صفحة جزء
باب ما قيل في أولاد المشركين

1317 حدثني حبان بن موسى أخبرنا عبد الله أخبرنا شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهم قال سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أولاد المشركين فقال الله إذ خلقهم أعلم بما كانوا عاملين
[ ص: 290 ] قوله : ( باب ما قيل في أولاد المشركين ) هذه الترجمة تشعر أيضا بأنه كان متوقفا في ذلك ، وقد جزم بعد هذا في تفسير سورة الروم بما يدل على اختيار القول الصائر إلى أنهم في الجنة كما سيأتي تحريره ، وقد رتب أيضا أحاديث هذا الباب ترتيبا يشير إلى المذهب المختار ، فإنه صدره بالحديث الدال على التوقف ، ثم ثنى بالحديث المرجح لكونهم في الجنة ، ثم ثلث بالحديث المصرح بذلك ، فإن قوله في سياقه : وأما الصبيان حوله فأولاد الناس . قد أخرجه في التعبير بلفظ : وأما الولدان الذين حوله فكل مولود يولد على الفطرة . فقال بعض المسلمين : وأولاد المشركين ؟ فقال : وأولاد المشركين . ويؤيده ما رواه أبو يعلى من حديث أنس مرفوعا : سألت ربي اللاهين من ذرية البشر أن لا يعذبهم فأعطانيهم . إسناده حسن . وورد تفسير " اللاهين " بأنهم الأطفال من حديث ابن عباس مرفوعا ، أخرجه البزار ، وروى أحمد من طريق خنساء بنت معاوية بن صريم ، عن عمتها قالت : قلت : يا رسول الله ، من في الجنة ؟ قال : النبي في الجنة ، والشهيد في الجنة ، والمولود في الجنة . إسناده حسن . واختلف العلماء قديما وحديثا في هذه المسألة على أقوال : أحدها أنهم في مشيئة الله تعالى ، وهو منقول عن الحمادين ، وابن المبارك ، وإسحاق ، ونقله البيهقي في " الاعتقاد " عن الشافعي في حق أولاد الكفار خاصة ، قال ابن عبد البر : وهو مقتضى صنيع مالك ، وليس عنده في هذه المسألة شيء منصوص ، إلا أن أصحابه صرحوا بأن أطفال المسلمين في الجنة وأطفال الكفار خاصة في المشيئة ، والحجة فيه حديث : الله أعلم بما كانوا عاملين . ثانيها أنهم تبع لآبائهم ، فأولاد المسلمين في الجنة وأولاد الكفار في النار ، وحكاه ابن حزم عن الأزارقة من الخوارج ، واحتجوا بقوله تعالى : رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا وتعقبه بأن المراد قوم نوح خاصة ، وإنما دعا بذلك لما أوحى الله إليه أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن . وأما حديث : هم من آبائهم أو منهم . فذاك ورد في حكم الحربي ، وروى أحمد من حديث عائشة : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ولدان المسلمين ، قال : في الجنة وعن أولاد المشركين ، قال : في النار . فقلت : يا رسول الله ، لم يدركوا الأعمال ، قال : ربك أعلم بما كانوا عاملين ، لو شئت أسمعتك تضاغيهم في النار . وهو حديث ضعيف جدا ، لأن في إسناده أبا عقيل مولى بهية وهو متروك . ثالثها أنهم يكونون في برزخ بين الجنة والنار ، لأنهم لم يعملوا حسنات يدخلون بها الجنة ، ولا سيئات يدخلون بها النار . رابعها خدم أهل الجنة ، وفيه حديث عن أنس ضعيف ، أخرجه أبو داود الطيالسي ، وأبو يعلى ، وللطبراني ، والبزار من حديث سمرة مرفوعا : أولاد المشركين خدم أهل الجنة . وإسناده ضعيف . خامسها أنهم يصيرون ترابا ، روي عن ثمامة بن أشرس . سادسها هم في النار . حكاه عياض ، عن أحمد ، وغلطه ابن تيمية بأنه قول لبعض أصحابه ، ولا يحفظ عن الإمام أصلا . سابعها أنهم يمتحنون في الآخرة بأن ترفع لهم نار ، فمن دخلها كانت عليه بردا وسلاما ، ومن أبى عذب ، أخرجه البزار من حديث أنس ، وأبي سعيد ، وأخرجه الطبراني من حديث معاذ بن جبل . وقد صحت مسألة الامتحان في حق المجنون ومن مات في الفترة [ ص: 291 ] من طرق صحيحة ، وحكى البيهقي في " كتاب الاعتقاد " أنه المذهب الصحيح ، وتعقب بأن الآخرة ليست دار تكليف فلا عمل فيها ولا ابتلاء ، وأجيب بأن ذلك بعد أن يقع الاستقرار في الجنة أو النار ، وأما في عرصات القيامة فلا مانع من ذلك ، وقد قال تعالى : يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون وفي الصحيحين : أن الناس يؤمرون بالسجود ، فيصير ظهر المنافق طبقا ، فلا يستطيع أن يسجد . ثامنها أنهم في الجنة ، وقد تقدم القول فيه في " باب فضل من مات له ولد " قال النووي : وهو المذهب الصحيح المختار الذي صار إليه المحققون ، لقوله تعالى : وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا وإذا كان لا يعذب العاقل لكونه لم تبلغه الدعوة ، فلأن لا يعذب غير العاقل من باب الأولى ، ولحديث سمرة المذكور في هذا الباب ، ولحديث عمة خنساء المتقدم ، ولحديث عائشة الآتي قريبا . تاسعها الوقف . عاشرها الإمساك . وفي الفرق بينهما دقة . ثم أورد المصنف في الباب ثلاثة أحاديث : أحدها حديث ابن عباس ، وأبي هريرة : سئل عن أولاد المشركين . وفي رواية ابن عباس : " ذراري المشركين " . ولم أقف في شيء من الطرق على تسمية هذا السائل ، لكن عند أحمد ، وأبي داود ، عن عائشة ما يحتمل أن تكون هي السائلة ، فأخرجا من طريق عبد الله بن أبي قيس عنها قالت : قلت : يا رسول الله ، ذراري المسلمين ؟ قال : مع آبائهم . قلت : يا رسول الله ، بلا عمل ؟ قال : الله أعلم بما كانوا عاملين . الحديث . وروى عبد الرزاق من طريق أبي معاذ ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة قالت : سألت خديجة النبي صلى الله عليه وسلم عن أولاد المشركين ، فقال : هم مع آبائهم ، ثم سألته بعد ذلك فقال : الله أعلم بما كانوا عاملين ، ثم سألته بعدما استحكم الإسلام ، فنزل : ولا تزر وازرة وزر أخرى قال : هم على الفطرة ، أو قال : في الجنة . وأبو معاذ هو سليمان بن أرقم وهو ضعيف ، ولو صح هذا لكان قاطعا للنزاع رافعا لكثير من الإشكال المتقدم .

