صفحة جزء
باب فضل مكة وبنيانها وقوله تعالى وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر قال ومن كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم

1505 حدثنا عبد الله بن محمد حدثنا أبو عاصم قال أخبرني ابن جريج قال أخبرني عمرو بن دينار قال سمعت جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال لما بنيت الكعبة ذهب النبي صلى الله عليه وسلم وعباس ينقلان الحجارة فقال العباس للنبي صلى الله عليه وسلم اجعل إزارك على رقبتك فخر إلى الأرض وطمحت عيناه إلى السماء فقال أرني إزاري فشده عليه
[ ص: 514 ] قوله : ( باب فضل مكة وبنيانها وقوله تعالى : وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا فساق الآيات إلى قوله : التواب الرحيم كذا في رواية كريمة ، وساق الباقون بعض الآية الأولى ، ولأبي ذر كلها ، ثم قال : " إلى قوله : التواب الرحيم " . ثم ساق المصنف في الباب حديث جابر في بناء الكعبة ، وحديث عائشة في ذلك من أربعة طرق ، وليس في الآيات ولا الحديث ذكر لبنيان مكة لكن بنيان الكعبة كان سبب بنيان مكة وعمارتها فاكتفى به . واختلف في أول من بنى الكعبة كما سيأتي في أحاديث الأنبياء في الكلام على حديث أبي ذر : أي مسجد وضع في الأرض أول ، وكذا قصة بناء إبراهيم وإسماعيل لها يأتي في أحاديث الأنبياء ، ويقتصر هنا على قصة بناء قريش لها ، وعلى قصة بناء ابن الزبير وما غيره الحجاج بعده لتعلق ذلك بحديثي الباب . والبيت اسم غالب للكعبة كالنجم للثريا ، وقوله تعالى : مثابة ؛ أي مرجعا للحجاج والعمار يتفرقون عنه ثم يعودون إليه ، روى عبد بن حميد بإسناد جيد ، عن مجاهد قال : " يحجون ثم يعودون " . وهو مصدر وصف به الموضع ، وقوله : وأمنا ؛ أي موضع أمن ، وهو كقوله : أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا والمراد ترك القتال فيه كما سيأتي شرحه في الكلام على حديث الباب الذي بعده . وقوله : واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى [ ص: 515 ] ، أي وقلنا : اتخذوا منه موضع صلاة ، ويجوز أن يكون معطوفا على اذكروا نعمتي أو على معنى مثابة ؛ أي ثوبوا إليه واتخذوه ، والأمر فيه للاستحباب بالاتفاق . وقرأ نافع وابن عامر : ( واتخذوا ) بلفظ الماضي عطفا على ( جعلنا ) أو على تقدير إذ ؛ أي وإذ جعلنا وإذ اتخذوا ، ومقام إبراهيم الحجر الذي فيه أثر قدميه على الأصح ، وسيأتي شرحه في قصة إبراهيم من أحاديث الأنبياء ، وعن عطاء : مقام إبراهيم عرفة وغيرها من المناسك ، لأنه قام فيها ودعا . وعن النخعي : الحرم كله . وكذا رواه الكلبي ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وقد تقدمت الإشارة إلى شيء من ذلك في أوائل كتاب الصلاة .

وقوله : والركع السجود استدل به على جواز صلاة الفرض والنفل داخل البيت ، وخالف مالك في الفرض .

قوله : اجعل هذا بلدا آمنا يأتي الكلام عليه في حديث : إن إبراهيم حرم مكة وأنه لا يعارض حديث " أن الله حرم هذا البلد يوم خلق السماوات والأرض . لأن معنى الأول أن إبراهيم أعلم الناس بذلك ، والثاني ما سبق من تقدير الله .

وقوله : ( من آمن ) بدل من أهله ، أي وارزق المؤمنين من أهله خاصة .

( ومن كفر ) عطف على من آمن ، قيل : قاس إبراهيم الرزق على الإمامة ، فعرف الفرق بينهما ، وإن الرزق قد يكون استدراجا وإلزاما للحجة ، وسيأتي الكلام على القواعد في تفسير البقرة وأنها الأساس ، وظاهره أنه كان مؤسسا قبل إبراهيم ، ويحتمل أن يكون المراد بالرفع نقلها من مكانها إلى مكان البيت ، كما سيأتي عند نقل الاختلاف في ذلك ، إن شاء الله تعالى . وقوله : ربنا تقبل منا أي يقولان : ربنا تقبل منا ، وقد أظهره ابن مسعود في قراءته .

