صفحة جزء
3694 حدثنا يحيى بن بكير حدثنا الليث عن عقيل قال ابن شهاب فأخبرني عروة بن الزبير أن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت لم أعقل أبوي قط إلا وهما يدينان الدين ولم يمر علينا يوم إلا يأتينا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفي النهار بكرة وعشية فلما ابتلي المسلمون خرج أبو بكر مهاجرا نحو أرض الحبشة حتى إذا بلغ برك الغماد لقيه ابن الدغنة وهو سيد القارة فقال أين تريد يا أبا بكر فقال أبو بكر أخرجني قومي فأريد أن أسيح في الأرض وأعبد ربي قال ابن الدغنة فإن مثلك يا أبا بكر لا يخرج ولا يخرج إنك تكسب المعدوم وتصل الرحم وتحمل الكل وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق فأنا لك جار ارجع واعبد ربك ببلدك فرجع وارتحل معه ابن الدغنة فطاف ابن الدغنة عشية في أشراف قريش فقال لهم إن أبا بكر لا يخرج مثله ولا يخرج أتخرجون رجلا يكسب المعدوم ويصل الرحم ويحمل الكل ويقري الضيف ويعين على نوائب الحق فلم تكذب قريش بجوار ابن الدغنة وقالوا لابن الدغنة مر أبا بكر فليعبد ربه في داره فليصل فيها وليقرأ ما شاء ولا يؤذينا بذلك ولا يستعلن به فإنا نخشى أن يفتن نساءنا وأبناءنا فقال ذلك ابن الدغنة لأبي بكر فلبث أبو بكر بذلك يعبد ربه في داره ولا يستعلن بصلاته ولا يقرأ في غير داره ثم بدا لأبي بكر فابتنى مسجدا بفناء داره وكان يصلي فيه ويقرأ القرآن فينقذف عليه نساء المشركين وأبناؤهم وهم يعجبون منه وينظرون إليه وكان أبو بكر رجلا بكاء لا يملك عينيه إذا قرأ القرآن وأفزع ذلك أشراف قريش من المشركين فأرسلوا إلى ابن الدغنة فقدم عليهم فقالوا إنا كنا أجرنا أبا بكر بجوارك على أن يعبد ربه في داره فقد جاوز ذلك فابتنى مسجدا بفناء داره فأعلن بالصلاة والقراءة فيه وإنا قد خشينا أن يفتن نساءنا وأبناءنا فانهه فإن أحب أن يقتصر على أن يعبد ربه في داره فعل وإن أبى إلا أن يعلن بذلك فسله أن يرد إليك ذمتك فإنا قد كرهنا أن نخفرك ولسنا مقرين لأبي بكر الاستعلان قالت عائشة فأتى ابن الدغنة إلى أبي بكر فقال قد علمت الذي عاقدت لك عليه فإما أن تقتصر على ذلك وإما أن ترجع إلي ذمتي فإني لا أحب أن تسمع العرب أني أخفرت في رجل عقدت له فقال أبو بكر فإني أرد إليك جوارك وأرضى بجوار الله عز وجل والنبي صلى الله عليه وسلم يومئذ بمكة فقال النبي صلى الله عليه وسلم للمسلمين إني أريت دار هجرتكم ذات نخل بين لابتين وهما الحرتان فهاجر من هاجر قبل المدينة ورجع عامة من كان هاجر بأرض الحبشة إلى المدينة وتجهز أبو بكر قبل المدينة فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم على رسلك فإني أرجو أن يؤذن لي فقال أبو بكر وهل ترجو ذلك بأبي أنت قال نعم فحبس أبو بكر نفسه على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصحبه وعلف راحلتين كانتا عنده ورق السمر وهو الخبط أربعة أشهر قال ابن شهاب قال عروة قالت عائشة فبينما نحن يوما جلوس في بيت أبي بكر في نحر الظهيرة قال قائل لأبي بكر هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم متقنعا في ساعة لم يكن يأتينا فيها فقال أبو بكر فداء له أبي وأمي والله ما جاء به في هذه الساعة إلا أمر قالت فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستأذن فأذن له فدخل فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر أخرج من عندك فقال أبو بكر إنما هم أهلك بأبي أنت يا رسول الله قال فإني قد أذن لي في الخروج فقال أبو بكر الصحابة بأبي أنت يا رسول الله قال رسول الله صلى الله عليه وسلم نعم قال أبو بكر فخذ بأبي أنت يا رسول الله إحدى راحلتي هاتين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بالثمن قالت عائشة فجهزناهما أحث الجهاز وصنعنا لهما سفرة في جراب فقطعت أسماء بنت أبي بكر قطعة من نطاقها فربطت به على فم الجراب فبذلك سميت ذات النطاقين قالت ثم لحق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر بغار في جبل ثور فكمنا فيه ثلاث ليال يبيت عندهما عبد الله بن أبي بكر وهو غلام شاب ثقف لقن فيدلج من عندهما بسحر فيصبح مع قريش بمكة كبائت فلا يسمع أمرا يكتادان به إلا وعاه حتى يأتيهما بخبر ذلك حين يختلط الظلام ويرعى عليهما عامر بن فهيرة مولى أبي بكر منحة من غنم فيريحها عليهما حين تذهب ساعة من العشاء فيبيتان في رسل وهو لبن منحتهما ورضيفهما حتى ينعق بها عامر بن فهيرة بغلس يفعل ذلك في كل ليلة من تلك الليالي الثلاث واستأجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رجلا من بني الديل وهو من بني عبد بن عدي هاديا خريتا والخريت الماهر بالهداية قد غمس حلفا في آل العاص بن وائل السهمي وهو على دين كفار قريش فأمناه فدفعا إليه راحلتيهما وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال براحلتيهما صبح ثلاث وانطلق معهما عامر بن فهيرة والدليل فأخذ بهم طريق السواحل قال ابن شهاب وأخبرني عبد الرحمن بن مالك المدلجي وهو ابن أخي سراقة بن مالك بن جعشم أن أباه أخبره أنه سمع سراقة بن جعشم يقول جاءنا رسل كفار قريش يجعلون في رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر دية كل واحد منهما من قتله أو أسره فبينما أنا جالس في مجلس من مجالس قومي بني مدلج أقبل رجل منهم حتى قام علينا ونحن جلوس فقال يا سراقة إني قد رأيت آنفا أسودة بالساحل أراها محمدا وأصحابه قال سراقة فعرفت أنهم هم فقلت له إنهم ليسوا بهم ولكنك رأيت فلانا وفلانا انطلقوا بأعيننا ثم لبثت في المجلس ساعة ثم قمت فدخلت فأمرت جاريتي أن تخرج بفرسي وهي من وراء أكمة فتحبسها علي وأخذت رمحي فخرجت به من ظهر البيت فحططت بزجه الأرض وخفضت عاليه حتى أتيت فرسي فركبتها فرفعتها تقرب بي حتى دنوت منهم فعثرت بي فرسي فخررت عنها فقمت فأهويت يدي إلى كنانتي فاستخرجت منها الأزلام فاستقسمت بها أضرهم أم لا فخرج الذي أكره فركبت فرسي وعصيت الأزلام تقرب بي حتى إذا سمعت قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو لا يلتفت وأبو بكر يكثر الالتفات ساخت يدا فرسي في الأرض حتى بلغتا الركبتين فخررت عنها ثم زجرتها فنهضت فلم تكد تخرج يديها فلما استوت قائمة إذا لأثر يديها عثان ساطع في السماء مثل الدخان فاستقسمت بالأزلام فخرج الذي أكره فناديتهم بالأمان فوقفوا فركبت فرسي حتى جئتهم ووقع في نفسي حين لقيت ما لقيت من الحبس عنهم أن سيظهر أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت له إن قومك قد جعلوا فيك الدية وأخبرتهم أخبار ما يريد الناس بهم وعرضت عليهم الزاد والمتاع فلم يرزآني ولم يسألاني إلا أن قال أخف عنا فسألته أن يكتب لي كتاب أمن فأمر عامر بن فهيرة فكتب في رقعة من أديم ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ابن شهاب فأخبرني عروة بن الزبير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لقي الزبير في ركب من المسلمين كانوا تجارا قافلين من الشأم فكسا الزبير رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر ثياب بياض وسمع المسلمون بالمدينة مخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة فكانوا يغدون كل غداة إلى الحرة فينتظرونه حتى يردهم حر الظهيرة فانقلبوا يوما بعد ما أطالوا انتظارهم فلما أووا إلى بيوتهم أوفى رجل من يهود على أطم من آطامهم لأمر ينظر إليه فبصر برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مبيضين يزول بهم السراب فلم يملك اليهودي أن قال بأعلى صوته يا معاشر العرب هذا جدكم الذي تنتظرون فثار المسلمون إلى السلاح فتلقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بظهر الحرة فعدل بهم ذات اليمين حتى نزل بهم في بني عمرو بن عوف وذلك يوم الاثنين من شهر ربيع الأول فقام أبو بكر للناس وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم صامتا فطفق من جاء من الأنصار ممن لم ير رسول الله صلى الله عليه وسلم يحيي أبا بكر حتى أصابت الشمس رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبل أبو بكر حتى ظلل عليه بردائه فعرف الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك فلبث رسول الله صلى الله عليه وسلم في بني عمرو بن عوف بضع عشرة ليلة وأسس المسجد الذي أسس على التقوى وصلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ركب راحلته فسار يمشي معه الناس حتى بركت عند مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم بالمدينة وهو يصلي فيه يومئذ رجال من المسلمين وكان مربدا للتمر لسهيل وسهل غلامين يتيمين في حجر أسعد بن زرارة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بركت به راحلته هذا إن شاء الله المنزل ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الغلامين فساومهما بالمربد ليتخذه مسجدا فقالا لا بل نهبه لك يا رسول الله فأبى رسول الله أن يقبله منهما هبة حتى ابتاعه منهما ثم بناه مسجدا وطفق رسول الله صلى الله عليه وسلم ينقل معهم اللبن في بنيانه ويقول وهو ينقل اللبن

هذا الحمال لا حمال خيبر هذا أبر ربنا وأطهر

ويقول

اللهم إن الأجر أجر الآخره     فارحم الأنصار والمهاجره

فتمثل بشعر رجل من المسلمين لم يسم لي
قال ابن شهاب ولم يبلغنا في الأحاديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تمثل ببيت شعر تام غير هذا البيت
[ ص: 272 ] " 5842 " [ ص: 273 ] الحديث الحادي عشر قوله : ( لم أعقل أبوي ) يعني أبا بكر وأم رومان .

قوله : ( يدينان الدين ) بالنصب على نزع الخافض أي يدينان بدين الإسلام ، أو هو مفعول به على التجوز .

قوله : ( فلما ابتلي المسلمون ) أي بأذى المشركين لما حصروا بني هاشم والمطلب في شعب أبي طالب وأذن النبي - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه في الهجرة إلى الحبشة كما تقدم بيانه .

قوله : ( خرج أبو بكر مهاجرا نحو أرض الحبشة ) أي ليلحق بمن سبقه إليها من المسلمين ، وقد قدمت أن الذين هاجروا إلى الحبشة أولا ساروا إلى جدة وهي ساحل مكة ليركبوا منها البحر إلى الحبشة .

قوله : ( برك الغماد ) أما برك فهو بفتح الموحدة وسكون الراء بعدها كاف وحكي كسر أوله ، وأما الغماد فهو بكسر المعجمة وقد تضم وبتخفيف الميم ، وحكى ابن فارس فيها ضم الغين ، موضع على خمس ليال من مكة إلى جهة اليمن ، وقال البكري : هي أقاصي هجر ، وحكى الهمداني في أنساب اليمن : هو في أقصى اليمن ، والأول أولى . وقال ابن خالويه : حضرت مجلس المحاملي وفيه زهاء ألف ، فأملى عليهم حديثا فيه : " فقالت الأنصار : لو دعوتنا إلى برك الغماد " قالها بالكسر ، فقلت للمستملي : هو بالضم ، فذكر له ذاك ، فقال لي : وما هو ؟ قلت : سألت ابن دريد عنه فقال : هو بقعة في جهنم . فقال المحاملي : وكذا في كتابي على الغين ضمة . قال ابن خالويه وأنشد ابن دريد :

69

وإذا تنكرت البلا د فأولها كنف البعاد

    واجعل مقامك أو مقر
ك جانبي برك الغماد

    لست ابن أم القاطن
ين ولا ابن عم للبلاد



قال ابن خالويه : وسألت أبا عمر - يعني غلام ثعلب - فقال : هو بالكسر والضم موضع باليمن ، قال : وموضع باليمن أوله بالكسر لكن آخره راء مهملة ، وهو عند بئر برهوت الذي يقال : إن أرواح الكفار تكون فيها . ا هـ واستبعد بعض المتأخرين ما ذكره ابن دريد فقال : القول بأنه موضع باليمن أنسب ؛ لأن النبي - صلى الله عليه [ ص: 274 ] وسلم - لا يدعوهم إلى جهنم . وخفي عليهم أن هذا بطريق المبالغة فلا يراد به الحقيقة ، ثم ظهر لي أن لا تنافي بين القولين ، فيحمل قوله : جهنم على مجاز المجاورة بناء على القول بأن برهوت مأوى أرواح الكفار وهم أهل النار .

قوله : ( ابن الدغنة ) بضم المهملة والمعجمة وتشديد النون عند أهل اللغة ، وعند الرواة بفتح أوله وكسر ثانيه وتخفيف النون ، قال الأصيلي : وقرأه لنا المروزي بفتح الغين ، وقيل : إن ذلك كان لاسترخاء في لسانه والصواب الكسر ، وثبت بالتخفيف والتشديد من طريق ، وهي أمه وقيل : أم أبيه . وقيل : دابته ، ومعنى الدغنة المسترخية وأصلها الغمامة الكثيرة المطر ، واختلف في اسمه فعند البلاذري من طريق الواقدي عن معمر عن الزهري أنه الحارث بن يزيد ، وحكى السهيلي أن اسمه مالك ، ووقع في " شرح الكرماني " أن ابن إسحاق سماه ربيعة بن رفيع ; وهو وهم من الكرماني فإن ربيعة المذكور آخر يقال له : ابن الدغنة أيضا لكنه سلمي ، والمذكور هنا من القارة فاختلفا ، وأيضا السلمي إنما ذكره ابن إسحاق في غزوة حنين وأنه صحابي قتل دريد بن الصمة ، ولم يذكره ابن إسحاق في قصة الهجرة . وفي الصحابة ثالث يقال له : ابن الدغنة لكن اسمه حابس وهو كلبي ، له قصة في سبب إسلامه وأنه رأى شخصا من الجن فقال له : " يا حابس بن دغنة يا حابس " في أبيات ، وهو مما يرجح رواية التخفيف في الدغنة .

قوله : ( وهو سيد القارة ) بالقاف وتخفيف الراء ، وهي قبيلة مشهورة من بني الهون ، بالضم والتخفيف ، ابن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر وكانوا حلفاء بني زهرة من قريش ، وكانوا يضرب بهم المثل في قوة الرمي ، قال الشاعر :


قد أنصف القارة من راماها



قوله : ( أخرجني قومي ) أي تسببوا في إخراجي .

قوله : ( فأريد أن أسيح ) بالمهملتين ، لعل أبا بكر طوى عن ابن الدغنة تعيين جهة مقصده لكونه كان كافرا ، وإلا فقد تقدم أنه قصد التوجه إلى أرض الحبشة ، ومن المعلوم أنه لا يصل إليها من الطريق التي قصدها حتى يسير في الأرض وحده زمانا فيصدق أنه سائح ، لكن حقيقة السياحة أن لا يقصد موضعا بعينه يستقر فيه .

قوله : ( وتكسب المعدوم ) في رواية الكشميهني " المعدم " وقد تقدم شرح هذه الكلمات في حديث بدء الوحي أول الكتاب ، وفي موافقة وصف ابن الدغنة لأبي بكر بمثل ما وصفت به خديجة النبي - صلى الله عليه وسلم - ما يدل على عظيم فضل أبي بكر واتصافه بالصفات البالغة في أنواع الكمال .

قوله : ( وأنا لك جار ) أي مجير أمنع من يؤذيك .

قوله : ( فرجع ) أي أبو بكر ( وارتحل معه ابن الدغنة ) وقع في الكفالة " وارتحل ابن الدغنة فرجع مع أبي بكر " والمراد في الروايتين مطلق المصاحبة ، وإلا فالتحقيق ما في هذا الباب .

قوله : ( لا يخرج مثله ) أي من وطنه باختياره على نية الإقامة في غيره مع ما فيه من النفع المتعدي لأهل بلده ( ولا يخرج ) أي ولا يخرجه أحد بغير اختياره للمعنى المذكور ، واستنبط بعض المالكية من هذا أن من كانت فيه منفعة متعدية لا يمكن من الانتقال عن البلد إلى غيره بغير ضرورة راجحة .

