صفحة جزء
باب مناقب المهاجرين وفضلهم منهم أبو بكر عبد الله بن أبي قحافة التيمي رضي الله عنه وقول الله تعالى للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون وقال الله إلا تنصروه فقد نصره الله إلى قوله إن الله معنا قالت عائشة وأبو سعيد وابن عباس رضي الله عنهم وكان أبو بكر مع النبي صلى الله عليه وسلم في الغار

3452 حدثنا عبد الله بن رجاء حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن البراء قال اشترى أبو بكر رضي الله عنه من عازب رحلا بثلاثة عشر درهما فقال أبو بكر لعازب مر البراء فليحمل إلي رحلي فقال عازب لا حتى تحدثنا كيف صنعت أنت ورسول الله صلى الله عليه وسلم حين خرجتما من مكة والمشركون يطلبونكم قال ارتحلنا من مكة فأحيينا أو سرينا ليلتنا ويومنا حتى أظهرنا وقام قائم الظهيرة فرميت ببصري هل أرى من ظل فآوي إليه فإذا صخرة أتيتها فنظرت بقية ظل لها فسويته ثم فرشت للنبي صلى الله عليه وسلم فيه ثم قلت له اضطجع يا نبي الله فاضطجع النبي صلى الله عليه وسلم ثم انطلقت أنظر ما حولي هل أرى من الطلب أحدا فإذا أنا براعي غنم يسوق غنمه إلى الصخرة يريد منها الذي أردنا فسألته فقلت له لمن أنت يا غلام قال لرجل من قريش سماه فعرفته فقلت هل في غنمك من لبن قال نعم قلت فهل أنت حالب لنا قال نعم فأمرته فاعتقل شاة من غنمه ثم أمرته أن ينفض ضرعها من الغبار ثم أمرته أن ينفض كفيه فقال هكذا ضرب إحدى كفيه بالأخرى فحلب لي كثبة من لبن وقد جعلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم إداوة على فمها خرقة فصببت على اللبن حتى برد أسفله فانطلقت به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فوافقته قد استيقظ فقلت اشرب يا رسول الله فشرب حتى رضيت ثم قلت قد آن الرحيل يا رسول الله قال بلى فارتحلنا والقوم يطلبوننا فلم يدركنا أحد منهم غير سراقة بن مالك بن جعشم على فرس له فقلت هذا الطلب قد لحقنا يا رسول الله فقال لا تحزن إن الله معنا
[ ص: 11 ] قوله : ( باب مناقب المهاجرين وفضلهم ) سقط لفظ " باب " من رواية أبي ذر ، والمراد بالمهاجرين من عدا الأنصار ومن أسلم يوم الفتح وهلم جرا ، فالصحابة من هذه الحيثية ثلاثة أصناف ، والأنصار هم الأوس والخزرج وحلفاؤهم ومواليهم .

قوله : ( منهم أبو بكر عبد الله بن أبي قحافة التيمي ) هكذا جزم بأن اسم أبي بكر عبد الله وهو المشهور ، ويقال : كان اسمه قبل الإسلام عبد الكعبة وكان يسمى أيضا عتيقا ، واختلف هل هو اسم له أصلي ، أو قيل له ذلك لأنه ليس في نسبه ما يعاب به ، أو لقدمه في الخير وسبقه إلى الإسلام ، أو قيل له ذلك لحسنه ، أو لأن أمه كان لا يعيش لها ولد فلما ولد استقبلت به البيت فقالت : اللهم هذا عتيقك من الموت ، أو لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - بشره بأن الله أعتقه من النار ؟ وقد ورد في هذا الأخير حديث عن عائشة عند الترمذي ، وآخر عن عبد الله بن الزبير عند البزار ، وصححه ابن حبان وزاد فيه " وكان اسمه قبل ذلك عبد الله بن عثمان " وعثمان اسم أبي قحافة لم يختلف في ذلك كما لم يختلف في كنية الصديق .

ولقب الصديق لسبقه إلى تصديق النبي ، صلى الله عليه وسلم . وقيل : كان ابتداء تسميته بذلك صبيحة الإسراء . وروى الطبراني من حديث علي " أنه كان يحلف أن الله أنزل اسم أبي بكر من السماء الصديق " رجاله ثقات . وأما نسبه فهو عبد الله بن عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب ، يجتمع مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في مرة بن كعب ، [ ص: 12 ] وعدد آبائهما إلى مرة سواء ، وأم أبي بكر سلمى وتكنى أم الخير بنت صخر بن مالك بن عامر بن عمرو المذكور ، أسلمت وهاجرت ، وذلك معدود من مناقبه ; لأنه انتظم إسلام أبويه وجميع أولاده .

