ثم ، إما التفويض وإما التأويل وبالله التوفيق .

قوله : الديان ) قال الحليمي هو مأخوذ من قوله " ملك يوم الدين ، وهو المحاسب المجازي لا يضيع عمل عامل انتهى . ووقع في مرسل أبي قلابة البر لا يبلى والإثم لا ينسى والديان لا يموت وكن كما شئت كما تدين تدان ورجاله ثقات أخرجه البيهقي في الزهد ، وقد تقدمت الإشارة إليه في تفسير سورة الفاتحة ، وقال الكرماني : المعنى لا ملك إلا أنا ولا مجازي إلا أنا ، وهو من حصر المبتدأ في الخبر وفي هذا اللفظ إشارة إلى صفة الحياة والعلم والإرادة والقدرة وغيرها من الصفات المتفق عليها عند أهل السنة ، وقوله في آخر الحديث قال " الحسنات والسيئات " يعني أن القصاص بين المتظالمين إنما يقع بالحسنات والسيئات ، وقد تقدم بيان ذلك في الرقاق ، وتقدم أيضا من حديث أبي هريرة مرفوعا " قبل أخيه مظلمة " .

الحديث الثالث : ( حدثنا علي بن عبد الله ) هو المديني " وسفيان " هو ابن عيينة وقد تقدم بهذا السند والمتن في تفسير سورة الحجر وسياقه هناك أتم ، وتقدم معظم شرحه هناك .

قوله ( يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم ) في رواية الحميدي عن سفيان كما تقدم في تفسير سورة سبأ " أن النبي صلى الله عليه وسلم قال .

[ ص: 467 ] قوله : إذا قضى الله الأمر في السماء ) وقع في حديث ابن مسعود المذكور أولا " إذا تكلم الله بالوحي " وكذا في حديث النواس بن سمعان عند الطبراني .

قوله ( ضربت الملائكة بأجنحتها ) في حديث ابن مسعود " سمع أهل السماء الصلصلة " .

قوله : خضعانا ) مصدر كقوله غفرانا قاله الخطابي ، وقال غيره هو جمع خاضع .

قوله ( قال علي ) هو ابن المديني ( وقال غيره صفوان ينفذهم ) قال عياض ضبطوه بفتح الفاء من " صفوان " ، وليس له معنى وإنما أراد لغير المبهم ، قوله " ينفذهم وهو بفتح أوله وضم الفاء أي يعمهم . قلت : وكذا أخرجه ابن أبي حاتم عن محمد بن عبد الله بن زيد عن سفيان بن عيينة بهذه الزيادة ولكن لا يفسر به الغير المذكور ؛ لأن المراد به غير سفيان ، وذكره الكرماني بلفظ " صفوان " ينفذ فيهم ذلك بزيادة لفظ الإنفاذ أي ينفذ الله ذلك القول إلى الملائكة ، أو من النفوذ أي ينفذ ذلك إليهم أو عليهم ، ثم قال ويحتمل أن يراد غير سفيان ، قال : إن " صفوان " بفتح الفاء فالاختلاف في الفتح والسكون ، و ينفذهم غير مختص بالغير بل مشترك بين سفيان وغيره انتهى . وسياق علي في هذه الرواية يخالف هذا الاحتمال لكن قد وقعت زيادة " ينفذهم " في الرواية التي ذكرتها وهي عن سفيان فيقوى ما قال .

قوله : ( قال علي وحدثنا سفيان - إلى قوله - قال نعم ) " علي " هو ابن المديني المذكور ، ومراده أن ابن عيينة كان يسوق السند مرة بالعنعنة ومرة بالتحديث والسماع فاستثبته علي من ذلك فقال نعم ، وقد تقدم عن علي بن عبد الله المذكور في تفسير سورة الحجر بصيغة التصريح في جميع السند ، وكذا عن الحميدي عن سفيان في تفسير سبإ .

قوله : قال علي ) هو ابن المديني أيضا .

