صفحة جزء
باب شهادة القاذف والسارق والزاني وقول الله تعالى ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون إلا الذين تابوا وجلد عمر أبا بكرة وشبل بن معبد ونافعا بقذف المغيرة ثم استتابهم وقال من تاب قبلت شهادته وأجازه عبد الله بن عتبة وعمر بن عبد العزيز وسعيد بن جبير وطاوس ومجاهد والشعبي وعكرمة والزهري ومحارب بن دثار وشريح ومعاوية بن قرة وقال أبو الزناد الأمر عندنا بالمدينة إذا رجع القاذف عن قوله فاستغفر ربه قبلت شهادته وقال الشعبي وقتادة إذا أكذب نفسه جلد وقبلت شهادته وقال الثوري إذا جلد العبد ثم أعتق جازت شهادته وإن استقضي المحدود فقضاياه جائزة وقال بعض الناس لا تجوز شهادة القاذف وإن تاب ثم قال لا يجوز نكاح بغير شاهدين فإن تزوج بشهادة محدودين جاز وإن تزوج بشهادة عبدين لم يجز وأجاز شهادة المحدود والعبد والأمة لرؤية هلال رمضان وكيف تعرف توبته وقد نفى النبي صلى الله عليه وسلم الزاني سنة ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن كلام سعد بن مالك وصاحبيه حتى مضى خمسون ليلة

2505 حدثنا إسماعيل قال حدثني ابن وهب عن يونس وقال الليث حدثني يونس عن ابن شهاب أخبرني عروة بن الزبير أن امرأة سرقت في غزوة الفتح فأتي بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أمر بها فقطعت يدها قالت عائشة فحسنت توبتها وتزوجت وكانت تأتي بعد ذلك فأرفع حاجتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
[ ص: 302 ] قوله : ( باب شهادة القاذف والسارق والزاني ) أي هل تقبل بعد توبتهم أم لا .

قوله : وقول الله عز وجل : ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون إلا الذين تابوا وهذا الاستثناء عمدة من أجاز شهادته إذا تاب . وقد أخرج البيهقي من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى : ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا ثم قال : إلا الذين تابوا فمن تاب فشهادته في كتاب الله تقبل ، وبهذا قال الجمهور : إن شهادة القاذف بعد التوبة تقبل ويزول عنه اسم الفسق سواء كان بعد إقامة الحد أو قبله ، وتأولوا قوله تعالى : أبدا على أن المراد ما دام مصرا على قذفه ; لأن أبد كل شيء على ما يليق به كما لو قيل لا تقبل شهادة الكافر أبدا فإن المراد ما دام كافرا ، وبالغ الشعبي فقال : إن تاب القاذف قبل إقامة الحد سقط عنه . وذهب الحنفية إلى أن الاستثناء يتعلق بالفسق خاصة فإذا تاب سقط عنه اسم الفسق ، وأما شهادته فلا تقبل أبدا . وقال بذلك بعض التابعين . وفيه مذهب آخر : يقبل بعد الحد لا قبله . وعن الحنفية لا ترد شهادته حتى يحد ، وتعقبه الشافعي بأن الحدود كفارة لأهلها ، فهو بعد الحد خير منه قبله فكيف يرد في خير حالتيه ويقبل في شرهما .

[ ص: 303 ] قوله : ( وجلد عمر أبا بكرة وشبل بن معبد ونافعا بقذف المغيرة ثم استتابهم وقال : من تاب قبلت شهادته ) وصله الشافعي في " الأم " قال : سمعت الزهري يقول : زعم أهل العراق أن شهادة المحدود لا تجوز ، فأشهد لأخبرني فلان أن عمر بن الخطاب قال لأبي بكرة : تب وأقبل شهادتك .

