صفحة جزء
باب حق الأهل في الصوم رواه أبو جحيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم

1876 حدثنا عمرو بن علي أخبرنا أبو عاصم عن ابن جريج سمعت عطاء أن أبا العباس الشاعر أخبره أنه سمع عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم أني أسرد الصوم وأصلي الليل فإما أرسل إلي وإما لقيته فقال ألم أخبر أنك تصوم ولا تفطر وتصلي فصم وأفطر وقم ونم فإن لعينك عليك حظا وإن لنفسك وأهلك عليك حظا قال إني لأقوى لذلك قال فصم صيام داود عليه السلام قال وكيف قال كان يصوم يوما ويفطر يوما ولا يفر إذا لاقى قال من لي بهذه يا نبي الله قال عطاء لا أدري كيف ذكر صيام الأبد قال النبي صلى الله عليه وسلم لا صام من صام الأبد مرتين
قوله : ( باب حق الأهل في الصوم رواه أبو جحيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم ) يعني : حديث أبي جحيفة في قصة سلمان وأبي الدرداء التي تقدمت قبل خمسة أبواب ، وفيها قول سلمان لأبي الدرداء " وإن لأهلك عليك حقا " وأقره النبي - صلى الله عليه وسلم - على ذلك ، وقد تقدم الكلام عليه قبل .

قوله : ( حدثنا عمرو بن علي ) الفلاس ، وأبو عاصم هو الضحاك بن مخلد النبيل وهو من شيوخ البخاري الذين أكثر عنهم ، وربما روى عنه بواسطة ما فاته منه كما في هذا الموضع ، وكأنه اختار النزول من طريقه هذه لوقوع التصريح فيها بسماع ابن جريج له من عطاء وهو ابن أبي رباح ، وأبو العباس يأتي القول فيه بعد باب .

قوله : ( بلغ النبي - صلى الله عليه وسلم - أني أسرد الصوم ) سبقت تسمية الذي بلغ النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك وأنه عمروبن العاص والد عبد الله .

قوله : ( وتصلي ) في رواية مسلم من وجه آخر عن ابن جريج " وتصلي الليل ، فلا تفعل " .

قوله : ( فإن لعينيك ) في رواية السرخسي والكشميهني : " لعينك " بالإفراد .

قوله : ( عليك حظا ) كذا فيه في الموضعين بالظاء المعجمة ، وكذا لمسلم ، وعند الإسماعيلي " حقا " بالقاف ، وعنده وعند مسلم من الزيادة " وصم من كل عشرة أيام يوما ، ولك أجر التسعة " .

[ ص: 261 ] قوله : ( إني لأقوى لذلك ) أي : لسرد الصيام دائما ، وفي رواية مسلم : " إني أجدني أقوى من ذلك يا نبي الله " .

قوله : ( قال : وكيف ) في رواية مسلم : " وكيف كان داود يصوم يا نبي الله " .

قوله : ( ولا يفر إذا لاقى ) زاد النسائي من طريق محمد بن إبراهيم عن أبي سلمة : " وإذا وعد لم يخلف " ولم أرها من غير هذا الوجه ، ولها مناسبة بالمقام ، وإشارة إلى أن سبب النهي خشية أن يعجز عن الذي يلزمه فيكون كمن وعد فأخلف ، كما أن في قوله : " ولا يفر إذا لاقى " إشارة إلى حكمة صوم يوم وإفطار يوم ، قال الخطابي : محصل قصة عبد الله بن عمرو أن الله تعالى لم يتعبد عبده بالصوم خاصة ، بل تعبده بأنواع من العبادات ، فلو استفرغ جهده لقصر في غيره ، فالأولى الاقتصاد فيه ليستبقي بعض القوة لغيره ، وقد أشير إلى ذلك بقوله عليه الصلاة والسلام في داود - عليه السلام - : " وكان لا يفر إذا لاقى ؛ لأنه كان يتقوى بالفطر لأجل الجهاد " .

قوله : ( قال عطاء ) أي : بالإسناد المذكور .