قوله : ( وقول الله عز وجل : للفقراء المهاجرين الآية ) ساقها الأصيلي وكريمة إلى قوله هم الصادقون وأشار المصنف بهذه الآية إلى ثبوت فضل المهاجرين لما اشتملت عليه من أوصافهم الجميلة وشهادة الله تعالى لهم بالصدق .

قوله : ( وقال الله تعالى : إلا تنصروه فقد نصره الله الآية ) ساق في رواية الأصيلي وكريمة إلى قوله : إن الله معنا وأشار المصنف بها إلى ثبوت فضل الأنصار فإنهم امتثلوا الأمر في نصره ، وكان نصر الله له في حال التوجه إلى المدينة بحفظه من أذى المشركين الذين اتبعوه ليردوه عن مقصده . وفي الآية أيضا فضل أبي بكر الصديق لأنه انفرد بهذه المنقبة حيث صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في تلك السفرة ووقاه بنفسه كما سيأتي ، وشهد الله له فيها بأنه صاحب نبيه .

قوله : ( وقالت عائشة وأبو سعيد وابن عباس : كان أبو بكر مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في الغار ) أي لما خرجا من مكة إلى المدينة ، حديث عائشة سيأتي مطولا في " باب الهجرة إلى المدينة " وفيه " ثم لحق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر بغار في جبل ثور " الحديث . وحديث أبي سعيد أخرجه ابن حبان من طريق أبي عوانة عن الأعمش عن أبي صالح عنه في قصة بعث أبي بكر إلى الحج ، وفيه فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أنت أخي وصاحبي في الغار الحديث .

وحديث ابن عباس في تفسير براءة في قصة ابن عباس مع ابن الزبير ، وفيها قول ابن عباس " وأما جده فصاحب الغار " يريد أبا بكر ، ولابن عباس حديث آخر لعله أمس بالمراد ، أخرجه أحمد والحاكم من طريق عمرو بن ميمون عنه قال : " كان المشركون يرمون عليا وهم يظنون أنه النبي - صلى الله عليه وسلم - فجاء أبو بكر فقال : يا رسول الله ، فقال له علي : إنه انطلق نحو بئر ميمون فأدركه ، قال : فانطلق أبو بكر فدخل معه الغار " الحديث . وأصله في الترمذي والنسائي دون المقصود منه هنا . وروى الحاكم من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله تعالى : فأنزل الله سكينته عليه قال : " على أبي بكر " وروى عبد الله بن أحمد في " زيادات المسند " من وجه آخر عن ابن عباس قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أبو بكر صاحبي ومؤنسي في الغار الحديث ، ورجاله ثقات .

قوله : ( حدثنا عبد الله بن رجاء ) هو الغداني بضم المعجمة وتخفيف الدال المهملة وبعد الألف نون بصري ثقة ، وكذا بقية رجال الإسناد .

قوله : ( فقال عازب : لا حتى تحدثنا ) كذا وقع في رواية إسرائيل عن أبي إسحاق ، وقد تقدم في " علامات النبوة " من رواية زهير عن أبي إسحاق بلفظ " فقال لعازب : ابعث ابنك يحمله معي ، قال : فحملته معه ، وخرج أبي ينتقد ثمنه ، فقال له أبي : يا أبا بكر حدثني " وظاهرهما التخالف ، فإن مقتضى رواية إسرائيل أن عازبا امتنع [ ص: 13 ] من إرسال ولده مع أبي بكر حتى يحدثهم ، ومقتضى رواية زهير أنه لم يعلق التحديث على شرط ، ويمكن الجمع بين الروايتين بأن عازبا اشترط أولا ، وأجابه أبو بكر إلى سؤاله ، فلما شرعوا في التوجه استنجز عازب منه ما وعده به من التحديث ففعل ، قال الخطابي : تمسك بهذا الحديث من استجاز أخذ الأجرة على التحديث ; وهو تمسك باطل ، لأن هؤلاء اتخذوا التحديث بضاعة ، وأما الذي وقع بين عازب وأبي بكر فإنما هو على مقتضى العادة الجارية بين التجار بأن أتباعهم يحملون السلعة مع المشتري سواء أعطاهم أجرة أم لا ، كذا قال ، ولا ريب أن في الاستدلال للجواز بذلك بعدا ، لتوقفه على أن عازبا لو استمر على الامتناع من إرسال ابنه لاستمر أبو بكر على الامتناع من التحديث ، والله أعلم .

