صفحة جزء
باب صيام أيام البيض ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة

1880 حدثنا أبو معمر حدثنا عبد الوارث حدثنا أبو التياح قال حدثني أبو عثمان عن أبي هريرة رضي الله عنه قال أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم بثلاث صيام ثلاثة أيام من كل شهر وركعتي الضحى وأن أوتر قبل أن أنام
قوله : ( باب صيام البيض : ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة ) كذا للأكثر وللكشميهني : " صيام أيام البيض : ثلاث عشرة . . . إلخ " قيل : المراد بالبيض الليالي وهي التي يكون فيها القمر من أول الليل إلى آخره ، حتى قال الجواليقي : من قال : " الأيام البيض " فجعل البيض صفة الأيام فقد أخطأ ، وفيه نظر ؛ لأن الصوم الكامل هو النهار بليلته ، وليس في الشهر يوم أبيض كله إلا هذه الأيام ؛ لأن ليلها أبيض ونهارها أبيض ، فصح قول : " الأيام البيض " على الوصف .

وحكى ابن بزيزة في تسميتها " بيضا " أقوالا أخر مستندة إلى أقوال واهية ، قال الإسماعيلي وابن بطال وغيرهما : ليس في الحديث الذي أورده البخاري في هذا الباب ما يطابق الترجمة ؛ لأن الحديث مطلق في ثلاثة أيام من كل شهر ، والبيض مقيدة بما ذكر ، وأجيب بأن البخاري جرى على عادته في الإيماء إلى ما ورد في بعض طرق الحديث ، وهو ما رواه أحمد والنسائي وصححه ابن حبان من طريق موسى بن طلحة عن أبي هريرة قال : جاء أعرابي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بأرنب قد شواها ، فأمرهم أن يأكلوا وأمسك الأعرابي ، فقال : ما منعك أن تأكل؟ فقال : إني أصوم ثلاثة أيام من كل شهر . قال : إن كنت صائما فصم الغر ، أي : البيض وهذا الحديث اختلف فيه على موسى بن طلحة اختلافا كثيرا بينه الدارقطني ، وفي بعض طرقه عند النسائي : " إن كنت صائما فصم البيض ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة " وجاء تقييدها أيضا في حديث قتادة بن ملحان - ويقال ابن منهال - عند أصحاب السنن بلفظ : " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمرنا أن نصوم البيض : ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة ، وقال : هي كهيئة الدهر " .

وللنسائي من حديث جرير مرفوعا : صيام ثلاثة أيام من كل شهر صيام الدهر : أيام البيض صبيحة ثلاث عشرة " الحديث ، وإسناده صحيح ، وكأن البخاري أشار بالترجمة إلى أن وصية أبي هريرة بذلك لا تختص به ، وأما ما رواه أصحاب السنن وصححه ابن خزيمة من حديث ابن مسعود " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصوم ثلاثة أيام من غرة كل شهر " وما روى أبو داود والنسائي من حديث حفصة " كان رسول [ ص: 267 ] الله - صلى الله عليه وسلم - يصوم من كل شهر ثلاثة أيام : الاثنين والخميس والاثنين من الجمعة الأخرى " فقد جمع بينهما وما قبلهما البيهقي بما أخرجه مسلم من حديث عائشة قالت : " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصوم من كل شهر ثلاثة أيام ما يبالي من أي الشهر صام " قال : فكل من رآه فعل نوعا ذكره ، وعائشة رأت جميع ذلك وغيره فأطلقت .

والذي يظهر أن الذي أمر به وحث عليه ووصى به أولى من غيره ، وأما هو فلعله كان يعرض له ما يشغله عن مراعاة ذلك ، أو كان يفعل ذلك لبيان الجواز ، وكل ذلك في حقه أفضل ، وتترجح البيض بكونها وسط الشهر ووسط الشيء أعدله ، ولأن الكسوف غالبا يقع فيها ، وقد ورد الأمر بمزيد العبادة إذا وقع فإذا اتفق الكسوف صادف الذي يعتاد صيام البيض صائما فيتهيأ له أن يجمع بين أنواع العبادات من الصيام والصلاة والصدقة ، بخلاف من لم يصمها فإنه لا يتأتى له استدراك صيامها ، ولا عند من يجوز صيام التطوع بغير نية من الليل إلا إن صادف الكسوف من أول النهار ، ورجح بعضهم صيام الثلاثة في أول الشهر ؛ لأن المرء لا يدري ما يعرض له من الموانع ، وقال بعضهم : يصوم من أول كل عشرة أيام يوما ، وله وجه في النظر ، ونقل ذلك عن أبي الدرداء ، وهو يوافق ما تقدم في رواية النسائي في حديث عبد الله بن عمرو : " صم من كل عشرة أيام يوما " وروى الترمذي من طريق خيثمة عن عائشة : " أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يصوم من الشهر السبت والأحد والاثنين ، ومن الآخر الثلاثاء والأربعاء والخميس " وروي موقوفا وهو أشبه ، وكأن الغرض به أن يستوعب غالب أيام الأسبوع بالصيام ، واختار إبراهيم النخعي أن يصومها آخر الشهر ليكون كفارة لما مضى ، وسيأتي ما يؤيده في الكلام على حديث عمران بن حصين في الأمر بصيام سرار الشهر ، وقال الروياني صيام ثلاثة أيام من كل شهر مستحب ، فإن اتفقت أيام البيض كان أحب . وفي كلام غير واحد من العلماء أيضا أن استحباب صيام البيض غير استحباب صيام ثلاثة أيام من كل شهر .

قوله : ( حدثنا أبو معمر ) هو عبد الله بن عمرو ، والإسناد كله بصريون وأبو عثمان هو النهدي ، وقد روى عن أبي هريرة جماعة كل منهم أبو عثمان ، لكن لم يقع في البخاري حديث موصول من رواية أبي عثمان عن أبي هريرة إلا من رواية النهدي ، وليس له عند البخاري سوى هذا وآخر في الأطعمة ، ووقع عند مسلم عن شيبان عن عبد الوارث بهذا الإسناد فقال فيه " حدثني أبو عثمان النهدي " وتقدم هذا الحديث في أبواب التطوع من طريق أخرى عن أبي عثمان النهدي ، وقد تقدم الكلام هناك على بقية فوائده ، ومما لم يتقدم منها ما نبه عليه أبو محمد بن أبي جمرة في قول أبي هريرة : " أوصاني خليلي " قال في أفراده " بهذه الوصية " إشارة إلى أن القدر الموصى به هو اللائق بحاله ، وفي قوله : " خليلي " إشارة إلى موافقته له في إيثار الاشتغال بالعبادة على الاشتغال بالدنيا لأن أبا هريرة صبر على الجوع في ملازمته للنبي - صلى الله عليه وسلم - كما سيأتي في أوائل البيوع من حديثه حيث قال : " أما إخواني فكان يشغلهم الصفق بالأسواق ، وكنت ألزم رسول الله صلى الله عليه وسلم " فشابه حال النبي - صلى الله عليه وسلم - في إيثاره الفقر على الغنى والعبودية على الملك ، قال : ويؤخذ منه الافتخار بصحبة الأكابر إذا كان ذلك على معنى التحدث بالنعمة والشكر لله ، لا على وجه المباهاة ، والله أعلم .

وقال شيخنا في " شرح الترمذي " : حاصل الخلاف في تعيين البيض تسعة أقوال : أحدها : لا تتعين بل يكره تعيينها ، وهذا عن مالك . الثاني : أول ثلاثة من الشهر ، قاله الحسن البصري ، الثالث [ ص: 268 ] أولها الثاني عشر . الرابع : أولها الثالث عشر . الخامس : أولها أول سبت من أول الشهر ، ثم من أول الثلاثاء من الشهر الذي يليه وهكذا ، وهو عن عائشة . السادس : أول خميس ثم اثنين ثم خميس . السابع : أول اثنين ثم خميس ثم اثنين . الثامن : أول يوم ، والعاشر والعشرون عن أبي الدرداء . التاسع : أول كل عشر عن ابن شعبان المالكي . قلت : بقي قول آخر وهو آخر ثلاثة من الشهر عن النخعي فتمت عشرة .

التالي السابق


الخدمات العلمية