صفحة جزء
باب كفران العشير وكفر دون كفر فيه عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم

29 حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن ابن عباس قال قال النبي صلى الله عليه وسلم أريت النار فإذا أكثر أهلها النساء يكفرن قيل أيكفرن بالله قال يكفرن العشير ويكفرن الإحسان لو أحسنت إلى إحداهن الدهر ثم رأت منك شيئا قالت ما رأيت منك خيرا قط
قوله : ( باب كفران العشير ، وكفر دون كفر ) قال القاضي أبو بكر بن العربي في شرحه : مراد [ ص: 105 ] المصنف أن يبين أن الطاعات كما تسمى إيمانا كذلك المعاصي تسمى كفرا ، لكن حيث يطلق عليها الكفر لا يراد الكفر المخرج من الملة . قال : وخص كفران العشير من بين أنواع الذنوب لدقيقة بديعة وهي قوله - صلى الله عليه وسلم - لو أمرت أحدا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها فقرن حق الزوج على الزوجة بحق الله ، فإذا كفرت المرأة حق زوجها - وقد بلغ من حقه عليها هذه الغاية - كان ذلك دليلا على تهاونها بحق الله ، فلذلك يطلق عليها الكفر لكنه كفر لا يخرج عن الملة . ويؤخذ من كلامه مناسبة هذه الترجمة لأمور الإيمان من جهة كون الكفر ضد الإيمان . وأما قول المصنف " وكفر دون كفر " فأشار إلى أثر رواه أحمد في كتاب الإيمان من طريق عطاء بن أبي رباح وغيره . وقوله " فيه أبو سعيد " أي : يدخل في الباب حديث رواه " أبو سعيد " وفي رواية كريمة " فيه عن أبي سعيد " أي : مروي عن أبي سعيد . وفائدة هذا الإشارة إلى أن للحديث طريقا غير الطريق المساقة . وحديث أبي سعيد أخرجه المؤلف في الحيض وغيره من طريق عياض بن عبد الله عنه وفيه قوله - صلى الله عليه وسلم - للنساء تصدقن ، فإني رأيتكن أكثر أهل النار فقلن : ولم يا رسول الله ؟ قال تكثرن اللعن ، وتكفرن العشير الحديث . ويحتمل أن يريد بذلك حديث أبي سعيد أيضا " لا يشكر الله من لا يشكر الناس " قاله القاضي أبو بكر المذكور ، والأول أظهر وأجرى على مألوف المصنف ، ويعضده إيراده لحديث ابن عباس بلفظ " وتكفرن العشير " والعشير الزوج ، قيل له عشير بمعنى معاشر مثل أكيل بمعنى مؤاكل ، وحديث ابن عباس المذكور طرف من حديث طويل أورده المصنف في باب صلاة الكسوف بهذا الإسناد تاما ، وسيأتي الكلام عليه ثم .

وننبه هنا على فائدتين :

إحداهما : أن البخاري يذهب إلى جواز تقطيع الحديث ، إذا كان ما يفصله منه لا يتعلق بما قبله ولا بما بعده تعلقا يفضي إلى فساد المعنى ، فصنيعه كذلك يوهم من لا يحفظ الحديث أن المختصر غير التام ، لا سيما إذا كان ابتداء المختصر من أثناء التام كما وقع في هذا الحديث فإن أوله هنا قوله - صلى الله عليه وسلم - " أريت النار " إلى آخر ما ذكر منه ، وأول التام عن ابن عباس قال : خسفت الشمس على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكر قصة صلاة الخسوف ثم خطبة النبي - صلى الله عليه وسلم - وفيها القدر المذكور هنا ، فمن أراد عد الأحاديث التي اشتمل عليها الكتاب يظن أن هذا الحديث حديثان أو أكثر لاختلاف الابتداء ، وقد وقع في ذلك من حكى أن عدته بغير تكرار أربعة آلاف أو نحوها كابن الصلاح والشيخ محيي الدين ومن بعدهما ، وليس الأمر كذلك بل عدته على التحرير ألفا حديث وخمسمائة حديث وثلاثة عشر حديثا كما بينت ذلك مفصلا في المقدمة .

الفائدة الثانية : تقرر أن البخاري لا يعيد الحديث إلا لفائدة ، لكن تارة تكون في المتن ، وتارة في الإسناد ، وتارة فيهما . وحيث تكون في المتن خاصة لا يعيده بصورته بل يتصرف فيه ، فإن كثرت طرقه أورد لكل باب طريقا ، وإن قلت اختصر المتن أو الإسناد .

وقد صنع ذلك في هذا الحديث ، فإنه أورده هنا عن عبد الله بن مسلمة - وهو القعنبي - مختصرا مقتصرا على مقصود الترجمة كما تقدمت الإشارة إليه من أن الكفر يطلق على بعض المعاصي ، ثم أورده في الصلاة في باب من صلى وقدامه نار بهذا الإسناد بعينه ، لكنه لما لم يغاير اقتصر على مقصود الترجمة منه فقط ، ثم أورده في صلاة الكسوف بهذا الإسناد فساقه تاما ، ثم أورده في بدء الخلق في ذكر الشمس والقمر عن شيخ غير القعنبي مقتصرا على موضع الحاجة ، ثم أورده في عشرة النساء عن شيخ غيرهما عن مالك أيضا . وعلى [ ص: 106 ] هذه الطريقة يحمل جميع تصرفه ، فلا يوجد في كتابه حديث على صورة واحدة في موضعين فصاعدا إلا نادرا والله الموفق . وسيأتي الكلام على ما تضمنه حديث الباب من الفوائد حيث ذكره تاما إن شاء الله تعالى .

التالي السابق


الخدمات العلمية