صفحة جزء
711 حدثنا موسى بن إسماعيل قال حدثنا عبد الواحد بن زياد قال حدثنا عمارة بن القعقاع قال حدثنا أبو زرعة قال حدثنا أبو هريرة قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسكت بين التكبير وبين القراءة إسكاتة قال أحسبه قال هنية فقلت بأبي وأمي يا رسول الله إسكاتك بين التكبير والقراءة ما تقول قال أقول اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب اللهم نقني من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس اللهم اغسل خطاياي بالماء والثلج والبرد
[ ص: 268 ] قوله : ( حدثنا أبو زرعة هو ابن عمرو بن جرير البجلي .

قوله : ( كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسكت ) ضبطناه بفتح أوله من السكوت ، وحكى الكرماني عن بعض الروايات بضم أوله من الإسكات ، قال الجوهري : يقال تكلم الرجل ثم سكت بغير ألف ، فإذا انقطع كلامه فلم يتكلم قلت أسكت .

قوله : ( إسكاتة ) بكسر أوله بوزن إفعالة من السكوت ، وهو من المصادر الشاذة نحو أثبته إثباتة ، قال الخطابي : معناه سكوت يقتضي بعده كلاما مع قصر المدة فيه ، وسياق الحديث يدل على أنه أراد السكوت عن الجهر لا عن مطلق القول ، أو السكوت عن القراءة لا عن الذكر .

قوله : ( قال أحسبه قال هنية ) هذه رواية عبد الواحد بن زياد بالظن ، ورواه جرير عند مسلم وغيره وابن فضيل عند ابن ماجه وغيره بلفظ " سكت هنية " بغير تردد ، وإنما اختار البخاري رواية عبد الواحد لوقوع التصريح بالتحديث فيها في جميع الإسناد ، وقال الكرماني : المراد أنه قال - بدل إسكاتة - هنية . قلت : وليس بواضح ، بل الظاهر أنه شك هل وصف الإسكاتة بكونها هنية أم لا ، وهنية بالنون بلفظ التصغير ، وهو عند الأكثر بتشديد الياء ، وذكر عياض والقرطبي أن أكثر رواة مسلم قالوه بالهمزة ، وأما النووي فقال : الهمز خطأ . قال : وأصله هنوة فلما صغر صار هنيوة فاجتمعت واو وياء وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء ثم أدغمت . قال غيره : لا يمنع ذلك إجازة الهمز ، فقد تقلب الياء همزة . وقد وقع في رواية الكشميهني هنيهة بقلبها هاء ، وهي رواية إسحاق والحميدي في مسنديهما عن جرير .

قوله : ( بأبي وأمي ) الباء متعلقة بمحذوف اسم أو فعل والتقدير أنت مفدي أو أفديك ، واستدل به على جواز قول ذلك ، وزعم بعضهم أنه من خصائصه - صلى الله عليه وسلم - .

قوله : ( إسكاتك ) بكسر أوله وهو بالرفع على الابتداء ، وقال المظهري شارح المصابيح : هو بالنصب على أنه مفعول بفعل مقدر أي أسألك إسكاتك ، أو على نزع الخافض . انتهى .

والذي في روايتنا بالرفع للأكثر ، ووقع في رواية المستملي والسرخسي بفتح الهمزة وضم السين على الاستفهام ، وفي رواية الحميدي " ما تقول في سكتتك بين التكبير والقراءة " ولمسلم " أرأيت سكوتك " وكله مشعر بأن هناك قولا لكونه قال " ما تقول " ولم يقل هل تقول ؟ نبه عليه ابن دقيق العيد قال : ولعله استدل على أصل القول بحركة الفم كما استدل غيره على القراءة باضطراب اللحية . قلت : وسيأتي من حديث خباب بعد باب ، ونقل ابن بطال عن الشافعي أن سبب هذه السكتة للإمام أن يقرأ المأموم فيها الفاتحة ، ثم اعترضه بأنه لو كان كذلك لقال في الجواب : أسكت لكي يقرأ من خلفي . ورده ابن المنير بأنه لا يلزم من كونه أخبره بصفة ما يقول أن لا يكون سبب السكوت ما ذكر . انتهى .

وهذا النقل من أصله غير معروف عن الشافعي ولا عن أصحابه ، إلا أن الغزالي قال في الإحياء : إن المأموم يقرأ الفاتحة إذا اشتغل الإمام بدعاء الافتتاح . وخولف في ذلك ، بل أطلق المتولي وغيره كراهة تقديم المأموم قراءة الفاتحة على الإمام . وفي وجه إن فرغها قبله بطلت صلاته ، والمعروف أن المأموم يقرؤها إذا سكت الإمام بين الفاتحة والسورة ، وهو الذي حكاه عياض وغيره عن الشافعي ، وقد نص الشافعي على أن المأموم يقول دعاء الافتتاح كما يقوله الإمام ، والسكتة التي بين الفاتحة والسورة ثبت فيها حديث سمرة عند أبي داود وغيره .