قوله : ( فلم تكذب قريش ) أي لم ترد عليه قوله في أمان أبي بكر ، وكل من كذبك فقد رد قولك ، فأطلق [ ص: 275 ] التكذيب وأراد لازمه ، وتقدم في الكفارة بلفظ " فأنفذت قريش جوار ابن الدغنة وأمنت أبا بكر " وقد استشكل هذا مع ما ذكر ابن إسحاق في قصة خروج النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الطائف وسؤاله حين رجع الأخنس بن شريق أن يدخل في جواره فاعتذر بأنه حليف ، وكان أيضا من حلفاء بني زهرة ، ويمكن الجواب بأن ابن الدغنة رغب في إجارة أبي بكر ، والأخنس لم يرغب فيما التمس منه فلم يثرب النبي - صلى الله عليه وسلم - عليه .

قوله : ( بجوار ) بكسر الجيم وبضمها ، وقد تقدم بيان المراد منه في كتاب الكفالة .

قوله : ( مر أبا بكر فليعبد ربه ) دخلت الفاء على شيء محذوف لا يخفى تقديره .

قوله : ( فلبث أبو بكر ) تقدم في الكفالة بلفظ " فطفق " أي جعل ، ولم يقع لي بيان المدة التي أقام فيها أبو بكر على ذلك .

قوله : ( ثم بدا لأبي بكر ) أي ظهر له رأي غير الرأي الأول .

قوله : ( بفناء داره ) بكسر الفاء وتخفيف النون وبالمد أي أمامها .

قوله : ( فينقذف ) بالمثناة والقاف والذال المعجمة الثقيلة ، تقدم في الكفالة بلفظ " " فيتقصف " أي يزدحمون عليه حتى يسقط بعضهم على بعض فيكاد ينكسر ، وأطلق يتقصف مبالغة ، قال الخطابي : هو المحفوظ ، وأما يتقذف فلا معنى له إلا أن يكون من القذف أي يتدافعون فيقذف بعضهم بعضا فيتساقطون عليه فيرجع إلى معنى الأول ، وللكشميهني بنون وسكون القاف وكسر الصاد أي يسقط .

قوله : ( بكاء ) بالتشديد أي كثير البكاء .

قوله : ( لا يملك عينيه ) أي لا يطيق إمساكهما عن البكاء من رقة قلبه . وقوله : ( إذا قرأ ) إذا ظرفية والعامل فيه : " لا يملك " ، أو هي شرطية والجزاء مقدر .

قوله : ( فأفزع ذلك ) أي أخاف الكفار لما يعلمونه من رقة قلوب النساء والشباب أن يميلوا إلى دين الإسلام .

قوله : ( فقدم عليهم ) في رواية الكشميهني " فقدم عليه " أي على أبي بكر .

قوله : ( أن يفتن نساءنا ) بالنصب على المفعولية وفاعله أبو بكر ، كذا لأبي ذر ، وللباقين " أن يفتن " بضم أوله " نساؤنا " بالرفع على البناء للمجهول .

قوله : ( أجرنا ) بالجيم والراء للأكثر ، وللقابسي بالزاي أي أبحنا له ، والأول أوجه ، والألف مقصورة في الروايتين .

قوله : ( فاسأله ) في رواية الكشميهني " فسله " .

قوله : ( ذمتك ) أي أمانك له .

قوله : ( نخفرك ) بضم أوله وبالخاء المعجمة وكسر الفاء أي نغدر بك ، يقال : خفره إذا حفظه ، وأخفره [ ص: 276 ] إذا غدر به .

قوله : ( مقرين لأبي بكر الاستعلان ) أي لا نسكت عن الإنكار عليه للمعنى الذي ذكروه من الخشية على نسائهم وأبنائهم أن يدخلوا في دينه .

قوله : ( وأرضى بجوار الله ) أي أمانه وحمايته . وفيه جواز الأخذ بالأشد في الدين ، وقوة يقين أبي بكر .

قوله : ( والنبي - صلى الله عليه وسلم - يومئذ بمكة ) في هذا الفصل من فضائل الصديق أشياء كثيرة قد امتاز بها عمن سواه ظاهرة لمن تأملها .

قوله : ( بين لابتين وهما الحرتان ) هذا مدرج في الخبر وهو من تفسير الزهري ، والحرة أرض حجارتها سود ، وهذه الرؤيا غير الرؤيا السابقة أول الباب من حديث أبي موسى التي تردد فيها النبي - صلى الله عليه وسلم - كما سبق ، قال ابن التين : كأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أري دار الهجرة بصفة تجمع المدينة وغيرها ، ثم أري الصفة المختصة بالمدينة فتعينت .

قوله : ( ورجع عامة من كان هاجر بأرض الحبشة إلى المدينة ) أي لما سمعوا باستيطان المسلمين المدينة رجعوا إلى مكة فهاجر إلى أرض المدينة معظمهم لا جميعهم ؛ لأن جعفرا ومن معه تخلفوا في الحبشة ، وهذا السبب في مجيء مهاجرة الحبشة غير السبب المذكور في مجيء من رجع منهم أيضا في الهجرة الأولى ؛ لأن ذاك كان بسبب سجود المشركين مع النبي - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين في سورة النجم فشاع أن المشركين أسلموا وسجدوا فرجع من رجع من الحبشة فوجدوهم أشد ما كانوا كما سيأتي شرحه وبيانه في تفسير سورة النجم .

قوله : ( وتجهز أبو بكر قبل المدينة ) بكسر القاف وفتح الموحدة أي جهة ، وتقدم في الكفالة بلفظ " وخرج أبو بكر مهاجرا " وهو منصوب على الحال المقدرة ، والمعنى أراد الخروج طالبا للهجرة ، وفي رواية هشام بن عروة عن أبيه عند ابن حبان " استأذن أبو بكر النبي - صلى الله عليه وسلم - في الخروج من مكة " .