قال سفيان : سمى الزهري الذي أخبره فحفظته ثم نسيته ، فقال لي عمر بن قيس : هو ابن المسيب . قلت : رواه ابن جرير من وجه آخر عن سفيان فسماه ابن المسيب ، وكذلك رويناه بعلو من طريق الزعفراني عن سفيان ، ورواه ابن جرير في التفسير من طريق ابن إسحاق عن الزهري عن سعيد بن المسيب أتم من هذا ، ولفظه " أن عمر بن الخطاب ضرب أبا بكرة وشبل بن معبد ونافع بن الحارث بن كلدة الحد وقال لهم : من أكذب نفسه قبلت شهادته فيما يستقبل ، ومن لم يفعل لم أجز شهادته . فأكذب شبل نفسه ونافع ، وأبى أبو بكرة أن يفعل " قال الزهري : هو والله سنة فاحفظوه . ورواه سليمان بن كثير عن الزهري عن سعيد بن المسيب " أن عمر حيث شهد أبو بكرة ونافع وشبل على المغيرة وشهد زياد على خلاف شهادتهم فجلدهم عمر واستتابهم ، وقال : من رجع منكم عن شهادته قبلت شهادته . فأبى أبو بكرة أن يرجع " أخرجه عمر بن شبة في " أخبار البصرة " من هذا الوجه ، وساق قصة المغيرة هذه من طرق كثيرة محصلها أن المغيرة بن شعبة كان أمير البصرة لعمر ، فاتهمه أبو بكرة - وهو نفيع - الثقفي الصحابي المشهور ، وكان أبو بكرة ونافع بن الحارث بن كلدة الثقفي وهو معدود في الصحابة ، وشبل بكسر المعجمة وسكون الموحدة ابن معبد بن عتيبة بن الحارث البجلي وهو معدود في المخضرمين وزياد بن عبيد الذي كان بعد ذلك يقال له زياد بن أبي سفيان - إخوة من أم ، أمهم سمية مولاة الحارث بن كلدة ، فاجتمعوا جميعا فرأوا المغيرة متبطن المرأة ، وكان يقال لها الرقطاء أم جميل بنت عمرو بن الأفقم الهلالية ، وزوجها الحجاج بن عتيك بن الحارث بن عوف الجشمي ، فرحلوا إلى عمر فشكوه فعزله وولى أبا موسى الأشعري ، وأحضر المغيرة فشهد عليه الثلاثة بالزنا ، وأما زياد فلم يبت الشهادة ، وقال : رأيت منظرا قبيحا وما أدري أخالطها أم لا فأمر عمر بجلد الثلاثة حد القدف وقال ما قال .

وأخرج القصة الطبراني في ترجمة شبل بن معبد والبيهقي من رواية أبي عثمان النهدي أنه شاهد ذلك عند عمر ، وإسناده صحيح . ورواه الحاكم في " المستدرك " من طريق عبد العزيز بن أبي بكرة مطولا وفيها " فقال زياد رأيتهما في لحاف وسمعت نفسا عاليا ولا أدري ما وراء ذلك " وقد حكى الإسماعيلي في " المدخل " أن بعضهم استشكل إخراج البخاري هذه القصة واحتجاجه بها مع كونه احتج بحديث أبي بكرة في عدة مواضع ، وأجاب الإسماعيلي بالفرق بين الشهادة والرواية وأن الشهادة يطلب فيها مزيد تثبت لا يطلب في الرواية كالعدد والحرية وغير ذلك ، واستنبط المهلب من هذا أن إكذاب القاذف نفسه ليس شرطا في قبول توبته ; لأن أبا بكرة لم يكذب نفسه ومع ذلك فقد قبل المسلمون روايته وعملوا بها .

قوله : ( وأجازه عبد الله بن عتبة ) أي ابن مسعود وصله الطبري من طريق عمران بن عمير قال : " كان عبد الله بن عتبة يجيز شهادة القاذف إذا تاب " .

قوله : ( وعمر بن عبد العزيز ) أي الخليفة المشهور وصله الطبري والخلال من طريق ابن جريج عن عمران بن موسى " سمعت عمر بن عبد العزيز أجاز شهادة القاذف ومعه رجل " ورواه عبد الرزاق عن [ ص: 304 ] ابن جريج فزاد مع عمر بن عبد العزيز أبا بكر بن محمد بن عمرو بن حزم .