( تنبيه ) : لم يسمع ابن عباس هذا الحديث من النبي صلى الله عليه وسلم ، بين ذلك أحمد من طريق عمار بن أبي عمار ، عن ابن عباس ، قال : كنت أقول في أولاد المشركين : هم منهم ، حتى حدثني رجل عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، فلقيته فحدثني عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ربهم أعلم بهم ، هو خلقهم وهو أعلم بما كانوا عاملين ، فأمسكت عن قولي . انتهى . وهذا أيضا يدفع القول الأول الذي حكيناه .

وأما حديث أبي هريرة فهو طرف من ثاني أحاديث الباب - كما سيأتي في القدر - من طريق همام ، عن أبي هريرة ، ففي آخره : قالوا : يا رسول الله ، ، أفرأيت من يموت وهو صغير ؟ قال : الله أعلم بما كانوا عاملين . وكذا أخرجه مسلم من طريق أبي صالح ، عن أبي هريرة بلفظ : فقال رجل : يا رسول الله ، أرأيت لو مات قبل ذلك . ولأبي داود من طريق مالك ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة نحو رواية همام ، [ ص: 292 ] وأخرج أبو داود عقبه ، عن ابن وهب ، سمعت مالكا وقيل له : إن أهل الأهواء يحتجون علينا بهذا الحديث ، يعني قوله : فأبواه يهودانه أو ينصرانه . فقال مالك : احتج عليهم بآخره : الله أعلم بما كانوا عاملين . ووجه ذلك أن أهل القدر استدلوا على أن الله فطر العباد على الإسلام ، وأنه لا يضل أحدا ، وإنما يضل الكافر أبواه ، فأشار مالك إلى الرد عليهم بقوله : " الله أعلم " . فهو دال على أنه يعلم بما يصيرون إليه بعد إيجادهم على الفطرة ، فهو دليل على تقدم العلم الذي ينكره غلاتهم ، ومن ثم قال الشافعي : أهل القدر إن أثبتوا العلم خصموا .

التالي السابق


الخدمات العلمية