صفحة جزء
باب قيام النبي صلى الله عليه وسلم بالليل من نومه وما نسخ من قيام الليل وقوله تعالى يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلا نصفه أو انقص منه قليلا أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا إن ناشئة الليل هي أشد وطاء وأقوم قيلا إن لك في النهار سبحا طويلا وقوله علم أن لن تحصوه فتاب عليكم فاقرءوا ما تيسر من القرآن علم أن سيكون منكم مرضى وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله فاقرءوا ما تيسر منه وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأقرضوا الله قرضا حسنا وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيرا وأعظم أجرا قال أبو عبد الله قال ابن عباس رضي الله عنهما نشأ قام بالحبشية وطاء قال مواطأة القرآن أشد موافقة لسمعه وبصره وقلبه ليواطئوا ليوافقوا

1090 حدثنا عبد العزيز بن عبد الله قال حدثني محمد بن جعفر عن حميد أنه سمع أنس بن مالك رضي الله عنه يقول كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفطر من الشهر حتى نظن أن لا يصوم منه ويصوم حتى نظن أن لا يفطر منه شيئا وكان لا تشاء أن تراه من الليل مصليا إلا رأيته ولا نائما إلا رأيته تابعه سليمان وأبو خالد الأحمر عن حميد
قوله : ( باب قيام النبي صلى الله عليه وسلم من الليل من نومه ، وما نسخ من قيام الليل ، وقوله تعالى : ياأيها المزمل قم الليل ؛ كأنه يشير إلى ما أخرجه مسلم من طريق سعد بن هشام ، عن عائشة ، قالت : إن الله افترض قيام الليل في أول هذه السورة - يعني ياأيها المزمل - فقام نبي الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه [ ص: 28 ] حولا ، حتى أنزل الله في آخر هذه السورة التخفيف ، فصار قيام الليل تطوعا بعد فرضيته ، " واستغنى البخاري عن إيراد هذا الحديث - لكونه على غير شرطه - بما أخرجه عن أنس ، فإن فيه : ولا تشاء أن تراه من الليل نائما إلا رأيته . ، فإنه يدل على أنه كان ربما نام كل الليل ، وهذا سبيل التطوع ، فلو استمر الوجوب لما أخل بالقيام . وبهذا تظهر مطابقة الحديث للترجمة . وقد روى محمد بن نصر في قيام الليل من طريق سماك الحنفي ، عن ابن عباس شاهدا لحديث عائشة في أن بين الإيجاب والنسخ سنة ، وكذا أخرجه عن أبي عبد الرحمن السلمي ، والحسن ، وعكرمة ، وقتادة بأسانيد صحيحة عنهم ، ومقتضى ذلك أن النسخ وقع بمكة ؛ لأن الإيجاب متقدم على فرض الخمس ليلة الإسراء ، وكانت قبل الهجرة بأكثر من سنة على الصحيح ، وحكى الشافعي عن بعض أهل العلم ، أن آخر السورة نسخ افتراض قيام الليل ، إلا ما تيسر منه ؛ لقوله : فاقرءوا ما تيسر منه ثم نسخ فرض ذلك بالصلوات الخمس . واستشكل محمد بن نصر ذلك كما تقدم ذكره والتعقب عليه في أول كتاب الصلاة ، وتضمن كلامه أن الآية التي نسخت الوجوب مدنية ، وهو مخالف لما عليه الأكثر من أن السورة كلها مكية . نعم ، ذكر أبو جعفر النحاس أنها مكية إلا الآية الأخيرة ، وقوى محمد بن نصر هذا القول بما أخرجه من حديث جابر ، أن نسخ قيام الليل وقع لما توجهوا مع أبي عبيدة في جيش الخبط ، وكان ذلك بعد الهجرة . لكن في إسناده علي بن زيد بن جدعان وهو ضعيف ، وأما ما رواه الطبري من طريق محمد بن طحلاء ، عن أبي سلمة ، عن عائشة قالت : احتجر رسول الله صلى الله عليه وسلم حصيرا . ، فذكر الحديث الذي تقدمت الإشارة إليه قبل خمسة أبواب ، وفيه : اكلفوا من العمل ما تطيقون ، فإن خير العمل أدومه ، وإن قل . ونزلت عليه : يا أيها المزمل فكتب عليهم قيام الليل ، وأنزلت منزلة الفريضة ، حتى إن كان بعضهم ليربط الحبل فيتعلق به ، فلما رأى الله تكلفهم ابتغاء رضاه وضع ذلك عنهم ، فردهم إلى الفريضة ، ووضع عنهم قيام الليل إلا ما تطوعوا به ، فإنه يقتضي أن السورة كلها مدنية ، لكن فيه موسى بن عبيدة ، وهو شديد الضعف ، فلا حجة فيما تفرد به ، ولو صح ما رواه لاقتضى ذلك وقوع ما خشي منه صلى الله عليه وسلم حيث ترك قيام الليل بهم خشية أن يفرض عليهم ، والأحاديث الصحيحة دالة على أن ذلك لم يقع ، والله أعلم .

قوله : يا أيها المزمل أي المتلفف في ثيابه ، وروى ابن أبي حاتم ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : " يا أيها المزمل ; أي يا محمد ، قد زملت القرآن . فكأن الأصل : يا أيها المتزمل . قوله : قم الليل إلا قليلا أي منه . وروى ابن أبي حاتم من طريق وهب بن منبه قال : القليل ما دون المعشار والسدس ، وفيه نظر لما سيأتي .

قوله : ( نصفه ) يحتمل أن يكون بدلا من " قليلا " ، فكأن في الآية تخييرا بين قيام النصف بتمامه ، أو قيام أنقص منه أو أزيد ، ويحتمل أن يكون قوله : " نصفه " بدلا من الليل و " إلا قليلا " استثناء من النصف حكاه الزمخشري ، وبالأول جزم الطبري ، وأسند ابن أبي حاتم معناه ، عن عطاء الخراساني .

قوله : ( ورتل القرآن ترتيلا ) أي اقرأه مترسلا بتبيين الحروف وإشباع الحركات ، وروى مسلم من حديث حفصة : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرتل السورة حتى تكون أطول من أطول منها .

[ ص: 29 ] قوله : قولا ثقيلا أي القرآن . وعن الحسن : " العمل به " أخرجه ابن أبي حاتم ، وأخرج أيضا من طريق أخرى عنه ، قال : " ثقيلا في الميزان يوم القيامة " . وتأوله غيره على ثقل الوحي حين ينزل كما تقدم في بدء الوحي .

قوله : إن ناشئة الليل . قال ابن عباس : نشأ قام بالحبشية ؛ يعني فيكون معنى قوله تعالى : ناشئة الليل أي قيام الليل ، وهذا التعليق وصله عبد بن حميد بإسناد صحيح عن سعيد بن جبير عنه ، قال : إن ناشئة الليل هو كلام الحبشة ، نشأ : قام . وأخرج عن أبي ميسرة ، وأبي مالك نحوه ، ووصله ابن أبي حاتم من طريق أبي ميسرة ، عن ابن مسعود أيضا . وذهب الجمهور إلى أنه ليس في القرآن شيء بغير العربية ، وقالوا : ما ورد من ذلك فهو من توافق اللغتين ، وعلى هذا فناشئة الليل مصدر بوزن فاعلة ، من نشأ إذا قام ، أو اسم فاعل أي النفس الناشئة بالليل ، أي التي تنشأ من مضجعها إلى العبادة ، أي تنهض . وحكى أبو عبيد في " الغريبين " أن كل ما حدث بالليل وبدأ فهو ناشئ ، وقد نشأ . وفي " المجاز " لأبي عبيدة : ناشئة الليل آناء الليل ناشئة بعد ناشئة . قال ابن التين : والمعنى أن الساعات الناشئة من الليل - أي المقبلة بعضها في أثر بعض - هي أشد .

قوله : ( وطاء ، قال : مواطأة للقرآن ، أشد موافقة لسمعه وبصره وقلبه ) وهذا وصله عبد بن حميد من طريق مجاهد ، قال : أشد وطاء ؛ أي يوافق سمعك وبصرك وقلبك بعضه بعضا ، قال الطبري : هذه القراءة على أنه مصدر من قولك : واطأ اللسان القلب مواطأة ووطاء . قال : وقرأ الأكثر : وطئا ؛ بفتح الواو وسكون الطاء . ثم حكي عن العرب : وطئنا الليل وطئا ؛ أي سرنا فيه . وروي من طريق قتادة : ( أشد وطئا ) ؛ أثبت في الخير . ( وأقوم قيلا ) : أبلغ في الحفظ . وقال الأخفش : " أشد وطئا ؛ أي قياما " . وأصل الوطء في اللغة الثقل كما في الحديث : اشدد وطأتك على مضر .

قوله : ( ليواطئوا ليوافقوا ) هذه الكلمة من تفسير ( براءة ) ، وإنما أوردها هنا تأييدا للتفسير الأول ، وقد وصله الطبري ، عن ابن عباس لكن بلفظ : " ليشابهوا " .

قوله : ( سبحا طويلا ) ؛ أي فراغا ، وصله ابن أبي حاتم ، عن ابن عباس ، وأبي العالية ، ومجاهد ، وغيرهم ، وعن السدي : سبحا طويلا ؛ أي تطوعا كثيرا ، كأنه جعله من السبحة ؛ وهي النافلة .

قوله : ( حدثني محمد بن جعفر ) أي ابن أبي كثير المدني ، وحميد هو الطويل .

قوله : ( أن لا يصوم منه ) زاد أبو ذر والأصيلي " شيئا " .

قوله : ( وكان لا تشاء أن تراه من الليل مصليا إلخ ) ؛ أي إن صلاته ونومه كان يختلف بالليل ، ولا يرتب وقتا معينا ، بل بحسب ما تيسر له القيام . ولا يعارضه قول عائشة : " كان إذا سمع الصارخ قام " . فإن عائشة تخبر عما لها عليه اطلاع ، وذلك أن صلاة الليل كانت تقع منه غالبا في البيت ، فخبر أنس محمول على ما وراء ذلك . وقد مضى في حديثها في أبواب الوتر : " من كل الليل قد أوتر " . فدل على أنه لم يكن يخص الوتر بوقت بعينه . قوله : ( تابعه سليمان ، وأبو خالد الأحمر ، عن حميد ) ؛ كذا ثبتت الواو في جميع الروايات التي [ ص: 30 ] اتصلت لنا ، فعلى هذا يحتمل أن يكون سليمان هو ابن بلال ، كما جزم به خلف ، ويحتمل أن تكون الواو زائدة من الناسخ ، فإن أبا خالد الأحمر اسمه سليمان ، وحديثه في هذا سيأتي موصولا في كتاب الصيام ، إن شاء الله تعالى .

التالي السابق


الخدمات العلمية