قوله ( إن إنسانا روى عن عمرو بن دينار - إلى أن قال - أنه فرغ ) هو بالراء المهملة والغين المعجمة وزن القراءة المشهورة ، وقد ذكرت في تفسير سورة سبإ من قرأها كذلك ووقع للأكثر هنا كالقراءة المشهورة والسياق يؤيد الأول ، وقوله قال سفيان هكذا قرأ " عمرو " يعني ابن دينار .

قوله ( فلا أدري سمعه هكذا أم لا ) أي سمعه من عكرمة أو قرأها كذلك من قبل نفسه بناء على أنها قراءته وقول سفيان وهي قراءتنا يريد نفسه ومن تابعه .

( تنبيه ) :

وقع في تفسير سورة الحجر بالسند المذكور هنا بعد قوله " وهو العلي الكبير " فسمعها مسترقو السمع هكذا إلى آخر ما ذكر من ذلك ، وهذا مما يبين أن التفزيع المذكور يقع للملائكة وأن الضمير في قلوبهم للملائكة لا للكفار بخلاف ما جزم به من قدمت ذكره من المفسرين ، وقد وقع في حديث النواس بن سمعان الذي أشرت إليه ما نصه أخذت أهل السماوات منه رعدة خوفا من الله وخروا سجدا ، فيكون أول من يرفع رأسه جبريل فيكلمه الله بما أراد فيمضي به على الملائكة من سماء إلى سماء وفي حديث ابن عباس عند ابن خزيمة وابن مردويه كمر السلسلة على الصفوان فلا ينزل على أهل السماء إلا صعقوا إذا فزع عن قلوبهم إلى آخر الآية ثم يقول : يكون العام كذا فيسمعه الجن ، وعند ابن مردويه من طريق بهز بن حكيم عن أبيه عن جده لما نزل جبريل بالوحي فزع أهل السماء لانحطاطه ، وسمعوا صوت الوحي كأشد ما يكون من صوت الحديد على الصفا [ ص: 468 ] فيقولون : يا جبريل بم أمرت الحديث وعنده وعند ابن أبي حاتم من طريق عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس لم تكن قبيلة من الجن إلا ولهم مقاعد للسمع ، فكان إذا نزل الوحي سمع الملائكة صوتا كصوت الحديدة ألقيتها على الصفا فإذا سمعت الملائكة ذلك خروا سجدا ، فلم يرفعوا حتى ينزل فإذا نزل قالوا : ماذا قال ربكم ؟ فإن كان مما يكون في السماء قالوا الحق ، وإن كان مما يكون في الأرض من غيث أو موت تكلموا فيه فسمعت الشياطين فينزلون على أوليائهم من الإنس وفي لفظ فيقولون يكون العام كذا فيسمعه الجن فتحدثه الكهنة ، وفي لفظ " ينزل الأمر إلى السماء الدنيا له وقعة كوقع السلسلة على الصخرة فيفزع له جميع أهل السماوات " الحديث ، فهذه الأحاديث ظاهرة جدا في أن ذلك وقع في الدنيا بخلاف قول من ذكرنا من المفسرين الذين أقدموا على الجزم بأن الضمير للكفار وأن ذلك يقع يوم القيامة مخالفين لما صح من الحديث النبوي من أجل خفاء معنى الغاية في قوله حتى إذا فزع عن قلوبهم وفي الحديث إثبات الشفاعة وأنكرها الخوارج والمعتزلة ، وهي أنواع أثبتها أهل السنة منها الخلاص من هول الموقف وهي خاصة بمحمد رسول الله المصطفى صلى الله عليه وسلم كما تقدم بيان ذلك واضحا في الرقاق ، وهذه لا ينكرها أحد من فرق الأمة ، ومنها الشفاعة في قوم يدخلون الجنة بغير حساب ، وخص هذه المعتزلة بمن لا تبعة عليه ومنها الشفاعة في رفع الدرجات ، ولا خلاف في وقوعها ، ومنها الشفاعة في إخراج قوم من النار عصاة أدخلوها بذنوبهم وهذه التي أنكروها ، وقد ثبتت بها الأخبار الكثيرة ، وأطبق أهل السنة على قبولها وبالله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية