صفحة جزء
باب إذا تصدق على غني وهو لا يعلم

1355 حدثنا أبو اليمان أخبرنا شعيب حدثنا أبو الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال قال رجل لأتصدقن بصدقة فخرج بصدقته فوضعها في يد سارق فأصبحوا يتحدثون تصدق على سارق فقال اللهم لك الحمد لأتصدقن بصدقة فخرج بصدقته فوضعها في يدي زانية فأصبحوا يتحدثون تصدق الليلة على زانية فقال اللهم لك الحمد على زانية لأتصدقن بصدقة فخرج بصدقته فوضعها في يدي غني فأصبحوا يتحدثون تصدق على غني فقال اللهم لك الحمد على سارق وعلى زانية وعلى غني فأتي فقيل له أما صدقتك على سارق فلعله أن يستعف عن سرقته وأما الزانية فلعلها أن تستعف عن زناها وأما الغني فلعله يعتبر فينفق مما أعطاه الله
[ ص: 339 ] قوله : ( باب صدقة العلانية ، وقوله عز وجل الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية - إلى قوله - ولا هم يحزنون ) سقطت هذه الترجمة للمستملي وثبتت للباقين ، وبه جزم الإسماعيلي ، ولم يثبت فيها لمن ثبتها حديث ، وكأنه أشار إلى أنه لم يصح فيها شيء على شرطه . وقد اختلف في سبب نزول الآية المذكورة ، فعند عبد الرزاق بإسناد فيه ضعف إلى ابن عباس أنها نزلت في علي بن أبي طالب ، كان عنده أربعة دراهم ، فأنفق بالليل واحدا وبالنهار واحدا وفي السر واحدا وفي العلانية واحدا ، وذكره الكلبي في تفسيره عن أبي صالح ، عن ابن عباس أيضا ، وزاد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له : أما إن ذلك لك . وقيل : نزلت في أصحاب الخيل الذين يربطونها في سبيل الله ، أخرجه ابن أبي حاتم من حديث أبي أمامة ، وعن قتادة وغيره نزلت في قوم أنفقوا في سبيل الله من غير إسراف ولا تقتير ، ذكره الطبري وغيره . وقال الماوردي : يحتمل أن يكون في إباحة الارتفاق بالزروع والثمار ، لأنه يرتفق بها كل مار في ليل أو نهار في سر وعلانية وكانت أعم .

قوله : ( باب صدقة السر ، وقال أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم : ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما صنعت يمينه . وقوله تعالى : إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم الآية ، وإذا تصدق على غني وهو لا يعلم ) ثم ساق حديث أبي هريرة في قصة الذي خرج بصدقته فوضعها في يد سارق ، ثم زانية ، ثم غني ، كذا وقع في رواية أبي ذر ، ووقع في رواية غيره : " باب إذا تصدق على غني وهو لا يعلم " . وكذا هو عند الإسماعيلي ، ثم ساق الحديث . ومناسبته ظاهرة ، ويكون قد اقتصر في ترجمة صدقة السر على الحديث المعلق على الآية ، وعلى ما في رواية أبي ذر فيحتاج إلى مناسبة بين ترجمة صدقة السر وحديث المتصدق ، ووجهها أن الصدقة المذكورة وقعت بالليل لقوله في الحديث : فأصبحوا يتحدثون . بل وقع في صحيح مسلم التصريح بذلك لقوله فيه : لأتصدقن الليلة . كما سيأتي ، فدل على أن صدقته كانت سرا إذ لو كانت بالجهر نهارا لما خفي عنه حال الغني ، لأنها في الغالب لا تخفى ، بخلاف الزانية والسارق ، ولذلك خص الغني بالترجمة دونهما . وحديث أبي هريرة المعلق طرف من حديث سيأتي بعد باب بتمامه ، وقد تقدم مع الكلام عليه مستوفى في " باب من جلس في المسجد ينتظر الصلاة " وهو أقوى الأدلة على أفضلية إخفاء الصدقة ، وأما الآية فظاهرة في تفضيل صدقة السر أيضا ، ولكن ذهب الجمهور إلى أنها نزلت في صدقة التطوع ، ونقل الطبري وغيره الإجماع على أن الإعلان في [ ص: 340 ] صدقة الفرض أفضل من الإخفاء ، وصدقة التطوع على العكس من ذلك . وخالف يزيد بن أبي حبيب فقال : إن الآية نزلت في الصدقة على اليهود والنصارى ، قال : فالمعنى إن تؤتوها أهل الكتابين ظاهرة فلكم فضل ، وإن تؤتوها فقراءكم سرا فهو خير لكم . قال : وكان يأمر بإخفاء الصدقة مطلقا . ونقل أبو إسحاق الزجاج أن إخفاء الزكاة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم كان أفضل ، فأما بعده فإن الظن يساء بمن أخفاها ، فلهذا كان إظهار الزكاة المفروضة أفضل ، قال ابن عطية : ويشبه في زماننا أن يكون الإخفاء بصدقة الفرض أفضل ، فقد كثر المانع لها ، وصار إخراجها عرضة للرياء . انتهى . وأيضا فكان السلف يعطون زكاتهم للسعاة ، وكان من أخفاها اتهم بعدم الإخراج ، وأما اليوم فصار كل أحد يخرج زكاته بنفسه فصار إخفاؤها أفضل ، والله أعلم . وقال الزين بن المنير : لو قيل إن ذلك يختلف باختلاف الأحوال لما كان بعيدا ، فإذا كان الإمام مثلا جائرا ومال من وجبت عليه مخفيا فالإسرار أولى ، وإن كان المتطوع ممن يقتدى به ويتبع وتنبعث الهمم على التطوع بالإنفاق وسلم قصده فالإظهار أولى . والله أعلم .

قوله : ( باب إذا تصدق على غني وهو لا يعلم ) أي : فصدقته مقبولة .

قوله : ( عن الأعرج ، عن أبي هريرة ) في رواية مالك في " الغرائب للدارقطني " عن أبي الزناد أن عبد الرحمن بن هرمز أخبره أنه سمع أبا هريرة .

قوله : ( قال رجل ) لم أقف على اسمه ، ووقع عند أحمد من طريق ابن لهيعة ، عن الأعرج في هذا الحديث أنه كان من بني إسرائيل .

قوله : ( لأتصدقن بصدقة ) في رواية أبي عوانة ، عن أبي أمية ، عن أبي اليمان بهذا الإسناد : لأتصدقن الليلة . وكرر كذلك في المواضع الثلاثة . وكذا أخرجه أحمد من طريق ورقاء ، ومسلم من طريق موسى بن عقبة ، والدارقطني في " غرائب مالك " كلهم عن أبي الزناد . وقوله : " لأتصدقن " من باب الالتزام كالنذر مثلا ، والقسم فيه مقدر ، كأنه قال : والله لأتصدقن .

[ ص: 341 ] قوله : ( فوضعها في يد سارق ) أي : وهو لا يعلم أنه سارق .

قوله : ( فأصبحوا يتحدثون : تصدق على سارق ) في رواية أبي أمية : تصدق الليلة على سارق . وفي رواية ابن لهيعة : تصدق الليلة على فلان السارق . ولم أر في شيء من الطرق تسمية أحد من الثلاثة المتصدق عليهم . وقوله : " تصدق " بضم أوله على البناء للمفعول .

قوله : ( فقال : اللهم لك الحمد ) أي : لا لي لأن صدقتي وقعت بيد من لا يستحقها فلك الحمد حيث كان ذلك بإرادتك لا بإرادتي ، فإن إرادة الله كلها جميلة . قال الطيبي : لما عزم على أن يتصدق على مستحق فوضعها بيد زانية حمد الله على أنه لم يقدر أن يتصدق على من هو أسوأ حالا منها ، أو أجرى الحمد مجرى التسبيح في استعماله عند مشاهدة ما يتعجب منه تعظيما لله ، فلما تعجبوا من فعله تعجب هو أيضا فقال : اللهم لك الحمد ، على زانية ، أي : التي تصدقت عليها ، فهو متعلق بمحذوف . انتهى . ولا يخفى بعد هذا الوجه ، وأما الذي قبله فأبعد منه . والذي يظهر الأول وأنه سلم وفوض ورضي بقضاء الله ، فحمد الله على تلك الحال ، لأنه المحمود على جميع الحال ، لا يحمد على المكروه سواه ، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى ما لا يعجبه قال : " اللهم لك الحمد على كل حال .

قوله : ( فأتي فقيل له ) في رواية الطبراني في " مسند الشاميين " عن أحمد بن عبد الوهاب ، عن أبي اليمان بهذا الإسناد : " فساءه ذلك فأتى في منامه " . وأخرجه أبو نعيم في المستخرج عنه ، وكذا الإسماعيلي من طريق علي بن عياش ، عن شعيب وفيه تعيين أحد الاحتمالات التي ذكرها ابن التين وغيره ، قال الكرماني : قوله " أتي " أي : أري في المنام أو سمع هاتفا ملكا أو غيره أو أخبره نبي أو أفتاه عالم . وقال غيره : أو أتاه ملك فكلمه ، فقد كانت الملائكة تكلم بعضهم في بعض الأمور . وقد ظهر بالنقل الصحيح أنها كلها لم تقع إلا النقل الأول .

قوله : ( أما صدقتك على سارق ) زاد أبو أمية : " فقد قبلت " . وفي رواية موسى بن عقبة ، وابن لهيعة : أما صدقتك فقد قبلت . وفي رواية الطبراني : إن الله قد قبل صدقتك . وفي الحديث دلالة على أن الصدقة كانت عندهم مختصة بأهل الحاجة من أهل الخير ، ولهذا تعجبوا من الصدقة على الأصناف الثلاثة . وفيه أن نية المتصدق إذا كانت صالحة قبلت صدقته ولو لم تقع الموقع . واختلف الفقهاء في الإجزاء إذا كان ذلك في زكاة الفرض ، ولا دلالة في الحديث على الإجزاء ولا على المنع ، ومن ثم أورد المصنف الترجمة بلفظ الاستفهام ولم يجزم بالحكم . فإن قيل : إن الخبر إنما تضمن قصة خاصة وقع الاطلاع فيها على قبول الصدقة برؤيا صادقة اتفاقية ، فمن أين يقع تعميم الحكم ؟ فالجواب أن التنصيص في هذا الخبر على رجاء الاستعفاف هو الدال على تعدية الحكم ، فيقتضي ارتباط القبول بهذه الأسباب . وفيه فضل صدقة السر ، وفضل الإخلاص ، واستحباب إعادة الصدقة إذا لم تقع الموقع ، وأن الحكم للظاهر حتى يتبين سواه ، وبركة التسليم والرضا ، وذم التضجر بالقضاء ، كما قال بعض السلف : لا تقطع الخدمة ، ولو ظهر لك عدم القبول .

التالي السابق


الخدمات العلمية