قوله : ( لا أدري كيف ذكر صيام الأبد . . . إلخ ) أي : إن عطاء لم يحفظ كيف جاء ذكر صيام الأبد في هذه القصة ، إلا أنه حفظ أن فيها أنه - صلى الله عليه وسلم - قال : " لا صام من صام الأبد " وقد روى أحمد والنسائي هذه الجملة وحدها من طريق عطاء ، وسيأتي بعد باب بلفظ : " لا صام من صام الدهر " .

قوله : ( لا صام من صام الأبد مرتين ) في رواية مسلم : " قال عطاء : فلا أدري كيف ذكر صيام الأبد ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : لا صام من صام الأبد لا صام من صام الأبد " واستدل بهذا على كراهية صوم الدهر ، قال ابن التين استدل على كراهته من هذه القصة من أوجه : نهيه - صلى الله عليه وسلم - عن الزيادة ، وأمره بأن يصوم ويفطر ، وقوله : " لا أفضل من ذلك " ، ودعاؤه على من صام الأبد . وقيل : معنى قوله : " لا صام " النفي ، أي : " ما صام " كقوله تعالى : فلا صدق ولا صلى وقوله : في حديث أبي قتادة عند مسلم وقد سئل عن صوم الدهر : " لا صام ولا أفطر " أو " ما صام وما أفطر " وفي رواية الترمذي : " لم يصم ولم يفطر " وهو شك من أحد رواته ، ومقتضاه أنهما بمعنى واحد ، والمعنى بالنفي أنه لم يحصل أجر الصوم لمخالفته ، ولم يفطر ؛ لأنه أمسك . وإلى كراهة صوم الدهر مطلقا ذهب إسحاق وأهل الظاهر ، وهي رواية عن أحمد . وشذ ابن حزم فقال : يحرم ، وروى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن ابن عمرو الشيباني قال : " بلغ عمر أن رجلا يصوم الدهر ، فأتاه فعلاه بالدرة وجعل يقول : كل يا دهري " ومن طريق أبي إسحاق أن عبد الرحمن بن أبي نعيم كان يصوم الدهر فقال عمرو بن ميمون : لو رأى هذا أصحاب محمد لرجموه .

واحتجوا أيضا بحديث أبي موسى رفعه : " من صام الدهر ضيقت عليه جهنم ، وعقد بيده أخرجه أحمد والنسائي وابن خزيمة وابن حبان ، وظاهره أنها تضيق عليه حصرا له فيها ؛ لتشديده على نفسه وحمله عليها ورغبته عن سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - واعتقاده أن غير سنته أفضل منها ، وهذا يقتضي الوعيد الشديد فيكون حراما . وإلى الكراهة مطلقا ذهب ابن العربي من المالكية فقال : قوله : " لا صام من صام الأبد " إن كان معناه الدعاء فيا ويح من أصابه دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - وإن كان معناه الخبر فيا ويح من أخبر عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه لم يصم ، وإذا لم يصم شرعا لم يكتب له الثواب لوجوب صدق قوله - صلى الله عليه وسلم - ؛ [ ص: 262 ] لأنه نفى عنه الصوم ، وقد نفى عنه الفضل كما تقدم ، فكيف يطلب الفضل فيما نفاه النبي - صلى الله عليه وسلم - وذهب آخرون إلى جواز صيام الدهر وحملوا أخبار النهي على من صامه حقيقة ، فإنه يدخل فيه ما حرم صومه كالعيدين وهذا اختيار ابن المنذر وطائفة ، وروي عن عائشة نحوه ، وفيه نظر ؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - قد قال جوابا لمن سأله عن صوم الدهر : " لا صام ولا أفطر " وهو يؤذن بأنه ما أجر ولا أثم ، ومن صام الأيام المحرمة لا يقال فيه ذلك ؛ لأنه عند من أجاز صوم الدهر إلا الأيام المحرمة يكون قد فعل مستحبا وحراما ، وأيضا فإن أيام التحريم مستثناة بالشرع غير قابلة للصوم شرعا فهي بمنزلة الليل وأيام الحيض فلم تدخل في السؤال عند من علم تحريمها ، ولا يصلح الجواب بقوله : " لا صام ولا أفطر " لمن لم يعلم تحريمها .

وذهب آخرون إلى استحباب صيام الدهر لمن قوي عليه ولم يفوت فيه حقا ، وإلى ذلك ذهب الجمهور ، قال السبكي : أطلق أصحابنا كراهة صوم الدهر لمن فوت حقا ، ولم يوضحوا هل المراد الحق الواجب أو المندوب ، ويتجه أن يقال : إن علم أنه يفوت حقا واجبا حرم ، وإن علم أنه يفوت حقا مندوبا أولى من الصيام كره ، وإن كان يقوم مقامه فلا ، وإلى ذلك أشار ابن خزيمة فترجم " ذكر العلة التي بها زجر النبي - صلى الله عليه وسلم - عن صوم الدهر " وساق الحديث الذي فيه : " إذا فعلت ذلك هجمت عينك ونفهت نفسك " ومن حجتهم حديث حمزة بن عمرو الذي مضى فإن في بعض طرقه عند مسلم : " أنه قال : يا رسول الله ، إني أسرد الصوم " فحملوا قوله - صلى الله عليه وسلم - لعبد الله بن عمرو : " لا أفضل من ذلك " أي : في حقك فيلتحق به من في معناه ممن يدخل فيه على نفسه مشقة أو يفوت حقا ، ولذلك لم ينه حمزة بن عمرو عن السرد ، فلو كان السرد ممتنعا لبينه له ؛ لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز . قاله النووي ، وتعقب بأن سؤال حمزة إنما كان عن الصوم في السفر لا عن صوم الدهر ، ولا يلزم من سرد الصيام صوم الدهر فقد قال أسامة بن زيد : " إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يسرد الصوم فيقال : لا يفطر " أخرجه أحمد .

ومن المعلوم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يصوم الدهر فلا يلزم من ذكر السرد صيام الدهر ، وأجابوا عن حديث أبي موسى المقدم ذكره بأن معناه ضيقت عليه فلا يدخلها ، فعلى هذا تكون " على " بمعنى " عن " أي : ضيقت عنه ، وهذا التأويل حكاه الأثرم عن مسدد . وحكى رده عن أحمد ، وقال ابن خزيمة سألت المزني عن هذا الحديث فقال : يشبه أن يكون معناه ضيقت عنه فلا يدخلها ، ولا يشبه أن يكون على ظاهره ؛ لأن من ازداد لله عملا وطاعة ازداد عند الله رفعة وعلته كرامة ، ورجح هذا التأويل جماعة منهم الغزالي فقالوا : له مناسبة من جهة أن الصائم لما ضيق على نفسه مسالك الشهوات بالصوم ضيق الله عليه النار فلا يبقى له فيها مكان ؛ لأنه ضيق طرقها بالعبادة ، وتعقب بأنه ليس كل عمل صالح إذا ازداد العبد منه ازداد من الله تقربا ، بل رب عمل صالح إذا ازداد منه ازداد بعدا كالصلاة في الأوقات المكروهة ، والأولى إجراء الحديث على ظاهره وحمله على من فوت حقا واجبا بذلك فإنه يتوجه إليه الوعيد ، ولا يخالف القاعدة التي أشار إليها المزني .

ومن حجتهم أيضا قوله - صلى الله عليه وسلم - في بعض طرق حديث الباب كما تقدم في الطريقين الماضيين : فإن الحسنة بعشرة أمثالها ، وذلك مثل صيام الدهر وقوله : فيما رواه مسلم : من صام رمضان وأتبعه ستا من شوال فكأنما صام الدهر قالوا : فدل ذلك على أن صوم الدهر أفضل مما شبه به وأنه أمر مطلوب ، وتعقب بأن التشبيه في الأمر المقدر لا يقتضي جوازه فضلا عن استحبابه ، وإنما المراد حصول الثواب على تقدير مشروعية [ ص: 263 ] صيام ثلاثمائة وستين يوما ، ومن المعلوم أن المكلف لا يجوز له صيام جميع السنة فلا يدل التشبيه على أفضلية المشبه به من كل وجه .

واختلف المجيزون لصوم الدهر بالشرط المتقدم هل هو أفضل أو صيام يوم وإفطار يوم أفضل ، فصرح جماعة من العلماء بأن صوم الدهر أفضل ؛ لأنه أكثر عملا فيكون أكثر أجرا ، وما كان أكثر أجرا كان أكثر ثوابا ، وبذلك جزم الغزالي أولا ، وقيده بشرط أن لا يصوم الأيام المنهي عنها ، وأن لا يرغب عن السنة بأن يجعل الصوم حجرا على نفسه ، فإذا أمن من ذلك فالصوم من أفضل الأعمال ، فالاستكثار منه زيادة في الفضل . وتعقبه ابن دقيق العيد بأن الأعمال متعارضة المصالح والمفاسد ، ومقدار كل منها في الحث والمنع غير متحقق ، فزيادة الأجر بزيادة العمل في شيء يعارضه اقتضاء العادة التقصير في حقوق أخرى يعارضها العمل المذكور ، ومقدار الفائت من ذلك مع مقدار الحاصل غير متحقق ، فالأولى التفويض إلى حكم الشارع ولما دل عليه ظاهر قوله : " لا أفضل من ذلك " وقوله : " إنه أحب الصيام إلى الله تعالى " .

وذهب جماعة منهم المتولي من الشافعية إلى أن صيام داود أفضل ، وهو ظاهر الحديث بل صريحه ، ويترجح من حيث المعنى أيضا بأن صيام الدهر قد يفوت بعض الحقوق كما تقدم ، وبأن من اعتاده فإنه لا يكاد يشق عليه ، بل تضعف شهوته عن الأكل ، وتقل حاجته إلى الطعام والشراب نهارا ، ويألف تناوله في الليل بحيث يتجدد له طبع زائد ، بخلاف من يصوم يوما ويفطر يوما فإنه ينتقل من فطر إلى صوم ومن صوم إلى فطر ، وقد نقل الترمذي عن بعض أهل العلم أنه أشق الصيام ، ويأمن مع ذلك غالبا من تفويت الحقوق كما تقدمت الإشارة إليه فيما تقدم قريبا في حق داود - عليه السلام - ولا يفر إذا لاقى ؛ لأن من أسباب الفرار ضعف الجسد ، ولا شك أن سرد الصوم ينهكه ، وعلى ذلك يحمل قول ابن مسعود فيما رواه سعيد بن منصور بإسناد صحيح عنه أنه قيل له : إنك لتقل الصيام . فقال : إني أخاف أن يضعفني عن القراءة ، والقراءة أحب إلي من الصيام ، نعم إن فرض أن شخصا لا يفوته شيء من الأعمال الصالحة بالصيام أصلا ولا يفوت حقا من الحقوق التي خوطب بها لم يبعد أن يكون في حقه أرجح ، وإلى ذلك أشار ابن خزيمة فترجم " الدليل على أن صيام داود إنما كان أعدل الصيام وأحبه إلى الله ؛ لأن فاعله يؤدي حق نفسه وأهله وزائره أيام فطره بخلاف من يتابع الصوم " وهذا يشعر بأن من لا يتضرر في نفسه ولا يفوت حقا أن يكون أرجح ، وعلى هذا فيختلف ذلك باختلاف الأشخاص والأحوال : فمن يقتضي حاله الإكثار من الصوم أكثر منه ، ومن يقتضي حاله الإكثار من الإفطار أكثر منه ، ومن يقتضي حاله المزج فعله ، حتى إن الشخص الواحد قد تختلف عليه الأحوال في ذلك ، وإلى ذلك أشار الغزالي أخيرا . والله أعلم بالصواب .

التالي السابق


الخدمات العلمية