[ ص: 269 ] قوله : ( باعد ) المراد بالمباعدة محو ما حصل منها والعصمة عما سيأتي منها ، وهو مجاز ؛ لأن حقيقة المباعدة إنما هي في الزمان والمكان ، وموقع التشبيه أن التقاء المشرق والمغرب مستحيل فكأنه أراد أنه لا يبقى لها منه اقتراب بالكلية . وقال الكرماني : كرر لفظ " بين " لأن العطف على الضمير المجرور يعاد فيه الخافض .

قوله : ( نقني ) مجاز عن زوال الذنوب ومحو أثرها ، ولما كان الدنس في الثوب الأبيض أظهر من غيره من الألوان وقع التشبيه به ، قاله ابن دقيق العيد .

قوله : ( بالماء والثلج والبرد ) قال الخطابي : ذكر الثلج والبرد تأكيد ، أو لأنهما ماءان لم تمسهما الأيدي ولم يمتهنهما الاستعمال . وقال ابن دقيق العيد : عبر بذلك عن غاية المحو ، فإن الثوب الذي يتكرر عليه ثلاثة أشياء منقية يكون في غاية النقاء ، قال : ويحتمل أن يكون المراد أن كل واحد من هذه الأشياء مجاز عن صفة يقع بها المحو وكأنه كقوله تعالى : واعف عنا واغفر لنا وارحمنا وأشار الطيبي إلى هذا بحثا فقال : يمكن أن يكون المطلوب من ذكر الثلج والبرد بعد الماء شمول أنواع الرحمة والمغفرة بعد العفو لإطفاء حرارة عذاب النار التي هي في غاية الحرارة ، ومنه قولهم : برد الله مضجعه . أي : رحمه ووقاه عذاب النار . انتهى .

ويؤيده ورود وصف الماء بالبرودة في حديث عبد الله بن أبي أوفى عند مسلم ، وكأنه جعل الخطايا بمنزلة جهنم لكونها مسببة عنها ، فعبر عن إطفاء حرارتها بالغسل وبالغ فيه باستعمال المبردات ترقيا عن الماء إلى أبرد منه . وقال التوربشتي : خص هذه الثلاثة بالذكر ؛ لأنها منزلة من السماء . وقال الكرماني : يحتمل أن يكون في الدعوات الثلاث إشارة إلى الأزمنة الثلاثة " فالمباعدة للمستقبل ، والتنقية للحال ، والغسل للماضي " انتهى .

وكأن تقديم المستقبل للاهتمام بدفع ما سيأتي قبل رفع ما حصل . واستدل بالحديث على مشروعية الدعاء بين التكبير والقراءة خلافا للمشهور عن مالك ، وورد فيه أيضا حديث " وجهت وجهي إلخ " وهو عند مسلم من حديث علي ، لكن قيده بصلاة الليل . وأخرجه الشافعي وابن خزيمة وغيرهما بلفظ " إذا صلى المكتوبة " واعتمده الشافعي في الأم ، وفي الترمذي وصحيح ابن حبان من حديث أبي سعيد الافتتاح بسبحانك اللهم ، ونقل الساجي عن الشافعي استحباب الجمع بين التوجيه والتسبيح وهو اختيار ابن خزيمة وجماعة من الشافعية وحديث أبي هريرة أصح ما ورد في ذلك ، واستدل به على جواز الدعاء في الصلاة بما ليس في القرآن خلافا للحنفية . ثم هذا الدعاء صدر منه - صلى الله عليه وسلم - على سبيل المبالغة في إظهار العبودية ، وقيل قاله على سبيل التعليم لأمته ، واعترض بكونه لو أراد ذلك لجهر به ، وأجيب بورود الأمر بذلك في حديث سمرة عند البزار ، وفيه ما كان الصحابة عليه من المحافظة على تتبع أحوال النبي - صلى الله عليه وسلم - في حركاته وسكناته وإسراره وإعلانه حتى حفظ الله بهم الدين ، واستدل به بعض الشافعية على أن الثلج والبرد مطهران ، واستبعده ابن عبد السلام ، وأبعد منه استدلال بعض الحنفية به على نجاسة الماء المستعمل .

التالي السابق


الخدمات العلمية