قوله : ( وسعيد بن جبير ) وصله الطبري من طريقه بلفظ " تقبل شهادة القاذف إذا تاب " وروى ابن أبي حاتم من وجه آخر عنه لا تقبل لكن إسناده ضعيف .

قوله : ( وطاوس ومجاهد ) وصله سعيد بن منصور والشافعي والطبري من طريق ابن أبي نجيح قال : " القاذف إذا تاب تقبل شهادته . قيل له : من قاله ؟ قال : عطاء وطاوس ومجاهد " .

قوله ( والشعبي ) وصله الطبري من طريق ابن أبي خالد عنه أنه كان يقول " يقبل الله توبته ويردون شهادته ، وكان يقبل شهادته إذا تاب " ورويناه في " الجعديات " عن شعبة عن الحكم في شهادة القاذف أن إبراهيم قال : " لا تجوز " ، وكان الشعبي يقول : " إذا تاب قبلت " .

قوله : ( وعكرمة ) أي مولى ابن عباس وصله البغوي في " الجعديات " عن شعبة عن يونس هو ابن عبيد عن عكرمة قال : " إذا تاب القاذف قبلت شهادته " .

قوله : ( والزهري ) قد تقدم قوله في قصة المغيرة " هو سنة " ، ورواه ابن جرير من وجه آخر عن الزهري قال : " إذا حد القاذف فإنه ينبغي للإمام أن يستتيبه فإن تاب قبلت شهادته وإلا لم تقبل " ، وفي الموطأ عن الزهري نحوه في قصة .

قوله : ( ومحارب بن دثار وشريح ) أي القاضي ) ( ومعاوية بن قرة ) هؤلاء الثلاثة من أهل الكوفة ، فدل على أن مراد الزهري الماضي في قصة المغيرة بما نسبه إلى الكوفيين من عدم قبولهم شهادة القاذف بعضهم لا كلهم ، ولم أر عن واحد من الثلاثة المذكورين التصريح بالقبول ، نعم الشعبي من أهل الكوفة وقد ثبت عنه القبول كما تقدم ، وروى ابن جريج بإسناد صحيح عن شريح أنه كان يقول في القاذف " يقبل الله توبته ولا أقبل شهادته؟ " وروى ابن أبي خالد بإسناد ضعيف عن شريح " أنه كان لا يقبل شهادته " .

قوله : ( وقال أبو الزناد ) هو المدني المشهور .

قوله : ( الأمر عندنا إلخ ) وصله سعيد بن منصور من طريق حصين بن عبد الرحمن قال : " رأيت رجلا جلد حدا في قذف بالزنا فلما فرغ من ضربه أحدث توبة فلقيت أبا الزناد فقال لي : الأمر عندنا " فذكره .

قوله : ( وقال الشعبي وقتادة ) وصله الطبري عنهما مفرقا ، وروى ابن أبي حاتم من طريق داود بن أبي هند عن الشعبي قال : " إذا أكذب القاذف نفسه قبلت شهادته " .

قوله : ( وقال الثوري ) إلخ هو في " الجامع " له من رواية عبد الله بن الوليد العدني عنه .

قوله : ( وقال بعض الناس : لا تجوز شهادة القاذف وإن تاب ) هذا منقول عن الحنفية ، واحتجوا في رد شهادة المحدود بأحاديث قال الحفاظ : لا يصح منها شيء ، وأشهرها حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعا لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة ولا محدود في الإسلام أخرجه أبو داود وابن ماجه ورواه الترمذي من حديث عائشة نحوه وقال : " لا يصح " ، وقال أبو زرعة : منكر ، وروى عبد الرزاق عن الثوري عن واصل عن إبراهيم قال : " لا تقبل شهادة القاذف ، توبته فيما بينه وبين الله " . قال [ ص: 305 ] الثوري : " ونحن على ذلك " ، وأخرج عبد الرزاق من رواية عطاء الخراساني عن ابن عباس نحوه وهو منقطع ولم يصب من قال : إنه سند قوي .

قوله : ( ثم قال ) أي بعض الناس الذي أشار إليه ( لا يجوز نكاح بغير شاهدين ، فإن تزوج بشهادة محدودين جاز ) هو منقول عن الحنفية أيضا واعتذروا بأن الغرض شهرة النكاح ، وذلك حاصل بالعدل وغيره عند التحمل ، وأما عند الأداء فلا يقبل إلا العدل .

قوله : ( وأجاز شهادة العبد والمحدود والأمة لرؤية هلال رمضان ) هو منقول عن الحنفية أيضا واعتذروا بأنها جارية مجرى الخبر لا الشهادة .

قوله : ( وكيف تعرف توبته ) أي القاذف وهذا من كلام المصنف ، وهو من تمام الترجمة وكأنه أشار إلى الاختلاف في ذلك فعن أكثر السلف : لا بد أن يكذب نفسه ، وبه قال الشافعي وقد تقدم التصريح به عن الشافعي وغيره ، وأخرج ابن أبي شيبة عن طاوس مثله ، وعن مالك " إذا ازداد خيرا كفاه ولا يتوقف على تكذيب نفسه لجواز أن يكون صادقا في نفس الأمر " وإلى هذا مال المصنف .

قوله : ( ونفى النبي - صلى الله عليه وسلم - الزاني سنة ونهى عن كلام كعب بن مالك وصاحبيه حتى مضى خمسون ليلة ) أما نفي الزاني فموصول آخر الباب ، وأما قصة كعب فستأتي بطولها في آخر تفسير " براءة " وفي غزوة تبوك ، ووجه الدلالة منه أنه لم ينقل أنه - صلى الله عليه وسلم - كلفهما بعد التوبة بقدر زائد على النفي والهجران .

ثم أورد المصنف حديث عائشة في قصة المرأة التي سرقت مختصرة ، والمراد منه قول عائشة " فحسنت توبتها " الحديث . وكأنه أراد إلحاق القاذف بالسارق لعدم الفارق عنده . وإسماعيل شيخه فيه هو ابن أبي أويس ) وقوله : " وقال الليث حدثني يونس " ) وصله أبو داود من طريقه لكن بغير هذا اللفظ وظهر أن هذا اللفظ لابن وهب ، أشار المصنف إلى أن ذلك يختلف باختلاف الأشخاص والأحوال ، فيشترط مضي مدة يظن فيها صحة توبته ، وقدرها الأكثرون بسنة . ووجهوه بأن للفصول الأربعة في النفس تأثيرا ، فإذا مضت أشعر ذلك بحسن السريرة ، ولهذا اعتبرت في مدة تغريب الزاني ، والمختار أن هذا في الغالب وإلا ففي قول عمر لأبي بكرة " تب أقبل شهادتك " دلالة للجمهور ، قال ابن المنير : اشتراط توبة القاذف إذا كان عند نفسه محقا في غاية الإشكال بخلاف ما إذا كان كاذبا في قذفه فاشتراطها واضح .

ويمكن أن يقال : إن المعاين للفاحشة مأمور بأن لا يكشف صاحبها إلا إذا تحقق كمال النصاب معه ، فإذا كشفه قبل ذلك عصى فيتوب من المعصية في الإعلان لا من الصدق في علمه . قلت : ويعكر عليه أن أبا بكرة لم يكشف حتى يحقق كمال النصاب معه كما تقدم ، ومع ذلك أمره عمر بالتوبة لتقبل شهادته . ويجاب عن ذلك بأن عمر لعله لم يطلع على ذلك فأمره بالتوبة ولذلك لم يقبل منه أبو بكرة ما أمره به لعلمه بصدقه عند نفسه والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية