صفحة جزء
باب اقتناء الكلب للحرث

2197 حدثنا معاذ بن فضالة حدثنا هشام عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من أمسك كلبا فإنه ينقص كل يوم من عمله قيراط إلا كلب حرث أو ماشية قال ابن سيرين وأبو صالح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا كلب غنم أو حرث أو صيد وقال أبو حازم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم كلب صيد أو ماشية
قوله : ( باب اقتناء الكلب للحرث ) الاقتناء بالقاف افتعال من القنية بالكسر وهي الاتخاذ ; قال ابن المنير : أراد البخاري إباحة الحرث بدليل إباحة اقتناء الكلاب المنهي عن اتخاذها لأجل الحرث ، فإذا رخص من أجل الحرث في الممنوع من اتخاذه كان أقل درجاته أن يكون مباحا .

قوله : ( عن أبي سلمة عن أبي هريرة ) في رواية مسلم من طريق الأوزاعي " حدثني يحيى بن أبي كثير حدثني أبو سلمة حدثني أبو هريرة " .

قوله : ( من أمسك كلبا ) في رواية سفيان بن أبي زهير ثاني حديثي الباب " من اقتنى كلبا " وهو مطابق للترجمة ، ومفسر للإمساك الذي هو في هذه الرواية ، ورواهأحمد ومسلم من طريق الزهري عن أبي سلمة بلفظ من اتخذ كلبا إلا كلب صيد أو زرع أو ماشية وأخرجه مسلم والنسائي من وجه آخر عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة بلفظ من اقتنى كلبا ليس كلب صيد ولا ماشية ولا أرض فإنه ينقص من أجره كل يوم قيراطان فأما زيادة الزرع فقد أنكرها ابن عمر ، ففي مسلم من طريق عمرو بن دينار عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بقتل الكلاب إلا كلب صيد أو كلب غنم فقيل لابن عمر : [ ص: 9 ] إن أبا هريرة يقول : أو كلب زرع . فقال ابن عمر : إن لأبي هريرة " زرعا " ويقال إن ابن عمر أراد بذلك الإشارة إلى تثبيت رواية أبي هريرة وأن سبب حفظه لهذه الزيادة دونه أنه كان صاحب زرع دونه ، ومن كان مشتغلا بشيء احتاج إلى تعرف أحكامه ، وقد روى مسلم أيضا من طريق سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه مرفوعا " من اقتنى كلبا " الحديث ، قال سالم : وكان أبو هريرة يقول : " أو كلب حرث " وكان صاحب حرث ، وأصله للبخاري في الصيد دون الزيادة ، وقد وافق أبا هريرة على ذكر الزرع سفيان بن أبي زهير كما تراه في هذا الباب ، وعبد الله بن مغفل وهو عند مسلم في حديث أوله : أمر بقتل الكلاب ورخص في كلب الغنم والصيد والزرع .

قوله : ( أو ماشية ) " أو " للتنويع لا للترديد .

قوله : ( وقال ابن سيرين وأبو صالح عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : إلا كلب غنم أو حرث أو صيد ) ، أما رواية ابن سيرين فلم أقف عليها بعد التتبع الطويل ، وأما رواية أبي صالح فوصلها أبو الشيخ عبد الله بن محمد الأصبهاني في " كتاب الترغيب " له من طريق الأعمش عن أبي صالح ومن طريق سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة بلفظ من اقتنى كلبا إلا كلب ماشية أو صيد أو حرث فإنه ينقص من عمله كل يوم قيراطا لم يقل سهيل : " أو حرث " .

قوله : ( وقال أبو حازم عن أبي هريرة : كلب ماشية أو صيد ) وصلها أبو الشيخ أيضا من طريق زيد بن أبي أنيسة عن عدي بن ثابت عن أبي حازم بلفظ أيما أهل دار ربطوا كلبا ليس بكلب صيد ولا ماشية نقص من أجرهم كل يوم قيراطان قال ابن عبد البر : في هذا الحديث إباحة اتخاذ الكلاب للصيد والماشية ، وكذلك الزرع لأنها زيادة حافظ ، وكراهة اتخاذها لغير ذلك ، إلا أنه يدخل في معنى الصيد وغيره مما ذكر اتخاذها لجلب المنافع ودفع المضار قياسا ، فتمحض كراهة اتخاذها لغير حاجة لما فيه من ترويع الناس وامتناع دخول الملائكة للبيت الذي هم فيه . وفي قوله : نقص من عمله - أي من أجر عمله - ما يشير إلى أن اتخاذها ليس بمحرم ، لأن ما كان اتخاذه محرما امتنع اتخاذه على كل حال سواء نقص الأجر أو لم ينقص ، فدل ذلك على أن اتخاذها مكروه لا حرام .

قال : ووجه الحديث عندي أن المعاني المتعبد بها في الكلاب من غسل الإناء سبعا لا يكاد يقوم بها المكلف ولا يتحفظ منها فربما دخل عليه باتخاذها ما ينقص أجره من ذلك . ويروى أن المنصور سأل عمرو بن عبيد عن سبب هذا الحديث فلم يعرفه فقال المنصور : لأنه ينبح الضيف ، ويروع السائل ا هـ .

وما ادعاه من عدم التحريم واستند له بما ذكره ليس بلازم ، بل يحتمل أن تكون العقوبة تقع بعدم التوفيق للعمل بمقدار قيراط مما كان يعمله من الخير لو لم يتخذ الكلب ، ويحتمل أن يكون الاتخاذ حراما ، والمراد بالنقص أن الإثم الحاصل باتخاذه يوازي قدر قيراط أو قيراطين من أجر فينقص من ثواب عمل المتخذ قدر ما يترتب عليه من الإثم باتخاذه وهو قيراط أو قيراطان ، وقيل سبب النقصان امتناع الملائكة من دخول بيته أو ما يلحق المارين من الأذى ، أو لأن بعضها شياطين ، أو عقوبة لمخالفة النهي ، أو لولوغها في الأواني عند غفلة صاحبها فربما يتنجس الطاهر منها ، فإذا استعمل في العبادة لم يقع موقع الطاهر . وقال ابن التين : المراد أنه لو لم يتخذه لكان عمله كاملا ، فإذا اقتناه نقصن من ذلك [ ص: 10 ] العمل ، ولا يجوز أن ينقص من عمل مضى وإنما أراد أنه ليس عمله في الكمال عمل من لم يتخذه ا هـ .

وما ادعاه من عدم الجواز منازع فيه ، فقد حكى الروياني في " البحر " اختلافا في الأجر هل ينقص من العمل الماضي أو المستقبل ، وفي محصل نقصان القيراطين فقيل : من عمل النهار قيراط ومن عمل الليل آخر وقيل : من الفرض قيراط ومن النفل آخر ، وفي سبب النقصان يعني كما تقدم ، واختلفوا في اختلاف الروايتين في القيراطين والقيراط فقيل : الحكم الزائد لكونه حفظ ما لم يحفظه الآخر أو أنه - صلى الله عليه وسلم - أخبر أولا بنقص قيراط واحد فسمعه الراوي الأول ثم أخبر ثانيا بنقص قيراطين في التأكيد في التنفير من ذلك فسمعه الراوي الثاني .

وقيل ينزل على حالين : فنقصان القيراطين باعتبار كثرة الأضرار باتخاذها ، ونقص القيراط باعتبار قلته . وقيل يختص نقص القيراطين بمن اتخذها بالمدينة الشريفة خاصة والقيراط بما عداها ، وقيل يلتحق بالمدينة في ذلك سائر المدن والقرى ويختص القيراط بأهل البوادي ، وهو يلتفت إلى معنى كثرة التأذي وقلته .

وكذا من قال يحتمل أن يكون في نوعين من الكلاب : ففيما لابسه آدمي قيراطان وفيما دونه قيراط . وجوز ابن عبد البر أن يكون القيراط الذي ينقص أجر إحسانه إليه لأنه من جملة ذوات الأكباد الرطبة أو الحرى ، ولا يخفى بعده .

واختلف في القيراطين المذكورين هنا هل هما كالقيراطين المذكورين في الصلاة على الجنازة واتباعها ؟ فقيل بالتسوية ، وقيل اللذان في الجنازة من باب الفضل ، واللذان هنا من باب العقوبة وباب الفضل أوسع من غيره ، والأصح عن الشافعية إباحة اتخاذ الكلاب لحفظ الدرب إلحاقا للمنصوص بما في معناه كما أشار إليه ابن عبد البر ، واتفقوا على أن المأذون في اتخاذه ما لم يحصل الاتفاق على قتله وهو الكلب العقور ، وأما غير العقور فقد اختلف هل يجوز قتله مطلقا أم لا ؟ واستدل به على جواز تربية الجرو الصغير لأجل المنفعة التي يئول أمره إليها إذا كبر ، ويكون القصد لذلك قائما مقام وجود المنفعة به كما يجوز بيع ما لم ينتفع به في الحال لكونه ينتفع به في المآل ، واستدل به على طهارة الكلب الجائز اتخاذه لأن في ملابسته مع الاحتراز عنه مشقة شديدة ، فالإذن في اتخاذه إذن في مكملات مقصوده ، كما أن المنع من لوازمه مناسب للمنع منه ، وهو استدلال قوي لا يعارضه إلا عموم الخبر الوارد في الأمر من غسل ما ولغ فيه الكلب من غير تفصيل ، وتخصيص العموم غير مستنكر إذا سوغه الدليل .

وفي الحديث الحث على تكثير الأعمال الصالحة ، والتحذير من العمل بما ينقصها ، والتنبيه على أسباب الزيادة فيها والنقص منها لتجتنب أو ترتكب ، وبيان لطف الله تعالى بخلقه في إباحة ما لهم به نفع ، وتبليغ نبيهم - صلى الله عليه وسلم - لهم أمور معاشهم ومعادهم ، وفيه ترجيح المصلحة الراجحة على المفسدة لوقوع استثناء ما ينتفع به مما حرم اتخاذه .

التالي السابق


الخدمات العلمية