صفحة جزء
باب إذا نوى بالنهار صوما وقالت أم الدرداء كان أبو الدرداء يقول عندكم طعام فإن قلنا لا قال فإني صائم يومي هذا وفعله أبو طلحة وأبو هريرة وابن عباس وحذيفة رضي الله عنهم

1824 حدثنا أبو عاصم عن يزيد بن أبي عبيد عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث رجلا ينادي في الناس يوم عاشوراء إن من أكل فليتم أو فليصم ومن لم يأكل فلا يأكل
[ ص: 167 ] قوله : ( باب إذا نوى بالنهار صوما ) أي : هل يصح مطلقا أو لا؟ وللعلماء في ذلك اختلاف ، فمنهم من فرق بين الفرض والنفل ، ومنهم من خص جواز النفل بما قبل الزوال ، وسيأتي بيان ذلك .

قوله : ( وقالت أم الدرداء كان أبو الدرداء يقول : عندكم طعام؟ فإن قلنا : لا ، قال : فإني صائم يومي هذا ) وصله ابن أبي شيبة من طريق أبي قلابة عن أم الدرداء قالت : " كان أبو الدرداء يغدونا أحيانا ضحى فيسأل الغداء ، فربما لم يوافقه عندنا فيقول : إذا أنا صائم " وروى عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن أبي إدريس وعن أيوب عن أبي قلابة عن أم الدرداء ، وعن معمر عن قتادة : " أن أبا الدرداء كان إذا أصبح سأل أهله الغداء ، فإن لم يكن قال : أنا صائم " ، وعن ابن جريج عن عطاء عن أم الدرداء عن أبي الدرداء أنه " كان يأتي أهله حين ينتصف النهار " فذكر نحوه ، ومن طريق شهر بن حوشب عن أم الدرداء عن أبي الدرداء أنه " كان ربما دعا بالغداء فلا يجده ، فيفرض عليه الصوم ذلك اليوم " .

قوله : ( وفعله أبو طلحة وأبو هريرة وابن عباس وحذيفة ) أما أثر أبي طلحة فوصله عبد الرزاق من طريق قتادة وابن أبي شيبة من طريق حميد كلاهما عن أنس ، ولفظ قتادة " أن أبا طلحة كان يأتي أهله فيقول : هل من غداء؟ فإن قالوا : لا . صام يومه ذلك " قال قتادة : وكان معاذ بن جبل يفعله ، ولفظ حميد نحوه وزاد : " وإن كان عندهم أفطر " ولم يذكر قصة معاذ . وأما أثر أبي هريرة فوصله البيهقي من طريق ابن أبي ذئب عن حمزة >[1] عن يحيى عن سعيد بن المسيب قال : " رأيت أبا هريرة يطوف بالسوق ، ثم يأتي أهله فيقول : عندكم شيء؟ فإن قالوا : لا . قال : فأنا صائم " ورواه عبد الرزاق بسند آخر فيه انقطاع أن أبا هريرة وأبا طلحة ، فذكر معناه .

وأما أثر ابن عباس فوصله الطحاوي من طريق عمرو بن أبي عمرو عن عكرمة عن ابن عباس أنه : " كان يصبح حتى يظهر ثم يقول : والله لقد أصبحت وما أريد الصوم ، وما أكلت من طعام ولا شراب منذ اليوم ، ولأصومن يومي هذا " وأما أثر حذيفة فوصله عبد الرزاق وابن أبي شيبة من طريق سعد بن عبيدة عن أبي عبد الرحمن السلمي قال قال حذيفة : " من بدا له الصيام بعد ما تزول الشمس فليصم " وفي رواية ابن أبي شيبة : " أن حذيفة بدا له في الصوم بعدما زالت الشمس فصام " وقد جاء [ ص: 168 ] نحو ما ذكرنا عن أبي الدرداء مرفوعا من حديث عائشة أخرجه مسلم وأصحاب السنن من طريق طلحة بن يحيى بن طلحة عن عمته عائشة بنت طلحة ، وفي رواية له : " حدثتني عائشة بنت طلحة عن عائشة أم المؤمنين قالت : دخل علي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم فقال : هل عندكم شيء؟ قلنا : لا . قال : فإني إذا صائم " الحديث . ورواه النسائي والطيالسي من طريق سماك عن عكرمة عن عائشة نحوه ولم يسم النسائي عكرمة . قال النووي : في هذا الحديث دليل للجمهور في أن صوم النافلة يجوز بنية في النهار قبل زوال الشمس ، وتأوله الآخرون على أن سؤاله : هل عندكم شيء لكونه كان نوى الصوم من الليل ثم ضعف عنه وأراد الفطر لذلك . قال وهو تأويل فاسد وتكلف بعيد .

وقال ابن المنذر : اختلفوا فيمن أصبح يريد الإفطار ، ثم بدا له أن يصوم تطوعا . فقالت طائفة : له أن يصوم متى بدا له ، فذكر عمن تقدم ، وزاد ابن مسعود وأبا أيوب وغيرهما ، وساق ذلك بأسانيده إليهم . قال وبه قال الشافعي وأحمد ، قال وقال ابن عمر : " لا يصوم تطوعا حتى يجمع من الليل أو يتسحر " وقال مالك في النافلة : " لا يصوم إلا أن يبيت ، إلا إن كان يسرد الصوم فلا يحتاج إلى التبييت " وقال أهل الرأي : من أصبح مفطرا ثم بدا له أن يصوم قبل منتصف النهار أجزأه ، وإن بدا له ذلك بعد الزوال لم يجزه . قلت : وهذا هو الأصح عند الشافعية ، والذي نقله ابن المنذر عن الشافعي من الجواز مطلقا سواء كان قبل الزوال أو بعده هو أحد القولين للشافعي ، والذي نص عليه في معظم كتبه التفرقة ، والمعروف عن مالك والليث وابن أبي ذئب أنه لا يصح صيام التطوع إلا بنية من الليل .

قوله : ( عن سلمة بن الأكوع ) في رواية يحيى وهو القطان : " عن يزيد بن أبي عبيد حدثنا سلمة بن الأكوع " كما سيأتي في خبر الواحد .

قوله : ( إن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث رجلا ينادي في الناس ) في رواية يحيى : " قال لرجل من أسلم : أذن في قومك " واسم هذا الرجل هند بن أسماء بن حارثة الأسلمي له ولأبيه ولعمه هند بن حارثة صحبة ، أخرج حديثه أحمد وابن أبي خيثمة من طريق ابن إسحاق " حدثني عبد الله بن أبي بكر عن حبيب بن هند بن أسماء الأسلمي عن أبيه قال : بعثني النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى قومي من أسلم فقال : مر قومك أن يصوموا هذا اليوم يوم عاشوراء ، فمن وجدته منهم قد أكل في أول يومه فليصم آخره " وروى أحمد أيضا من طريق عبد الرحمن بن حرملة عن يحيى بن هند قال : وكان هند من أصحاب الحديبية وأخوه الذي بعثه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمر قومه بالصيام يوم عاشوراء ، قال : " فحدثني يحيى بن هند عن أسماء بن حارثة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعثه فقال : مر قومك بصيام هذا اليوم . قال : أرأيت إن وجدتهم قد طعموا؟ قال : فليتموا آخر يومهم " قلت : فيحتمل أن يكون كل من أسماء وولده هند أرسلا بذلك ، ويحتمل أن يكون أطلق في الرواية الأولى على الجد اسم الأب فيكون الحديث من رواية حبيب بن هند عن جده أسماء فتتحد الروايتان ، والله أعلم .

واستدل بحديث سلمة هذا على صحة الصيام لمن لم ينوه من الليل ، سواء كان رمضان أو غيره ؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - أمر بالصوم في أثناء النهار ، فدل على أن النية لا تشترط من الليل ، وأجيب بأن ذلك يتوقف على أن صيام عاشوراء كان واجبا ، والذي يترجح من أقوال العلماء أنه لم يكن فرضا ، وعلى تقدير أنه كان فرضا فقد نسخ بلا ريب ، فنسخ حكمه وشرائطه ، بدليل قوله : [ ص: 169 ] " ومن أكل فليتم " ومن لا يشترط النية من الليل لا يجيز صيام من أكل من النهار ، وصرح ابن حبيب من المالكية بأن ترك التبييت لصوم عاشوراء من خصائص عاشوراء ، وعلى تقدير أن حكمه باق فالأمر بالإمساك لا يستلزم الإجزاء فيحتمل أن يكون أمر بالإمساك لحرمة الوقت كما يؤمر من قدم من سفر في رمضان نهارا وكما يؤمر من أفطر يوم الشك ثم رأى الهلال ، وكل ذلك لا ينافي أمرهم بالقضاء ، بل ورد ذلك صريحا في حديث أخرجه أبو داود والنسائي من طريق قتادة عن عبد الرحمن بن سلمة عن عمه أن أسلم أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : صمتم يومكم هذا؟ قالوا : لا . قال : فأتموا بقية يومكم واقضوه " وعلى تقدير أن لا يثبت هذا الحديث في الأمر بالقضاء فلا يتعين ترك القضاء ؛ لأن من لم يدرك اليوم بكماله لا يلزمه القضاء كمن بلغ أو أسلم في أثناء النهار .

واحتج الجمهور لاشتراط النية في الصوم من الليل بما أخرجه أصحاب السنن من حديث عبد الله بن عمر عن أخته حفصة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : من لم يبيت الصيام من الليل فلا صيام له لفظ النسائي ، ولأبي داود والترمذي : من لم يجمع الصيام قبل الفجر فلا صيام له واختلف في رفعه ووقفه ، ورجح الترمذي والنسائي الموقوف بعد أن أطنب النسائي في تخريج طرقه ، وحكى الترمذي في " العلل " عن البخاري ترجيح وقفه .

وعمل بظاهر الإسناد جماعة من الأئمة فصححوا الحديث المذكور ، منهم ابن خزيمة وابن حبان والحاكم وابن حزم ، وروى له الدارقطني طريقا آخر ، وقال : رجالها ثقات ، وأبعد من خصه من الحنفية بصيام القضاء والنذر ، وأبعد من ذلك تفرقة الطحاوي بين صوم الفرض إذا كان في يوم بعينه كعاشوراء فتجزئ النية في النهار ، أو لا في يوم بعينه كرمضان ، فلا يجزئ إلا بنية من الليل ، وبين صوم التطوع فيجزئ في الليل وفي النهار . وقد تعقبه إمام الحرمين بأنه كلام غث لا أصل له . وقال ابن قدامة : تعتبر النية في رمضان لكل يوم في قول الجمهور ، وعن أحمد أنه يجزئه نية واحدة لجميع الشهر ; وهو كقول مالك وإسحاق ، وقال زفر >[2] زفر مثل مالك " . يصح صوم رمضان في حق المقيم الصحيح بغير نية وبه قال عطاء ومجاهد ، واحتج زفر بأنه لا يصح فيه غير صوم رمضان لتعينه ، فلا يفتقر إلى نية ؛ لأن الزمن معيار له فلا يتصور في يوم واحد إلا صوم واحد .

وقال أبو بكر الرازي : يلزم قائل هذا أن يصحح صوم المغمى عليه في رمضان إذا لم يأكل ولم يشرب لوجود الإمساك بغير نية ، قال : فإن التزمه كان مستشنعا . وقال غيره : يلزمه أن من أخر الصلاة حتى لم يبق من وقتها إلا قدرها فصلى حينئذ تطوعا أنه يجزئه عن الفرض . واستدل ابن حزم بحديث سلمة على أن من ثبت له هلال رمضان بالنهار جاز له استدراك النية حينئذ ويجزئه ، وبناه على أن عاشوراء كان فرضا أولا ، وقد أمروا أن يمسكوا في أثناء النهار . قال : وحكم الفرض لا يتغير ، ولا يخفى ما يرد عليه مما قدمناه ، وألحق بذلك من نسي أن ينوي من الليل لاستواء حكم الجاهل والناسي .

التالي السابق


الخدمات العلمية