صفحة جزء
باب لا يعذب بعذاب الله

2853 حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا الليث عن بكير عن سليمان بن يسار عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعث فقال إن وجدتم فلانا وفلانا فأحرقوهما بالنار ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أردنا الخروج إني أمرتكم أن تحرقوا فلانا وفلانا وإن النار لا يعذب بها إلا الله فإن وجدتموهما فاقتلوهما
قوله : ( باب لا يعذب بعذاب الله ) هكذا بت الحكم في هذه المسألة لوضوح دليلها عنده ، ومحله إذا لم يتعين التحريق طريقا إلى الغلبة على الكفار حال الحرب .

قوله : ( عن بكير ) بموحدة وكاف مصغر ، ولأحمد عن هشام بن القاسم عن الليث " حدثني بكير بن عبد الله بن الأشج " فأفاد نسبته وتصريحه بالتحديث .

قوله : ( عن أبي هريرة ) كذا في جميع الطرق عن الليث ليس بين سليمان بن يسار وأبي هريرة فيه أحد ، وكذلك أخرجه النسائي من طريق عمرو بن الحارث وغيره عن بكير ، ومضى قبل أبواب معلقا ، وخالفهم محمد بن إسحاق فرواه في السيرة عن يزيد بن أبي حبيب عن بكير فأدخل بين سليمان ، وأبي هريرة رجلا وهو أبو إسحاق الدوسي ، وأخرجه الدارمي وابن السكن وابن حبان في صحيحه من طريق ابن إسحاق ، وأشار الترمذي إلى هذه الرواية ، ونقل عن البخاري أن رواية الليث أصح ، وسليمان قد صح سماعه من أبي هريرة ، يعني وهو غير مدلس فتكون رواية ابن إسحاق من المزيد في متصل الأسانيد .

قوله : ( بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعث فقال إن وجدتم فلانا وفلانا ) زاد الترمذي عن قتيبة بهذا الإسناد " رجلين من قريش " وفي رواية ابن إسحاق " بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية أنا فيها [ ص: 174 ] قلت : وكان أمير السرية المذكورة حمزة بن عمرو الأسلمي أخرجه أبو داود من طريقه بإسناد صحيح لكن قال في روايته : إن وجدتم فلانا فأحرقوه بالنار ، هكذا بالإفراد ، وكذلك رويناه في " فوائد علي بن حرب " عن ابن عيينة عن ابن أبي نجيح مرسلا وسماه هبار بن الأسود ، ووقع في رواية ابن إسحاق إن وجدتم هبار بن الأسود والرجل الذي سبق منه إلى زينب ما سبق فحرقوهما بالنار " يعني زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان زوجها أبو العاص بن الربيع لما أسره الصحابة ثم أطلقه النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة شرط عليه أن يجهز له لبنته زينب فجهزها ، فتبعها هبار بن الأسود ورفيقه فنخسا بعيرها فأسقطت ومرضت من ذلك ، والقصة مشهورة عند ابن إسحاق وغيره ، وقال في روايته " وكانا نخسا بزينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خرجت من مكة " وقد أخرجه سعيد بن منصور عن ابن عيينة عن ابن أبي نجيح " أن هبار بن الأسود أصاب زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء وهي في خدرها فأسقطت ، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية فقال : إن وجدتموه فاجعلوه بين حزمتي حطب ثم أشعلوا فيه النار " ثم قال : إني لأستحي من الله ، لا ينبغي لأحد أن يعذب بعذاب الله " الحديث ، فكأن إفراد هبار بالذكر لكونه كان الأصل في ذلك والآخر كان تبعا له ، وسمى ابن السكن في روايته من طريق ابن إسحاق الرجل الآخر نافع بن عبد قيس ، وبه جزم ابن هشام في " زوائد السيرة " عليه ، وحكى السهيلي عن مسند البزار أنه خالد بن عبد قيس فلعله تصحف عليه ، وإنما هو نافع ، كذلك هو في النسخ المعتمدة من مسند البزار ، وكذلك أورده ابن بشكوال من مسند البزار ، وأخرجه محمد بن عثمان بن أبي شيبة في تاريخه من طريق ابن لهيعة كذلك . قلت : وقد أسلم هبار هذا ، ففي رواية ابن أبي نجيح المذكورة " فلم تصبه السرية وأصابه الإسلام فهاجر " فذكر قصة إسلامه ، وله حديث عند الطبراني وآخر عند ابن منده ، وذكر البخاري في تاريخه لسليمان بن يسار عنه رواية في قصة جرت له مع عمر في الحج ، وعاش هبار هذا إلى خلافة معاوية ، وهو بفتح الهاء وتشديد الموحدة . ولم أقف لرفيقه على ذكر في الصحابة فلعله مات قبل أن يسلم .

قوله : ( ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أردنا الخروج ) في رواية ابن إسحاق " حتى إذا كان من الغد " وفي رواية عمرو بن الحارث " فأتيناه نودعه حين أردنا الخروج " وفي رواية ابن لهيعة " فلما ودعنا " وفي رواية حمزة الأسلمي " فوليت فناداني فرجعت " .

قوله : ( وإن النار لا يعذب بها إلا الله ) هو خبر بمعنى النهي ، ووقع في رواية ابن لهيعة " وأنه لا ينبغي " وفي رواية ابن إسحاق ، ثم رأيت أنه لا ينبغي أن يعذب بالنار إلا الله " وروى أبو داود من حديث ابن مسعود رفعه أنه لا ينبغي أن يعذب بالنار إلا رب النار وفي الحديث قصة . واختلف السلف في التحريق : فكره ذلك عمر وابن عباس وغيرهما مطلقا سواء كان ذلك بسبب كفر أو في حال مقاتلة أو كان قصاصا ، وأجازه علي وخالد بن الوليد وغيرهما ، وسيأتي ما يتعلق بالقصاص قريبا . وقال المهلب : ليس هذا النهي على التحريم بل على سبيل التواضع ، ويدل على جواز التحريق فعل الصحابة ، وقد سمل النبي صلى الله عليه وسلم أعين العرنيين بالحديد المحمي ، وقد حرق أبو بكر البغاة بالنار بحضرة الصحابة ، وحرق خالد بن الوليد بالنار ناسا من أهل الردة ، وأكثر علماء المدينة يجيزون تحريق الحصون والمراكب على أهلها قاله النووي والأوزاعي . [ ص: 175 ] وقال ابن المنير وغيره : لا حجة فيما ذكر للجواز ، لأن قصة العرنيين كانت قصاصا أو منسوخة كما تقدم . وتجويز الصحابي معارض بمنع صحابي آخر ، وقصة الحصون والمراكب مقيدة بالضرورة إلى ذلك إذا تعين طريقا للظفر بالعدو ، ومنهم من قيده بأن لا يكون معهم نساء ولا صبيان كما تقدم ، وأما حديث الباب فظاهر النهي فيه التحريم ، وهو نسخ لأمره المتقدم سواء كان بوحي إليه أو باجتهاد منه ، وهو محمول على من قصد إلى ذلك في شخص بعينه . وقد اختلف في مذهب مالك في أصل المسألة وفي التدخين ، وفي القصاص بالنار ، وفي الحديث جواز الحكم بالشيء اجتهادا ثم الرجوع عنه ، واستحباب ذكر الدليل عند الحكم لرفع الإلباس والاستنابة في الحدود ونحوها ، وأن طول الزمان لا يرفع العقوبة عمن يستحقها . وفيه كراهة قتل مثل البرغوث بالنار . وفيه نسخ السنة بالسنة وهو اتفاق . وفيه مشروعية توديع المسافر لأكابر أهل بلده ، وتوديع أصحابه له أيضا . وفيه جواز نسخ الحكم قبل العمل به أو قبل التمكن من العمل به ، وهو اتفاق إلا عن بعض المعتزلة فيما حكاه أبو بكر بن العربي . وهذه المسألة غير المسألة المشهورة في الأصول في وجوب العمل بالناسخ قبل العلم به ، وقد تقدم شيء من ذلك في أوائل الصلاة في الكلام على حديث الإسراء . وقد اتفقوا على أنهم إن تمكنوا من العلم به ثبت حكمه في حقهم اتفاقا ، فإن لم يتمكنوا فالجمهور أنه لا يثبت ، وقيل يثبت في الذمة كما لو كان نائما ولكنه معذور .

التالي السابق


الخدمات العلمية