صفحة جزء
باب إذا أهدى للمحرم حمارا وحشيا حيا لم يقبل

1729 حدثنا عبد الله بن يوسف أخبرنا مالك عن ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن عبد الله بن عباس عن الصعب بن جثامة الليثي أنه أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم حمارا وحشيا وهو بالأبواء أو بودان فرده عليه فلما رأى ما في وجهه قال إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم
[ ص: 39 ] قوله : ( باب : إذا أهدى ) أي : الحلال ( للمحرم حمارا وحشيا حيا لم يقبل ) كذا قيده في الترجمة بكونه حيا ، وفيه إشارة إلى أن الرواية التي تدل على أنه كان مذبوحا موهمة ، وسأبين ما في ذلك إن شاء الله تعالى .

قوله : ( عن ابن شهاب إلخ ) لم يختلف على مالك في سياقه معنعنا وأنه من مسند الصعب إلا ما وقع في " موطأ ابن وهب " فإنه قال في روايته عن ابن عباس : " إن الصعب بن جثامة أهدى " فجعله من مسند ابن عباس ، نبه على ذلك الدارقطني في " الموطآت " وكذا أخرجه مسلم من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : " أهدى الصعب " والمحفوظ في حديث مالك الأول ، وسيأتي للمصنف في الهبة من طريق شعيب ، عن الزهري قال : " أخبرني عبيد الله أن ابن عباس أخبره أنه سمع الصعب - وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم - يخبر أنه أهدى " والصعب بفتح الصاد وسكون العين المهملتين بعدها موحدة ، وأبوه جثامة بفتح الجيم وتثقيل المثلثة ، وهو من بني ليث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة ، وكان ابن أخت أبي سفيان بن حرب ، أمه زينب بنت حرب بن أمية ، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - آخى بينه وبين عوف بن مالك .

قوله : ( حمارا وحشيا ) لم تختلف الرواة عن مالك في ذلك ، وتابعه عامة الرواة عن الزهري ، وخالفهم ابن عيينة ، عن الزهري فقال : " لحم حمار وحش " أخرجه مسلم ، لكن بين الحميدي صاحب سفيان أنه كان يقول في هذا الحديث : " حمار وحش " ثم صار يقول : " لحم حمار وحش " فدل على اضطرابه فيه ، وقد توبع على قوله : " لحم حمار وحش " من أوجه فيها مقال ، منها ما أخرجه الطبراني من طريق عمرو بن دينار ، عن الزهري لكن إسناده ضعيف ، وقال إسحاق في مسنده : أخبرنا الفضل بن موسى ، ، عن محمد بن عمرو بن علقمة ، ، عن الزهري فقال : " لحم حمار " وقد خالفه خالد الواسطي ، عن محمد بن عمرو فقال : " حمار وحش " كالأكثر ، وأخرجه الطبراني من طريق ابن إسحاق ، عن الزهري فقال : " رجل حمار وحش " وابن إسحاق حسن الحديث إلا أنه لا يحتج به إذا خولف ، ويدل على وهم من قال فيه عن الزهري ذلك ابن جريج قال : " قلت للزهري : الحمار عقير؟ قال : لا أدري " . أخرجه ابن خزيمة وابن عوانة في " صحيحيهما " .

وقد جاء عن ابن عباس من وجه آخر أن الذي أهداه الصعب لحم حمار ، فأخرجه مسلم من طريق الحاكم ، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : " أهدى الصعب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - رجل حمار " وفي رواية عنده : " عجز حمار وحش يقطر دما " وأخرجه أيضا من طريق حبيب بن أبي ثابت ، عن سعيد قال تارة : " حمار وحش " وتارة : " شق حمار " ويقوي ذلك ما أخرجه مسلم أيضا من طريق طاوس عن ابن عباس قال : " قدم زيد بن أرقم ، فقال له عبد الله بن عباس يستذكره : كيف أخبرتني عن لحم صيد أهدي لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو حرام؟ قال : أهدي له عضو من لحم صيد فرده وقال : إنا لا نأكله ، إنا حرم " . وأخرجه أبو داود ، وابن حبان من طريق عطاء عن ابن عباس أنه قال : " يا زيد بن أرقم ، هل علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم " فذكره .

واتفقت الروايات كلها على أنه رده عليه ، إلا ما رواه ابن وهب والبيهقي من طريقه بإسناد حسن من طريق عمرو بن أمية : " أن الصعب أهدى للنبي - صلى الله عليه وسلم - عجز حمار وحش وهو بالجحفة فأكل منه وأكل القوم " قال البيهقي : إن كان هذا [ ص: 40 ] محفوظا فلعله رد الحي وقبل اللحم . قلت : وفي هذا الجمع نظر لما بينته ، فإن كانت الطرق كلها محفوظة فلعله رده حيا لكونه صيد لأجله ، ورد اللحم تارة لذلك ، وقبله تارة أخرى ، حيث علم أنه لم يصد لأجله ، وقد قال الشافعي في " الأم " : إن كان الصعب أهدى له حمارا حيا ، فليس للمحرم أن يذبح حمار وحش حيا ، وإن كان أهدى له لحما فقد يحتمل أن يكون علم أنه صيد له .

ونقل الترمذي ، عن الشافعي أنه رده لظنه أنه صيد من أجله فتركه على وجه التنزه . ويحتمل أن يحمل القبول المذكور في حديث عمرو بن أمية على وقت آخر وهو حال رجوعه - صلى الله عليه وسلم - من مكة ، ويؤيده أنه جازم فيه بوقوع ذلك بالجحفة ، وفي غيرها من الروايات بالأبواء أو بودان ، وقال القرطبي : يحتمل أن يكون الصعب أحضر الحمار مذبوحا ثم قطع منه عضوا بحضرة النبي - صلى الله عليه وسلم - فقدمه له ، فمن قال : " أهدى حمارا " ، أراد بتمامه مذبوحا حيا ، ومن قال : " لحم حمار " أراد ما قدمه للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ويحتمل أن يكون من قال : " حمارا " أطلق وأراد بعضه مجازا . قال ويحتمل أنه أهداه له حيا ، فلما رده عليه ذكاه وأتاه بعضو منه ظانا أنه إنما رده عليه لمعنى يختص بجملته ، فأعلمه بامتناعه أن حكم الجزء من الصيد حكم الكل ، قال : والجمع مهما أمكن أولى من توهيم بعض الروايات . وقال النووي : ترجم البخاري بكون الحمار حيا ، وليس في سياق الحديث تصريح بذلك ، وكذا نقلوا هذا التأويل عن مالك ، وهو باطل ؛ لأن الروايات التي ذكرها مسلم صريحة في أنه مذبوح . انتهى .

وإذا تأملت ما تقدم لم يحسن إطلاقه بطلان التأويل المذكور ولا سيما في رواية الزهري التي هي عمدة هذا الباب ، وقد قال الشافعي في " الأم " : حديث مالك " أن الصعب أهدى حمارا " أثبت من حديث من روى أنه أهدى لحم حمار ، وقال الترمذي : روى بعض أصحاب الزهري في حديث الصعب : " لحم حمار وحش " وهو غير محفوظ .

قوله : ( بالأبواء ) بفتح الهمزة وسكون الموحدة وبالمد : جبل من عمل الفرع بضم الفاء والراء بعدها مهملة ، قيل : سمي الأبواء لوبائه على القلب ، وقيل : لأن السيول تتبوؤه أي : تحله .

قوله : ( أو بودان ) شك من الراوي ، وهو بفتح الواو وتشديد الدال وآخرها نون موضع بقرب الجحفة ، وقد سبق في حديث عمرو بن أمية أنه كان بالجحفة ، وودان أقرب إلى الجحفة من الأبواء فإن من الأبواء إلى الجحفة للآتي من المدينة ثلاثة وعشرين ميلا ، ومن ودان إلى الجحفة ثمانية أميال ، وبالشك جزم أكثر الرواة ، وجزم ابن إسحاق وصالح بن كيسان ، عن الزهري بودان ، وجزم معمر وعبد الرحمن بن إسحاق ومحمد بن عمرو بالأبواء ، والذي يظهر لي أن الشك فيه من ابن عباس لأن الطبراني أخرج الحديث من طريق عطاء عنه على الشك أيضا .

قوله : ( فلما رأى ما في وجهه ) في رواية شعيب : " فلما عرف في وجهي رده هديتي " . وفي رواية الليث ، عن الزهري عند الترمذي : " فلما رأى ما في وجهه من الكراهية " وكذا لابن خزيمة من طريق ابن جريج المذكورة .

قوله : ( إنا لم نرده عليك ) في رواية شعيب وابن جريج : " ليس بنا رد عليك " وفي رواية عبد الرحمن بن إسحاق ، عن الزهري عند الطبراني : إنا لم نرده عليك كراهية له ، ولكنا حرم . قال عياض : ضبطناه في [ ص: 41 ] الروايات : " لم نرده " بفتح الدال ، وأبى ذلك المحققون من أهل العربية ، وقالوا : الصواب أنه بضم الدال ؛ لأن المضاعف من المجزوم يراعى فيه الواو التي توجبها له ضمة الهاء بعدها . قال : وليس الفتح بغلط ، بل ذكره ثعلب في الفصيح . نعم تعقبوه عليه بأنه ضعيف ، وأوهم صنيعه أنه فصيح ، وأجازوا أيضا الكسر وهو أضعف الأوجه . قلت : ووقع في رواية الكشميهني بفك الإدغام " لم نردده " بضم الأولى وسكون الثانية ولا إشكال فيه .

قوله : ( إلا أنا حرم ) زاد صالح بن كيسان عند النسائي : لا نأكل الصيد ، وفي رواية سعيد عن ابن عباس : لولا أنا محرمون لقبلناه منك واستدل بهذا الحديث على تحريم الأكل من لحم الصيد على المحرم مطلقا ؛ لأنه اقتصر في التعليل على كونه محرما ، فدل على أنه سبب الامتناع خاصة ، وهو قول علي وابن عباس وابن عمر والليث والثوري وإسحاق لحديث الصعب هذا ، ولما أخرجه أبو داود وغيره من حديث علي : " أنه قال لناس من أشجع : أتعلمون أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أهدي له رجل حمار وحش وهو محرم فأبى أن يأكله؟ قالوا : نعم " لكن يعارض هذا الظاهر ما أخرجه مسلم أيضا من حديث طلحة أنه : " أهدي له لحم طير وهو محرم ، فوقف من أكله وقال أكلناه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم " .

وحديث أبي قتادة المذكور في الباب قبله ، وحديث عمير بن سلمة : أن البهزي أهدى للنبي - صلى الله عليه وسلم - ظبيا وهو محرم ، فأمر أبا بكر أن يقسمه بين الرفاق ، أخرجه مالك وأصحاب السنن وصححه ابن خزيمة وغيره ، وبالجواز مطلقا قال الكوفيون وطائفة من السلف ، وجمع الجمهور بين ما اختلف من ذلك بأن أحاديث القبول محمولة على ما يصيده الحلال لنفسه ثم يهدي منه للمحرم ، وأحاديث الرد محمولة على ما صاده الحلال لأجل المحرم . قالوا : والسبب في الاقتصار على الإحرام عند الاعتذار للصعب أن الصيد لا يحرم على المرء إذا صيد له إلا إذا كان محرما ، فبين الشرط الأصلي وسكت عما عداه فلم يدل على نفيه ، وقد بينه في الأحاديث الأخر . ويؤيد هذا الجمع حديث جابر مرفوعا : صيد البر لكم حلال ما لم تصيدوه أو يصد لكم أخرجه الترمذي والنسائي وابن خزيمة .

قلت : وقد تقدم أن عند النسائي من رواية صالح بن كيسان : " إنا حرم ؛ لا نأكل الصيد " فبين العلتين جميعا ، وجاء عن مالك تفصيل آخر بين ما صيد للمحرم قبل إحرامه يجوز له الأكل منه أو بعد إحرامه فلا ، وعن عثمان التفصيل بين ما يصاد لأجله من المحرمين فيمتنع عليه ، ولا يمتنع على محرم آخر . وقال ابن المنير في " الحاشية " : حديث الصعب يشكل على مالك ؛ لأنه يقول : ما صيد من أجل المحرم يحرم على المحرم وعلى غير المحرم ، فيمكن أن يقال : قوله : " فرده عليه " لا يستلزم أنه أباح له أكله ، بل يجوز أن يكون أمره بإرساله إن كان حيا وطرحه إن كان مذبوحا ، فإن السكوت عن الحكم لا يدل على الحكم بضده ، وتعقب بأنه وقت البيان ، فلو لم يجز له الانتفاع به لم يرده عليه أصلا إذ لا اختصاص له به . وفي حديث الصعب الحكم بالعلامة لقوله : " فلما رأى ما في وجهي " . وفيه جواز رد الهدية لعلة ، وترجم له المصنف : " من رد الهدية لعلة " وفيه الاعتذار عن رد الهدية تطييبا لقلب المهدي ، وأن الهبة لا تدخل في الملك إلا بالقبول ، وأن قدرته على تملكها لا تصيره مالكا لها ، وأن على المحرم أن يرسل ما في يده من الصيد الممتنع عليه اصطياده .

التالي السابق


الخدمات العلمية