قوله : ( فإذا أنا براع ) لم أقف على تسميته ولا على تسمية صاحب الغنم ، إلا أنه جاء في حديث عبد الله بن مسعود شيء تمسك به من زعم أنه الراعي ، وذلك فيما أخرجه أحمد وابن حبان من طريق عاصم ، عن زر عن ابن مسعود قال : كنت أرعى غنما لعقبة بن أبي معيط ، فمر بي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر فقال : يا غلام هل من لبن ؟ قلت : نعم ، ولكني مؤتمن الحديث . وهذا لا يصلح أن يفسر به الراعي في حديث البراء لأن ذاك قيل له : هل أنت حالب ؟ فقال : نعم وهذا أشار بأنه غير حالب ، وذاك حلب من شاة حافل وهذا من شاة لم تطرق ولم تحمل ، ثم إن في بقية هذا الحديث ما يدل على أن قصته كانت قبل الهجرة لقوله فيه : " ثم أتيته بعد هذا فقلت : يا رسول الله علمني من هذا القول " فإن هذا يشعر بأنها كانت قبل إسلام ابن مسعود ، وإسلام ابن مسعود كان قديما قبل الهجرة بزمان ، فبطل أن يكون هو صاحب القصة في الهجرة ، والله أعلم .

قوله : ( فشرب حتى رضيت ) وقع في رواية أوس عن خديج عن أبي إسحاق " قال أبو إسحاق : فتكلم بكلمة والله ما سمعتها من غيره " كأنه يعني قوله : " حتى رضيت " فإنها مشعرة بأنه أمعن في الشرب ، وعادته المألوفة كانت عدم الإمعان .

قوله : ( قد آن الرحيل يا رسول الله ) أي دخل وقته ، وتقدم في علامات النبوة فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ألم يأن للرحيل ؟ قلت : بلى فيجمع بينهما بأن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - بدأ فسأل ، فقال له أبو بكر : بلى ، ثم أعاد عليه بقوله " قد آن الرحيل " قال المهلب بن أبي صفرة : إنما شرب النبي - صلى الله عليه وسلم - من لبن تلك الغنم لأنه كان حينئذ في زمن المكارمة ، ولا يعارضه حديثه لا يحلبن أحد ماشية أحد إلا بإذنه لأن ذلك وقع في زمن التشاح ، أو الثاني محمول على التسور والاختلاس والأول لم يقع فيه ذلك بل قدم أبو بكر سؤال الراعي هل أنت حالب ؟ فقال : نعم . كأنه سأله هل أذن لك صاحب الغنم في حلبها لمن يرد عليك ؟ فقال : نعم أو جرى على العادة المألوفة للعرب في إباحة ذلك والإذن في الحلب على المار ولابن السبيل ، فكان كل راع مأذونا له في ذلك .

وقال الداودي : إنما شرب من ذلك على أنه ابن سبيل وله شرب ذلك إذا احتاج ، ولا سيما النبي ، صلى الله عليه وسلم . وأبعد من قال : إنما استجازه لأنه مال حربي ، لأن القتال لم يكن فرض بعد ولا أبيحت الغنائم . وقد [ ص: 14 ] تقدم شيء من هذه المباحث في هذه المسألة في آخر اللقطة ، وفيها الكلام على إباحة ذلك للمسافر مطلقا . وفي الحديث من الفوائد غير ما تقدم : خدمة التابع الحر للمتبوع في يقظته والذب عنه عند نومه ، وشدة محبة أبي بكر للنبي - صلى الله عليه وسلم - وأدبه معه وإيثاره له على نفسه ، وفيه أدب الأكل والشرب واستحباب التنظيف لما يؤكل ويشرب ، وفيه استصحاب آلة السفر كالإداوة والسفرة ولا يقدح ذلك في التوكل ، وستأتي قصة سراقة في الهجرة مستوفاة إن شاء الله تعالى ، وأوردها هنا مختصرة جدا وفي علامات النبوة أتم منه .

( تنبيه ) : أورد الإسماعيلي هذا الحديث عن أبي خليفة عن عبد الله بن رجاء شيخ البخاري فيه فزاد في آخره " ومضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا معه حتى أتينا المدينة ليلا ، فتنازعه القوم أيهم ينزل عليه " فذكر القصة مطولة ، وسأذكر ما فيها من الفوائد في " باب الهجرة " إن شاء الله تعالى .

قوله : ( تريحون بالعشي ، تسرحون بالغداة ) هو تفسير قوله تعالى : ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون وهو تفسير أبي عبيدة في " المجاز " وثبت هذا في رواية الكشميهني وحده ، والصواب أن يثبت في حديث عائشة في قصة الهجرة فإن فيه " ويرعى عليها عامر بن فهيرة ويريحهما عليهما " فهذا هو محل شرح هذه اللفظة بخلاف حديث البراء فلم يجر فيه لهذه اللفظة ذكر ، والله تعالى أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية