صفحة جزء
باب الخيل لثلاثة وقوله تعالى والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة ويخلق ما لا تعلمون

2705 حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن زيد بن أسلم عن أبي صالح السمان عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الخيل لثلاثة لرجل أجر ولرجل ستر وعلى رجل وزر فأما الذي له أجر فرجل ربطها في سبيل الله فأطال في مرج أو روضة فما أصابت في طيلها ذلك من المرج أو الروضة كانت له حسنات ولو أنها قطعت طيلها فاستنت شرفا أو شرفين كانت أرواثها وآثارها حسنات له ولو أنها مرت بنهر فشربت منه ولم يرد أن يسقيها كان ذلك حسنات له ورجل ربطها فخرا ورئاء ونواء لأهل الإسلام فهي وزر على ذلك وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحمر فقال ما أنزل علي فيها إلا هذه الآية الجامعة الفاذة فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره
[ ص: 75 ] قوله : ( باب الخيل لثلاثة ) هكذا اقتصر على صدر الحديث ، وأحال بتفسيره على ما ورد فيه ، وقد فهم بعض الشراح منه الحصر فقال : اتخاذ الخيل لا يخرج عن أن يكون مطلوبا أو مباحا أو ممنوعا ، فيدخل في المطلوب الواجب والمندوب ، ويدخل في الممنوع المكروه والحرام بحسب اختلاف المقاصد . واعترض بعضهم بأن المباح لم يذكر في الحديث لأن القسم الثاني الذي يتخيل فيه ذلك جاء مقيدا بقوله " ولم ينس حق الله فيها ، فيلتحق بالمندوب قال : والسر فيه أنه صلى الله عليه وسلم غالبا إنما يعتني بذكر ما فيه حض أو منع ، وأما المباح الصرف فيسكت عنه لما عرف أن سكوته عنه عفو . ويمكن أن يقال : القسم الثاني هو في الأصل المباح إلا أنه ربما ارتقى إلى الندب بالقصد بخلاف القسم الأول فإنه من ابتدائه مطلوب . والله أعلم .

قوله : وقول الله عز وجل والخيل والبغال والحمير الآية أي أن الله خلقها للركوب والزينة فمن استعملها في ذلك فعل ما أبيح له ، فإن اقترن بفعله قصد طاعة ارتقى إلى الندب ، أو قصد معصية حصل له الإثم وقد دل حديث الباب على هذا التقسيم .

قوله : ( عن زيد بن أسلم ) الإسناد كله مدنيون .

قوله : ( الخيل لثلاثة ) في رواية الكشميهني " الخيل ثلاثة " ووجه الحصر في الثلاثة أن الذي يقتني الخيل إما أن يقتنيها للركوب أو للتجارة ، وكل منهما إما أن يقترن به فعل طاعة الله وهو الأول ، أو معصيته وهو الأخير ، أو يتجرد عن ذلك وهو الثاني .

قوله : ( في مرج أو روضة ) شك من الراوي ، والمرج موضع الكلإ ، وأكثر ما يطلق على الموضع [ ص: 76 ] المطمئن ، والروضة أكثر ما يطلق في الموضع المرتفع ، وقد مضى الكلام على قوله : أرواثها وآثارها " قبل بابين .

قوله : ( فما أصابت في طيلها ) بكسر الطاء المهملة وفتح التحتانية بعدها لام هو الحبل الذي تربط به ويطول لها لترعى ، ويقال له طول بالواو المفتوحة أيضا كما تقدم في أول الجهاد ، وتقدم تفسير الاستنان هناك .

وقوله " ولم يرد أن يسقيها " فيه أن الإنسان يؤجر على التفاصيل التي تقع في فعل الطاعة إذا قصد أصلها وإن لم يقصد تلك التفاصيل ، وقد تأوله بعض الشراح فقال ابن المنير : قيل إنما أجر لأن ذلك وقت لا ينتفع بشربها فيه فيغتم صاحبها بذلك فيؤجر ، وقيل إن المراد حيث تشرب من ماء الغير بغير إذنه فيغتم صاحبها لذلك فيؤجر ، وكل ذلك عدول عن القصد .

قوله : ( رجل ربطها فخرا ) هكذا وقع بحذف أحد الثلاثة وهو من ربطها تغنيا ، وسيأتي بتمامه بهذا الإسناد بعينه في علامات النبوة ، وتقدم تاما من وجه آخر عن مالك في أواخر كتاب الشرب ، وقوله : تغنيا " بفتح المثناة والمعجمة ثم نون ثقيلة مكسورة وتحتانية أي استغناء عن الناس تقول تغنيت بما رزقني الله تغنيا وتغانيت تغانيا واستغنيت استغناء كلها بمعنى ، وسيأتي بسط ذلك في فضائل القرآن في الكلام على قوله : ليس منا من لم يتغن بالقرآن " وقوله " تعففا " أي عن السؤال ، والمعنى أنه يطلب بنتاجها أو بما يحصل من أجرتها ممن يركبها أو نحو ذلك الغنى عن الناس والتعفف عن مسألتهم ، ووقع في رواية سهيل عن أبيه عند مسلم " وأما الذي هي له ستر فالرجل يتخذها تعففا وتكرما وتجملا ، وقوله : ولم ينس حق الله في رقابها " قيل المراد حسن ملكها وتعهد شبعها وريها والشفقة عليها في الركوب ، وإنما خص رقابها بالذكر لأنها تستعار كثيرا في الحقوق اللازمة ومنه قوله تعالى فتحرير رقبة وهذا جواب من لم يوجب الزكاة في الخيل وهو قول الجمهور ، وقيل المراد بالحق إطراق فحلها والحمل عليها في سبيل الله وهو قول الحسن والشعبي ومجاهد ، وقيل المراد بالحق الزكاة وهو قول حماد وأبي حنيفة ، وخالفه صاحباه وفقهاء الأمصار ، قال أبو عمر : لا أعلم أحدا سبقه إلى ذلك .

قوله : ( فخرا ) أي تعاظما وقوله " ورياء " أي إظهارا للطاعة والباطن بخلاف ذلك . ووقع في رواية سهيل المذكورة : وأما الذي هي عليه وزر فالذي يتخذها أشرا وبطرا وبذخا ، ورياء للناس " .

قوله : ( ونواء لأهل الإسلام ) بكسر النون والمد هو مصدر تقول ناوأت العدو مناوأة ونواء ، وأصله من ناء إذا نهض ويستعمل في المعاداة ، قال الخليل : ناوأت الرجل ناهضته بالعداوة ، وحكى عياض عن الداودي الشارح أنه وقع عنده " ونوى " بفتح النون والقصر قال : ولا يصح ذلك ، قلت حكاه الإسماعيلي عن رواية إسماعيل بن أبي أويس ، فإن ثبت فمعناه : وبعدا لأهل الإسلام ، أي منهم . والظاهر أن الواو في قوله ورياء ونواء بمعنى " أو " لأن هذه الأشياء قد تفترق في الأشخاص ، وكل واحد منها مذموم على حدته ، وفي هذا الحديث بيان أن الخيل إنما تكون في نواصيها الخير والبركة إذا كان اتخاذها في الطاعة أو في الأمور المباحة وإلا فهي مذمومة .

[ ص: 77 ] قوله : ( وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم ) لم أقف على تسمية السائل صريحا ، وسيأتي ما قيل فيه في كتاب الاعتصام إن شاء الله تعالى .

قوله : ( عن الحمر فقال : ما أنزل علي فيها إلا هذه الآية الجامعة الفاذة ) بالفاء وتشديد المعجمة سماها جامعة لشمولها لجميع الأنواع من طاعة ومعصية ، وسماها فاذة لانفرادها في معناها ، قال ابن التين : والمراد أن الآية دلت على أن من عمل في اقتناء الحمير طاعة رأى ثواب ذلك ، وإن عمل معصية رأى عقاب ذلك . قال ابن بطال : فيه تعليم الاستنباط والقياس ، لأنه شبه ما لم يذكر الله حكمه في كتابه وهو الحمر بما ذكره من عمل مثقال ذرة من خير أو شر إذ كان معناهما واحدا ، قال : وهذا نفس القياس الذي ينكره من لا فهم عنده . وتعقبه ابن المنير بأن هذا ليس من القياس في شيء ، وإنما هو استدلال بالعموم وإثبات لصيغته خلافا لمن أنكر أو وقف . وفيه تحقيق لإثبات العمل بظواهر العموم وأنها ملزمة حتى يدل دليل التخصيص ، وفيه إشارة إلى الفرق بين الحكم الخاص المنصوص والعام الظاهر ، وأن الظاهر دون المنصوص في الدلالة .

التالي السابق


الخدمات العلمية