قوله : وأرنا مناسكنا ، قال عبد بن حميد : حدثنا يزيد بن هارون ، حدثنا سليمان التيمي ، عن أبي مجلز قال : لما فرغ إبراهيم من البيت أتاه جبريل فأراه الطواف بالبيت سبعا ، قال : وأحسبه ، وبين الصفا والمروة ، ثم أتى به عرفة ، فقال : أعرفت ؟ قال : نعم ، قال : فمن ثم سميت عرفات . ثم أتى به جمعا ، فقال : هاهنا يجمع الناس الصلاة . ثم أتى به منى ، فعرض لهما الشيطان ، فأخذ جبريل سبع حصيات ، فقال : ارمه بها وكبر مع كل حصاة .

قوله . وتب علينا ، قيل : طلبا الثبات على الإيمان ، لأنهما معصومان ، وقيل : أراد أن يعرف الناس أن ذلك الموقف مكان التوبة ، وقيل : المعنى وتب على من اتبعنا .

قوله : ( حدثني عبد الله بن محمد ) هو الجعفي ، وهذا أحد الأحاديث التي أخرجها البخاري عن شيخه أبي عاصم النبيل بواسطة .

قوله : ( لما بنيت الكعبة ) هذا من مرسل الصحابي لأن جابرا لم يدرك هذه القصة ، فيحتمل أن يكون سمعها من النبي صلى الله عليه وسلم أو ممن حضرها من الصحابة ، وقد روى الطبراني وأبو نعيم في " الدلائل " من طريق ابن لهيعة ، عن أبي الزبير ، قال : سألت جابرا : هل يقوم الرجل عريانا ؟ فقال : أخبرني النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما انهدمت الكعبة نقل كل بطن من قريش ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم نقل مع العباس ، وكانوا يضعون ثيابهم على العواتق يتقوون بها - أي على حمل الحجارة - فقال النبي صلى الله عليه وسلم : فاعتقلت رجلي ، فخررت وسقط ثوبي ، فقلت للعباس : هلم ثوبي ، فلست أتعرى بعدها إلا إلى الغسل لكن ابن لهيعة ضعيف ، وقد تابعه عبد العزيز بن سليمان ، عن أبي الزبير ذكره أبو نعيم ، فإن كان محفوظا ، وإلا فقد [ ص: 516 ] حضره من الصحابة العباس كما في حديث الباب ، فلعل جابرا حمله عنه . وروى الطبراني أيضا والبيهقي في " الدلائل " من طريق عمرو بن أبي قيس ، والطبري في التهذيب من طريق هارون بن المغيرة ، وأبو نعيم في " المعرفة " من طريق قيس بن الربيع ، وفي " الدلائل " من طريق شعيب بن خالد ، كلهم عن سماك بن حرب ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، حدثني أبي العباس بن عبد المطلب ، قال : لما بنت قريش الكعبة انفردت رجلين رجلين ينقلون الحجارة ، فكنت أنا وابن أخي ، جعلنا نأخذ أزرنا فنضعها على مناكبنا ، ونجعل عليها الحجارة ، فإذا دنونا من الناس لبسنا أزرنا ، فبينما هو أمامي إذ صرع ، فسعيت وهو شاخص ببصره إلى السماء ، قال : فقلت لابن أخي : ما شأنك ؟ قال : نهيت أن أمشي عريانا ، قال : فكتمته حتى أظهر الله نبوته . تابعه الحكم بن أبان ، عن عكرمة أخرجه أبو نعيم أيضا ، وروى ذلك أيضا من طريق النضر أبي عمر ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، ليس فيه العباس ، وقال في آخره : " فكان أول شيء رأى من النبوة " والنضر ضعيف ، وقد خبط في إسناده وفي متنه ، فإنه جعل القصة في معالجة زمزم بأمر أبي طالب وهو غلام ، وكذا روى ابن إسحاق في " السيرة " عن أبيه عمن حدثه عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : إني لمع غلمان هم أسناني ، قد جعلنا أزرنا على أعناقنا لحجارة ننقلها إذ لكمني لاكم لكمة شديدة ، ثم قال : اشدد عليك إزارك . فكأن هذه قصة أخرى ، واغتر بذلك الأزرقي فحكى قولا : " إن النبي صلى الله عليه وسلم لما بنيت الكعبة كان غلاما " . ولعل عمدته في ذلك ما سيأتي عن معمر ، عن الزهري ، ولحديث معمر شاهد من حديث أبي الطفيل ، أخرجه عبد الرزاق ومن طريقه الحاكم ، والطبراني ، قال كانت الكعبة في الجاهلية مبنية بالرضم ليس فيها مدر ، وكانت قدر ما يقتحمها العناق ، وكانت ثيابها توضع عليها تسدل سدلا ، وكانت ذات ركنين كهيئة هذه الحلقة ، فأقبلت سفينة من الروم ، حتى إذا كانوا قريبا من جدة انكسرت ، فخرجت قريش لتأخذ خشبها فوجدوا الرومي الذي فيها نجارا ، فقدموا به وبالخشب ليبنوا به البيت ، فكانو كلما أرادوا القرب منه لهدمه بدت لهم حية فاتحة فاها ، فبعث الله طيرا أعظم من النسر ، فغرز مخالبه فيها ، فألقاها نحو أجياد ، فهدمت قريش الكعبة وبنوها بحجارة الوادي ، فرفعوها في السماء عشرين ذراعا . فبينما النبي صلى الله عليه وسلم يحمل الحجارة من أجياد وعليه نمرة فضاقت عليه النمرة ، فذهب يضعها على عاتقه فبدت عورته من صغرها ، فنودي : يا محمد خمر عورتك ، فلم ير عريانا بعد ذلك ، وكان بين ذلك وبين المبعث خمس سنين ، قال معمر : وأما الزهري فقال لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم الحلم أجمرت امرأة الكعبة فطارت شرارة من مجمرها في ثياب الكعبة فاحترقت ، فتشاورت قريش في هدمها وهابوه ، فقال الوليد : إن الله لا يهلك من يريد الإصلاح ، فارتقى على ظاهر البيت ومعه العباس فقال : اللهم لا نريد إلا الإصلاح ، ثم هدم . فلما رأوه سالما تابعوه قال عبد الرزاق : وأخبرنا ابن جريج قال : قال مجاهد : " كان ذلك قبل المبعث بخمس عشرة سنة " . وكذا رواه ابن عبد البر من طريق محمد بن جبير بن مطعم بإسناد له ، وبه جزم موسى بن عقبة في مغازيه ، والأول أشهر ، وبه جزم ابن إسحاق . ويمكن الجمع بينهما بأن يكون الحريق تقدم وقته على الشروع في البناء ، وذكر ابن إسحاق أن السيل كان يأتي فيصيب الكعبة فيتساقط من بنائها ، وكان رضما فوق القامة ، فأرادت قريش رفعها وتسقيفها ، وذلك أن نفرا سرقوا كنز الكعبة " . فذكر القصة مطولة في بنائهم الكعبة ، وفي اختلافهم فيمن يضع الحجر الأسود حتى رضوا بأول داخل ، [ ص: 517 ] ، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم ، فحكموه في ذلك ، فوضعه بيده . قال : " وكانت الكعبة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ثمانية عشر ذراعا ، ووقع عند الطبراني من طريق أخرى عن ابن خثيم ، عن أبي الطفيل أن اسم النجار المذكور باقوم ، وللفاكهي من طريق ابن جريج مثله ، قال : " وكان يتجر إلى بندر وراء ساحل عدن ، فانكسرت سفينته بالشعيبة ، فقال لقريش : إن أجريتم عيري مع عيركم إلى الشام أعطيتكم الخشب ، ففعلوا " . وروى سفيان بن عيينة في جامعه عن عمرو بن دينار أنه سمع عبيد بن عمير يقول : " اسم الذي بنى الكعبة لقريش باقوم ، وكان روميا " . وقال الأزرقي : " كان طولها سبعة وعشرين ذراعا ، فاقتصرت قريش منها على ثمانية عشر ، ونقصوا من عرضها أذرعا أدخلوها في الحجر " .

قوله : ( فخر إلى الأرض ) في رواية زكريا بن إسحاق ، عن عمرو بن دينار الماضية في " باب كراهية التعري " من أوائل الصلاة : " فجعله على منكبه ، فسقط مغشيا عليه " .

قوله : ( فطمحت عيناه ) بفتح المهملة والميم أي ارتفعتا ، والمعنى أنه صار ينظر إلى فوق . وفي رواية عبد الرزاق ، عن ابن جريج في أوائل السيرة النبوية : " ثم أفاق فقال " .

قوله : ( أرني إزاري ) أي أعطني ، وحكى ابن التين كسر الراء وسكونها ، وقد قرئ بهما ، وفي رواية عبد الرزاق الآتية : " إزاري إزاري " . بالتكرير .

قوله : ( فشده عليه ) زاد زكريا بن إسحاق " فما رئي بعد ذلك عريانا " . وقد تقدم شاهدها من حديث أبي الطفيل .

الحديث الثاني : ساقه من أربعة طرق .

التالي السابق


الخدمات العلمية