صفحة جزء
باب استقراض الإبل

2260 حدثنا أبو الوليد حدثنا شعبة أخبرنا سلمة بن كهيل قال سمعت أبا سلمة بمنى يحدث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلا تقاضى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأغلظ له فهم به أصحابه فقال دعوه فإن لصاحب الحق مقالا واشتروا له بعيرا فأعطوه إياه وقالوا لا نجد إلا أفضل من سنه قال اشتروه فأعطوه إياه فإن خيركم أحسنكم قضاء
قوله : ( باب استقراض الإبل ) أي جوازه ليرد المقترض نظيره أو خيرا منه .

قوله : ( أن رجلا تقاضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم ) وفي رواية ابن المبارك عن شعبة الآتية في الهبة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخذ سنا فجاء صاحبه يتقاضاه أي يطلب منه قضاء الدين ، في أول حديث سفيان عن سلمة كما سيأتي بعد بابين كان لرجل على النبي - صلى الله عليه وسلم - سن من الإبل فجاءه يتقاضاه ولأحمد عن عبد الرزاق عن سفيان جاء أعرابي يتقاضى النبي - صلى الله عليه وسلم - بعيرا ، وله عن يزيد بن هارون عن سفيان " استقرض النبي - صلى الله عليه وسلم - من رجل بعيرا " وللترمذي من طريق علي بن صالح عن سلمة " استقرض النبي - صلى الله عليه وسلم - سنا " .

قوله : ( فأغلظ له ) يحتمل أن يكون الإغلاظ بالتشديد في المطالبة من غير قدر زائد ، ويحتمل أن يكون بغير ذلك ويكون صاحب الدين كافرا فقد قيل إنه كان يهوديا ، والأول أظهر لما تقدم من رواية عبد الرزاق أنه كان أعرابيا ، وكأنه جرى على عادته من جفاء المخاطبة . ووقع في ترجمة بكر بن سهل في " معجم الطبراني الأوسط " عن العرباض بن سارية ما يفهم أنه هو ، لكن روى النسائي والحاكم الحديث المذكور وفيه ما يقتضي أنه غيره وأن القصة وقعت لأعرابي ، ووقع للعرباض نحوها .

قوله : ( فهم به أصحابه ) أي أراد أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يؤذوه بالقول أو الفعل لكن لم يفعلوا أدبا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - .

قوله : ( فإن لصاحب الحق مقالا ) أي صولة الطلب وقوة الحجة ، لكن مع مراعاة الأدب المشروع .

قوله : ( واشتروا له بعيرا ) في رواية عبد الرزاق التمسوا له مثل سن بعيره .

[ ص: 70 ] قوله : ( قالوا لا نجد ) في رواية سفيان الآتية " فقال أعطوه ، فطلبوا سنه فلم يجدوا إلا فوقها " وفي رواية عبد الرزاق " فالتمسوا له فلم يجدوا إلا فوق سن بعيره " والمخاطب بذلك هو أبو رافع مولى النبي - صلى الله عليه وسلم - كما أخرجه مسلم من حديثه قال : استسلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من رجل بكرا فقدمت عليه إبل من إبل الصدقة ولابن خزيمة استلف من رجل بكرا فقال : إذا جاءت إبل الصدقة قضيناك ، فلما جاءت إبل الصدقة أمر أبا رافع أن يقضي الرجل بكره ، فرجع إليه أبو رافع فقال : لم أجد فيها إلا خيارا رباعيا ، فقال : أعطه إياه . ويجمع بينه وبين الرواية التي في الباب حيث قال فيها " اشتروا له " بأنه أمر بالشراء أولا ثم قدمت إبل الصدقة فأعطاه منها أو أنه أمر بالشراء من إبل الصدقة ممن استحق منها شيئا ، ويؤيده رواية ابن خزيمة المذكورة " إذا جاءت الصدقة قضيناك " ا هـ . والبكر بفتح الموحدة وسكون الكاف الصغير من الإبل ، والخيار الجيد يطلق على الواحد والجمع ، والرباعي ، بتخفيف الموحدة من ألقى رباعيته .

قوله ( فإن خيركم أحسنكم قضاء ) في رواية عثمان بن جبلة عن شعبة الآتية في الهبة " فإن من خيركم أو خيركم " كذا على الشك ، وفي رواية ابن المبارك " أفضلكم أحسنكم قضاء " وفي رواية سفيان الآتية " خياركم " فيحتمل أن يريد المفرد بمعنى المختار أو الجمع والمراد أنه خيرهم في المعاملة أو تكون " من " مقدرة ويدل عليها الرواية المذكورة .

وقوله : " أحسنكم " لما أضيف أفعل والمقصود به الزيادة جاز فيه الإفراد ، وقد وقع في رواية سفيان بعد باب " من خياركم " وفي الحديث جواز المطالبة بالدين إذا حل أجله . وفيه حسن خلق النبي - صلى الله عليه وسلم - وعظم حلمه وتواضعه وإنصافه ، وأن من عليه دين لا ينبغي له مجافاة صاحب الحق ، وأن من أساء الأدب على الإمام كان عليه التعزير بما يقتضيه الحال إلا أن يعفو صاحب الحق . وفيه ما ترجم له وهو استقراض الإبل ويلتحق بها جميع الحيوانات وهو قول أكثر أهل العلم ، ومنع من ذلك الثوري والحنفية واحتجوا بحديث النهي عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة وهو حديث قد روي عن ابن عباس مرفوعا أخرجه ابن حبان والدارقطني وغيرهما ورجال إسناده ثقات ، إلا أن الحفاظ رجحوا إرساله . وأخرجه الترمذي من حديث الحسن عن سمرة ، وفي سماع الحسن من سمرة اختلاف . وفي الجملة هو حديث صالح للحجة .

وادعى الطحاوي أنه ناسخ لحديث الباب ، وتعقب بأن النسخ لا يثبت بالاحتمال ، والجمع بين الحديثين ممكن ، فقد جمع بينهما الشافعي وجماعة بحمل النهي على ما إذا كان نسيئة من الجانبين ، ويتعين المصير إلى ذلك لأن الجمع بين الحديثين أولى من إلغاء أحدهما باتفاق ، وإذا كان ذلك المراد من الحديث بقيت الدلالة على جواز استقراض الحيوان والسلم فيه . واعتل من منع بأن الحيوان يختلف اختلافا متباينا حتى لا يوقف على حقيقة المثلية فيه ، وأجيب بأنه لا مانع من الإحاطة به بالوصف بما يدفع التغاير وقد جوز الحنفية التزويج والكتابة على الرقيق الموصوف في الذمة ، وفيه جواز وفاء ما هـو أفضل من المثل المقترض إذا لم تقع شرطية ذلك في العقد فيحرم حينئذ اتفاقا وبه قال الجمهور ، وعن المالكية تفصيل في الزيادة إن كانت بالعدد منعت ، وإن كانت بالوصف جازت . وفيه أن الاقتراض في البر والطاعة وكذا الأمور المباحة لا يعاب ، وأن للإمام أن يقترض على بيت المال لحاجة بعض المحتاجين ليوفي ذلك من مال [ ص: 71 ] الصدقات ، واستدل به الشافعي على جواز تعجيل الزكاة .

هكذا حكاه ابن عبد البر ولم يظهر لي توجيهه إلا أن يكون المراد ما قيل في سبب اقتراضه - صلى الله عليه وسلم - وأنه كان اقترضه لبعض المحتاجين من أهل الصدقة فلما جاءت الصدقة أوفى صاحبه منها ، ولا يعكر عليه أنه أوفاه أزيد من حقه من مال الصدقة لاحتمال أن يكون المقترض منه كان أيضا من أهل الصدقة إما من جهة الفقر أو التألف أو غير ذلك بجهتين : جهة الوفاء في الأصل ، وجهة الاستحقاق في الزائد ، وقيل : كان اقترضه في ذمته فلما حل الأجل ولم يجد الوفاء صار غارما فجاز له الوفاء من الصدقة ، وقيل : كان اقتراضه لنفسه فلما حل الأجل اشترى من إبل الصدقة بعيرا ممن استحقه أو اقترضه من آخر أو من مال الصدقة ليوفيه بعد ذلك والاحتمال الأول أقوى ، ويؤيده سياق حديث أبي رافع ، والله أعلم .

( تنبيه ) : هذا الحديث من غرائب الصحيح ، قال البزار لا يروى عن أبي هريرة إلا بهذا الإسناد ، ومداره على سلمة بن كهيل ، وقد صرح في هذا الباب بأنه سمعه من أبي سلمة بن عبد الرحمن بمنى وذلك لما حج . والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية