صفحة جزء
باب إذا صام أياما من رمضان ثم سافر

1842 حدثنا عبد الله بن يوسف أخبرنا مالك عن ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى مكة في رمضان فصام حتى بلغ الكديد أفطر فأفطر الناس قال أبو عبد الله والكديد ماء بين عسفان وقديد
[ ص: 213 ] قوله : ( باب إذا صام أياما من رمضان ثم سافر ) أي : هل يباح له الفطر أو لا؟ وكأنه أشار إلى تضعيف ما روي عن علي ، وإلى رد ما روي عن غيره في ذلك . قال ابن المنذر : روي عن علي بإسناد ضعيف ، وقال به عبيدة بن عمرو وأبو مجلز وغيرهما ونقله النووي عن أبي مجلز وحده ، ووقع في بعض الشروح أبو عبيدة وهو وهم ، قالوا : إن من استهل عليه رمضان في الحضر ، ثم سافر بعد ذلك فليس له أن يفطر ؛ لقوله تعالى : فمن شهد منكم الشهر فليصمه قال : وقال أكثر أهل العلم : لا فرق بينه وبين من استهل رمضان في السفر ، ثم ساق ابن المنذر بإسناد صحيح عن ابن عمر قال : قوله تعالى : فمن شهد منكم الشهر فليصمه نسخها قوله تعالى : ومن كان مريضا أو على سفر الآية . ثم احتج للجمهور بحديث ابن عباس المذكور في هذا الباب .

قوله : ( خرج إلى مكة ) كان ذلك في غزوة الفتح كما سيأتي .

قوله : ( فلما بلغ الكديد ) بفتح الكاف وكسر الدال المهملة مكان معروف وقع تفسيره في نفس الحديث بأنه بين عسفان وقديد ، يعني : بضم القاف على التصغير . ووقع في رواية المستملي وحده نسبة هذا التفسير للبخاري ، لكن سيأتي في المغازي موصولا من وجه آخر في نفس الحديث ، وسيأتي قريبا عن ابن عباس من وجه آخر : " حتى بلغ عسفان " بدل الكديد ، وفيه مجاز القرب ؛ لأن الكديد أقرب إلى المدينة من عسفان ، وبين الكديد ومكة مرحلتان ، قال البكري : هو بين أمج - بفتحتين وجيم - وعسفان وهو ماء عليه نخل كثير .

ووقع عند مسلم في حديث جابر : " فلما بلغ كراع الغميم " هو بضم الكاف ، والغميم بفتح المعجمة ، وهو اسم واد أمام عسفان ، قال عياض : اختلفت الروايات في الموضع الذي أفطر - صلى الله عليه وسلم - فيه ، والكل في قصة واحدة وكلها متقاربة ، والجميع من عمل عسفان ا هـ .

وسيأتي في المغازي من طريق معمر عن الزهري سياق هذا الحديث أوضح من رواية مالك ، ولفظ رواية معمر : خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - في رمضان من المدينة ومعه عشرة آلاف من المسلمين ، وذلك على رأس ثمان سنين ونصف من مقدمة المدينة فسار ومن معه من المسلمين يصوم ويصومون حتى بلغ الكديد فأفطر وأفطروا ، قال الزهري : وإنما يؤخذ بالآخرة فالآخرة من أمره - صلى الله عليه وسلم - ، وهذه الزيادة التي في آخره من قول الزهري ، وقعت مدرجة عند مسلم من طريق الليث عن الزهري ولفظه : " حتى بلغ الكديد أفطر ، قال : وكان صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتبعون الأحدث فالأحدث من أمره " وأخرجه من طريق سفيان عن الزهري قال مثله ، قال سفيان : لا أدري من قول من هو . ثم أخرجه من طريق معمر ومن [ ص: 214 ] طريق يونس كلاهما عن الزهري ، وبينا أنه من قول الزهري ، وبذلك جزم البخاري في الجهاد ، وظاهره أن الزهري ذهب إلى أن الصوم في السفر منسوخ ولم يوافق على ذلك كما سيأتي قريبا .

وأخرج البخاري في المغازي أيضا من طريق خالد الحذاء عن عكرمة عن ابن عباس قال : خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - في رمضان والناس صائم ومفطر ، فلما استوى على راحلته دعا بإناء من لبن أو ماء فوضعه على راحلته ثم نظر الناس زاد في رواية أخرى من طريق طاوس عن ابن عباس : ثم دعا بماء فشرب نهارا ليراه الناس وأخرجه الطحاوي من طريق أبي الأسود عن عكرمة أوضح من سياق خالد ولفظه : فلما بلغ الكديد بلغه أن الناس يشق عليهم الصيام ، فدعا بقدح من لبن فأمسكه بيده حتى رآه الناس وهو على راحلته ثم شرب فأفطر ، فناوله رجلا إلى جنبه فشرب ولمسلم من طريق الدراوردي عن جعفر بن محمد بن علي عن أبيه عن جابر في هذا الحديث " فقيل له : إن الناس قد شق عليهم الصيام وإنما ينظرون فيما فعلت ، فدعا بقدح من ماء بعد العصر " وله من وجه آخر عن جعفر : " ثم شرب فقيل له بعد ذلك : إن بعض الناس قد صام فقال : أولئك العصاة " واستدل بهذا الحديث على تحتم الفطر في السفر ، ولا دلالة فيه كما سيأتي . واستدل به على أن للمسافر أن يفطر في أثناء النهار ولو استهل رمضان في الحضر والحديث نص في الجواز إذ لا خلاف أنه - صلى الله عليه وسلم - استهل رمضان في عام غزوة الفتح وهو بالمدينة ، ثم سافر في أثنائه .

ووقع في رواية ابن إسحاق في المغازي عن الزهري في حديث الباب أنه خرج لعشر مضين من رمضان ، ووقع في مسلم من حديث أبي سعيد اختلاف من الرواة في ضبط ذلك ، والذي اتفق عليه أهل السير أنه خرج في عاشر رمضان ودخل مكة لتسع عشرة ليلة خلت منه ، واستدل به على أن للمرء أن يفطر ، ولو نوى الصيام من الليل وأصبح صائما فله أن يفطر في أثناء النهار ، وهو قول الجمهور وقطع به أكثر الشافعية ، وفي وجه ليس له أن يفطر ، وكأن مستند قائله ما وقع في البويطي من تعليق القول به على صحة حديث ابن عباس هذا ، وهذا كله فيما لو نوى الصوم في السفر ، فأما لو نوى الصوم وهو مقيم ثم سافر في أثناء النهار فهل له أن يفطر في ذلك النهار؟ منعه الجمهور ، وقال أحمد وإسحاق بالجواز ، واختاره المزني محتجا بهذا الحديث ، فقيل له : قال كذلك ظنا منه أنه - صلى الله عليه وسلم - أفطر في اليوم الذي خرج فيه من المدينة ، وليس كذلك ، فإن بين المدينة والكديد عدة أيام .

وقد وقع في البويطي مثل ما وقع عند المزني فسلم المزني ، وأبلغ من ذلك ما رواه ابن أبي شيبة والبيهقي عن أنس أنه كان إذا أراد السفر يفطر في الحضر قبل أن يركب . ثم لا فرق عند المجيزين في الفطر بكل مفطر ، وفرق أحمد في المشهور عنه بين الفطر بالجماع وغيره فمنعه في الجماع ، قال : فلو جامع فعليه الكفارة إلا إن أفطر بغير الجماع قبل الجماع ، واعترض بعض المانعين في أصل المسألة فقال : ليس في الحديث دلالة على أنه - صلى الله عليه وسلم - نوى الصيام في ليله اليوم الذي أفطر فيه ، فيحتمل أن يكون نوى أن يصبح مفطرا ثم أظهر الإفطار ليفطر الناس ، لكن سياق الأحاديث ظاهر في أنه كان أصبح صائما ثم أفطر . وقد روى ابن خزيمة وغيره من طريق أبي سلمة عن أبي هريرة قال : " كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - بمر الظهران ، فأتي بطعام فقال لأبي بكر وعمر : ادنوا فكلا . فقالا : إنا صائمان ، فقال : اعملوا لصاحبيكم ، ارحلوا لصاحبيكم ادنوا فكلا " قال ابن خزيمة : فيه دليل على أن للصائم في السفر الفطر بعد مضي بعض النهار .

[ ص: 215 ] ( تنبيه ) : قال القابسي : هذا الحديث من مرسلات الصحابة ؛ لأن ابن عباس كان في هذه السفرة مقيما مع أبويه بمكة فلم يشاهد هذه القصة ، فكأنه سمعها من غيره من الصحابة .

التالي السابق


الخدمات العلمية