قوله : ( على رسلك ) بكسر أوله أي على مهلك ، والرسل السير الرفيق ، وفي رواية ابن حبان " فقال : اصبر " .

قوله : ( وهل ترجو ذلك بأبي أنت ) لفظ " أنت " مبتدأ وخبره " بأبي " أي مفدى بأبي ، ويحتمل أن يكون أنت تأكيدا لفاعل ترجو وبأبي قسم .

قوله : ( فحبس نفسه ) أي منعها من الهجرة ، وفي رواية ابن حبان " فانتظره أبو بكر رضي الله عنه " .

قوله : ( ورق السمر ) بفتح المهملة وضم الميم .

قوله : ( وهو الخبط ) مدرج أيضا في الخبر ، وهو من تفسير الزهري ، ويقال : السمر شجرة أم غيلان ، وقيل : كل ما له ظل ثخين ، وقيل : السمر ورق الطلح والخبط بفتح المعجمة والموحدة ما يخبط بالعصا فيسقط من ورق الشجر قاله ابن فارس .

قوله : ( أربعة أشهر ) فيه بيان المدة التي كانت بين ابتداء هجرة الصحابة بين العقبة الأولى والثانية وبين [ ص: 277 ] هجرته - صلى الله عليه وسلم - وقد تقدم في أول الباب أن بين العقبة الثانية وبين هجرته - صلى الله عليه وسلم - شهرين وبعض شهر على التحرير .

قوله : ( قال ابن شهاب إلخ ) هو بالإسناد المذكور أولا وقد أفرده ابن عائذ في المغازي من طريق الوليد بن محمد عن الزهري ، ووقع في رواية هشام بن عروة عند ابن حبان مضموما إلى ما قبله ، وعند موسى بن عقبة " وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يخطئه يوم إلا أتى منزل أبي بكر أول النهار وآخره " .

قوله : ( في نحر الظهيرة ) أي أول الزوال وهو أشد ما يكون في حرارة النهار ، والغالب في أيام الحر القيلولة فيها ، وفي رواية ابن حبان " فأتاه ذات يوم ظهرا " وفي حديث أسماء بنت أبي بكر عند الطبراني " كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يأتينا بمكة كل يوم مرتين بكرة وعشية ، فلما كان يوم من ذلك جاءنا في الظهيرة ، فقلت : يا أبت هذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

قوله : ( هذا رسول الله متقنعا ) أي مغطيا رأسه ، وفي رواية موسى بن عقبة عن ابن شهاب " قالت عائشة : وليس عند أبي بكر إلا أنا وأسماء " قيل : فيه جواز لبس الطيلسان ، وجزم ابن القيم بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يلبسه ولا أحد من أصحابه ، وأجاب عن الحديث بأن التقنع يخالف التطيلس ، قال : ولم يكن يفعل التقنع عادة بل للحاجة ، وتعقب بأن في حديث أنس " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يكثر التقنع " أخرجه به ، وفي طبقات ابن سعد مرسلا ذكر الطيلسان لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : هذا ثوب لا يؤدى شكره قوله : ( فدا له ) بكسر الفاء وبالقصر ، وفي رواية الكشميهني " فداء " بالمد .

قوله : ( ما جاء به ) في رواية يعقوب بن سفيان " إن جاء به " إن هي النافية بمعنى ما ، وفي رواية موسى بن عقبة " فقال أبو بكر : يا رسول الله ما جاء بك إلا أمر حدث " .

قوله : ( إنما هم أهلك ) أشار بذلك إلى عائشة وأسماء كما فسره موسى بن عقبة ، ففي روايته قال : أخرج من عندك . قال : لا عين عليك ، إنما هما ابنتاي وكذلك في رواية هشام بن عروة .

قوله : ( فإني ) في رواية الكشميهني " فإنه " .

قوله : ( الصحابة ) بالنصب أي أريد المصاحبة ، ويجوز الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف .

قوله : ( نعم ) زاد ابن إسحاق في روايته " قالت عائشة : فرأيت أبا بكر يبكي ، وما كنت أحسب أن أحدا يبكي من الفرح " وفي رواية هشام فقال : الصحبة يا رسول الله ، قال : الصحبة .

قوله : ( إحدى راحلتي هاتين . قال : بالثمن ) زاد ابن إسحاق " قال : لا أركب بعيرا ليس هو لي . قال : فهو لك ، قال : لا ولكن بالثمن الذي ابتعتها به . قال : أخذتها بكذا وكذا . قال أخذتها بذلك . قال : هي لك وفي حديث أسماء بنت أبي بكر عند الطبراني فقال : بثمنها يا أبا بكر . فقال : بثمنها إن شئت ونقل السهيلي في " الروض " عن بعض شيوخ المغرب أنه سئل عن امتناعه من أخذ الراحلة مع أن أبا بكر أنفق عليه ماله ، فقال : أحب أن لا تكون هجرته إلا من مال نفسه . وأفاد الواقدي أن الثمن ثمانمائة وأن التي أخذها [ ص: 278 ] رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أبي بكر هي القصواء ، وأنها كانت من نعم بني قشير ، وأنها عاشت بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - قليلا وماتت في خلافة أبي بكر ، وكانت مرسلة ترعى بالبقيع . وذكر ابن إسحاق أنها الجذعاء ، وكانت من إبل بني الحريش ، وكذا في رواية أخرجها ابن حبان من طريق هشام عن أبيه عن عائشة أنها الجذعاء .

قوله : ( أحث الجهاز ) أحث بالمهملة والمثلثة أفعل تفضيل من الحث وهو الإسراع ، وفي رواية لأبي ذر " أحب " بالموحدة ، والأول أصح . والجهاز بفتح الجيم وقد تكسر - ومنهم من أنكر الكسر - وهو ما يحتاج إليه في السفر .

قوله : ( وصنعنا لهما سفرة في جراب ) أي زادا في جراب ؛ لأن أصل السفرة في اللغة الزاد الذي يصنع للمسافر ، ثم استعمل في وعاء الزاد ، ومثله المزادة للماء ، وكذلك الراوية . فاستعملت السفرة في هذا الخبر على أصل اللغة . وأفاد الواقدي أنه كان في السفرة شاة مطبوخة

قوله : ( ذات النطاق ) بكسر النون ، وللكشميهني النطاقين بالتثنية ، والنطاق ما يشد به الوسط ، وقيل : هو إزار فيه تكة ، وقيل : هو ثوب تلبسه المرأة ثم تشد وسطها بحبل ثم ترسل الأعلى على الأسفل قاله أبو عبيدة الهروي ، قال : وسميت ذات النطاقين ؛ لأنها كانت تجعل نطاقا على نطاق . وقيل : كان لها نطاقان تلبس أحدهما وتجعل في الآخر الزاد . ا هـ . والمحفوظ كما سيأتي بعد هذا الحديث أنها شقت نطاقها نصفين فشدت بأحدهما الزاد واقتصرت على الآخر ، فمن ثم قيل لها : ذات النطاق وذات النطاقين ، فالتثنية والإفراد بهذين الاعتبارين . وعند ابن سعد من حديث الباب " شقت نطاقها فأوكأت بقطعة منه الجراب وشدت فم القربة بالباقي فسميت ذات النطاقين " .

قوله : ( قالت : ثم لحق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر بغار في جبل ثور ) بالمثلثة ذكر الواقدي أنهما خرجا من خوخة في ظهر بيت أبي بكر ، وقال الحاكم : تواترت الأخبار أن خروجه كان يوم الاثنين ودخوله المدينة كان يوم الاثنين ، إلا أن محمد بن موسى الخوارزمي قال : إنه خرج من مكة يوم الخميس . قلت : يجمع بينهما بأن خروجه من مكة كان يوم الخميس وخروجه من الغار كان ليلة الاثنين ، لأنه أقام فيه ثلاث ليال ، فهي ليلة الجمعة وليلة السبت وليلة الأحد وخرج في أثناء ليلة الاثنين . ووقع في رواية هشام بن عروة عند ابن حبان " فركبا حتى أتيا الغار وهو ثور ، فتواريا فيه " وذكر موسى بن عقبة عن ابن شهاب قال : " فرقد علي على فراش رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوري عنه ، وباتت قريش تختلف وتأتمر أيهم يهجم على صاحب الفراش فيوثقه ، حتى أصبحوا فإذا هم بعلي ; فسألوه ، فقال : لا علم لي فعلموا أنه فر منهم " .

وذكر ابن إسحاق نحوه وزاد " أن جبريل أمره لا يبيت على فراشه ، فدعا عليا فأمره أن يبيت على فراشه ويسجى ببرده الأخضر ، ففعل . ثم خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - على القوم ومعه حفنة من تراب ، فجعل ينثرها على رءوسهم وهو يقرأ " يس " إلى : فهم لا يبصرون . وذكر أحمد من حديث ابن عباس بإسناد حسن في قوله تعالى : وإذ يمكر بك الذين كفروا الآية ، قال : " تشاورت قريش ليلة بمكة ، فقال بعضهم : إذا أصبح فأثبتوه بالوثاق . يريدون النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال بعضهم : بل اقتلوه . وقال بعضهم : بل أخرجوه . فأطلع الله نبيه على ذلك فبات علي على فراش النبي - صلى الله عليه وسلم - تلك الليلة ، وخرج - النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى لحق بالغار ، وبات المشركون يحرسون عليا يحسبونه النبي - صلى الله عليه وسلم - ، يعني ينتظرونه حتى يقوم فيفعلون به ما اتفقوا عليه ، فلما [ ص: 279 ] أصبحوا ورأوا عليا رد الله مكرهم فقالوا : أين صاحبك هذا ؟ قال : لا أدري . فاقتصوا أثره ، فلما بلغوا الجبل اختلط عليهم ، فصعدوا الجبل فمروا بالغار فرأوا على بابه نسج العنكبوت فقالوا : لو دخل هاهنا لم يكن نسج العنكبوت على بابه ، فمكث فيه ثلاث ليال " . وذكر نحو ذلك موسى بن عقبة عن الزهري قال : " مكث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد الحج بقية ذي الحجة والمحرم وصفر ، ثم إن مشركي قريش اجتمعوا " فذكر الحديث وفيه " وبات علي على فراش النبي - صلى الله عليه وسلم - يوري عنه ، وباتت قريش يختلفون ويأتمرون أيهم يهجم على صاحب الفراش فيوثقه ، فلما أصبحوا إذا هم بعلي " وقال في آخره : " فخرجوا في كل وجه يطلبونه " وفي مسند أبي بكر الصديق لأبي بكر بن علي المروزي شيخ النسائي من مرسل الحسن في قصة نسج العنكبوت نحوه ، وذكر الواقدي أن قريشا بعثوا في أثرهما قائفين : أحدهما كرز بن علقمة ، فرأى كرز بن علقمة على الغار نسج العنكبوت فقال : هاهنا انقطع الأثر . ولم يسم الآخر وسماه أبو نعيم في " الدلائل " من حديث زيد بن أرقم وغيره سراقة بن جعشم . وقصة سراقة مذكورة في هذا الباب . وقد تقدم في " مناقب أبي بكر " حديث أنس عن أبي بكر .

قوله : ( فكمنا فيه ) بفتح الميم ويجوز كسرها أي اختفيا .

قوله : ( ثلاث ليال ) في رواية عروة بن الزبير " ليلتين " فلعله لم يحسب أول ليلة ، وروى أحمد والحاكم من رواية طلحة النضري قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لبثت مع صاحبي - يعني أبا بكر - في الغار بضعة عشر يوما ما لنا طعام إلا ثمر البرير قال الحاكم : معناه مكثنا مختفين من المشركين في الغار وفي الطريق بضعة عشر يوما . قلت : لم يقع في رواية أحمد ذكر الغار ، وهي زيادة في الخبر من بعض رواته ، ولا يصح حمله على حالة الهجرة لما في الصحيح كما تراه من أن عامر بن فهيرة كان يروح عليهما في الغار باللبن ، ولما وقع لهما في الطريق من لقي الراعي كما في حديث البراء في هذا الباب ، ومن النزول بخيمة أم معبد وغير ذلك ، فالذي يظهر أنها قصة أخرى ، والله أعلم .

وفي " دلائل النبوة للبيهقي " من مرسل محمد بن سيرين أن أبا بكر ليلة انطلق مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الغار كان يمشي بين يديه ساعة ومن خلفه ساعة ، فسأله فقال : أذكر الطلب فأمشي خلفك ، وأذكر الرصد فأمشي أمامك . فقال : لو كان شيء أحببت أن تقتل دوني ؟ قال : أي والذي بعثك بالحق ، فلما انتهيا إلى الغار قال : مكانك يا رسول الله حتى أستبرئ لك الغار ، فاستبرأه وذكر أبو القاسم البغوي من مرسل ابن أبي مليكة نحوه ، وذكر ابن هشام من زياداته عن الحسن البصري بلاغا نحوه .

قوله : ( عبد الله بن أبي بكر ) وقع في نسخة " عبد الرحمن " وهو وهم .

قوله : ( ثقف ) بفتح المثلثة وكسر القاف ويجوز إسكانها وفتحها وبعدها فاء : الحاذق ، تقول : ثقفت الشيء إذا أقمت عوجه .

قوله : ( لقن ) بفتح اللام وكسر القاف بعدها نون : اللقن السريع الفهم .

قوله : ( فيدلج ) بتشديد الدال بعدها جيم أي يخرج بسحر إلى مكة .

قوله : ( فيصبح مع قريش بمكة كبائت ) أي مثل البائت ، يظنه من لا يعرف حقيقة أمره لشدة رجوعه [ ص: 280 ] بغلس .

قوله : ( يكتادان به ) في رواية الكشميهني " يكادان به " بغير مثناة أي يطلب لهما فيه المكروه ، وهو من الكيد .

قوله : ( عامر بن فهيرة ) تقدم ذكره في " باب الشراء من المشركين " من كتاب البيوع ، وذكر موسى بن عقبة عن ابن شهاب أن أبا بكر اشتراه من الطفيل بن سخبرة ، فأسلم ، فأعتقه .

قوله : ( منحة ) بكسر الميم وسكون النون بعدها مهملة ، تقدم بيانها في الهبة ، وتطلق أيضا على كل شاة . وفي رواية موسى بن عقبة عن ابن شهاب أن الغنم كانت لأبي بكر ، فكان يروح عليهما بالغنم كل ليلة فيحلبان ، ثم تسرح بكرة فيصبح في رعيان الناس فلا يفطن له .

قوله : ( في رسل ) بكسر الراء بعدها مهملة ساكنة : اللبن الطري .

قوله : ( ورضيفهما ) بفتح الراء وكسر المعجمة بوزن رغيف أي اللبن المرضوف أي التي وضعت فيه الحجارة المحماة بالشمس أو النار لينعقد وتزول رخاوته ، وهو بالرفع ويجوز الجر .

قوله : ( حتى ينعق بها عامر ) ينعق بكسر العين المهملة أي يصيح بغنمه ، والنعيق صوت الراعي إذا زجر الغنم ووقع في رواية أبي ذر " حتى ينعق بهما " بالتثنية أي يسمعهما صوته إذا زجر غنمه ، ووقع في حديث ابن عباس عند ابن عائذ في هذه القصة " ثم يسرح عامر بن فهيرة فيصبح في رعيان الناس كبائت فلا يفطن به " وفي رواية موسى بن عقبة عن ابن شهاب " وكان عامر أمينا مؤتمنا حسن الإسلام " .

قوله : ( من بني الديل ) بكسر الدال وسكون التحتانية ، وقيل : بضم أوله وكسر ثانيه مهموز .

قوله : ( من بني عبد بن عدي ) أي ابن الديل بن بكر بن عبد مناة بن كنانة ، ويقال : من بني عدي بن عمرو بن خزاعة ، ووقع في سيرة ابن إسحاق تهذيب ابن هشام اسمه عبد الله بن أرقد ، وفي رواية الأموي عن ابن إسحاق : ابن أريقد ، كذا رواه الأموي في المغازي بإسناد مرسل في غير هذه القصة ، قال : وهو دليل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة في الهجرة . وعند موسى بن عقبة أريقط بالتصغير أيضا لكن بالطاء وهو أشهر ، وعند ابن سعد عبد الله بن أريقط ، وعن مالك اسمه رقيط حكاه ابن التين وهو في " العتبية " .

قوله : ( هاديا خريتا ) بكسر المعجمة وتشديد الراء بعدها تحتانية ساكنة ثم مثناة .

قوله : ( والخريت الماهر بالهداية ) هو مدرج في الخبر من كلام الزهري بينه ابن سعد ، ولم يقع ذلك في رواية الأموي عن ابن إسحاق ، قال ابن سعد : وقال الأصمعي : إنما سمي خريتا لأنه يهدي بمثل خرت الإبرة أي ثقبها ، وقال غيره : قيل له ذلك ؛ لأنه يهتدي لأخرات المفازة وهي طرقها الخفية .

قوله : ( قد غمس ) بفتح الغين المعجمة والميم بعدها مهملة ( حلفا ) بكسر المهملة وسكون اللام أي كان حليفا ، وكانوا إذا تحالفوا غمسوا أيمانهم في دم أو خلوق أو في شيء يكون فيه تلويث فيكون ذلك تأكيدا [ ص: 281 ] للحلف .

قوله : ( فأمناه ) بكسر الميم .

قوله : ( فأتاهما >[1] براحلتيهما صبح ثلاث ) زاد مسلم بن عقبة عن ابن شهاب " حتى إذا هدأت عنهما الأصوات جاء صاحبهما ببعيرهما فانطلق معهما بعامر بن فهيرة يخدمهما ويعينهما يردفه أبو بكر ويعقبه ليس معهما غيره .

قوله : ( فأخذ بهم طريق الساحل ) في رواية موسى بن عقبة " فأجاز بهما أسفل مكة ثم مضى بهما حتى جاء بهما الساحل أسفل من عسفان ، ثم أجاز بهما حتى عارض الطريق " وعند الحاكم من طريق ابن إسحاق " حدثني محمد بن جعفر بن الزبير عن عروة عن عائشة " نحوه وأتم منه وإسناده صحيح ، وأخرج الزبير بن بكار في " أخبار المدينة " مفسرا منزلة منزلة إلى قباء ، وكذلك ابن عائذ من حديث ابن عباس ، وقد تقدم في " علامات النبوة " وفي " مناقب أبي بكر " ما اتفق لهما حين خرجا من الغار من لقيهما راعي الغنم وشربهما من اللبن .

[ ص: 282 ] [ ص: 283 ] الحديث الثاني عشر حديث سراقة بن جعشم . قوله : ( قال ابن شهاب ) هو موصول بإسناد حديث عائشة ، وقد أفرده البيهقي في " الدلائل " وقبله الحاكم في " الإكليل " من طريق ابن إسحاق " حدثني محمد بن مسلم هو الزهري به " وكذلك أورده الإسماعيلي منفردا من طريق معمر والمعافي في الجليس من طريق صالح بن كيسان كلاهما عن الزهري .

قوله : ( المدلجي ) بضم الميم وسكون المهملة وكسر اللام ثم جيم من بني مدلج بن مرة بن عبد مناة بن كنانة . وعبد الرحمن بن مالك هذا اسم جده مالك بن جعشم ، ونسب أبوه في هذه الرواية إلى جده كما سنبينه في سراقة ، وأبوه مالك بن جعشم له إدراك ، ولم أر من ذكره في الصحابة بل ذكره ابن حبان في التابعين ، وليس له ولا لأخيه سراقة ولا لابنه عبد الرحمن في البخاري غير هذا الحديث .

قوله : ( ابن أخي سراقة بن جعشم ) في رواية أبي ذر " ابن أخي سراقة بن مالك بن جعشم " ثم قال : " إنه سمع سراقة بن جعشم " والأول هو المعتمد ، وحيث جاء في الروايات سراقة بن جعشم يكون نسب إلى جده ، وسيأتي في حديث البراء بعدها بقليل أنه سراقة بن مالك بن جعشم ولم يختلف عليه فيه ، جعشم بضم الجيم والشين المعجمة بينهما عين مهملة هو ابن مالك بن عمرو وكنية سراقة أبو سفيان ، وكان ينزل قديدا وعاش إلى خلافة عثمان .

قوله : ( دية كل واحد ) أي مائة من الإبل ، وصرح بذلك موسى بن عقبة وصالح بن كيسان في روايتهما عن الزهري ، وفي حديث أسماء بنت أبي بكر عند الطبراني وخرجت قريش حين فقدوهما في بغائهما ، وجعلوا في النبي - صلى الله عليه وسلم - مائة ناقة ، وطافوا في جبال مكة حتى انتهوا إلى الجبل الذي فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال أبو بكر : يا رسول الله إن هذا الرجل ليرانا . وكان مواجهه - فقال : كلا إن ملائكة تسترنا بأجنحتها ، جلس ذلك الرجل يبول مواجهة الغار ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لو كان يرانا ما فعل هذا .

قوله : ( رأيت آنفا ) أي في هذه الساعة .

قوله : ( أسودة ) أي أشخاصا ، في رواية موسى بن عقبة وابن إسحاق " لقد رأيت ركبة ثلاثة إني لأظنه محمدا وأصحابه " ونحوه في رواية صالح بن كيسان .

قوله : ( رأيت فلانا وفلانا انطلقوا بأعيننا ) أي في نظرنا معاينة يبتغون ضالة لهم ، في رواية موسى بن عقبة وابن إسحاق " فأومأت إليه أن اسكت ، وقلت : إنما هم بنو فلان يبتغون ضالة لهم ، قال : لعل ، وسكت " ونحوه في رواية معمر ، وفي حديث أسماء " فقال سراقة : إنهما راكبان ممن بعثنا في طلب القوم " .

قوله : ( فأمرت جاريتي ) لم أقف على اسمها ، وفي رواية موسى بن عقبة وصالح بن كيسان وأمرت بفرسي فقيد إلى بطن الوادي وزاد : ثم أخذت قداحي - بكسر القاف أي الأزلام - فاستقسمت بها ، فخرج الذي أكره ، لا تضر ، وكنت أرجو أن أرده فآخذ المائة ناقة " .

[ ص: 284 ] قوله : ( فخططت ) بالمعجمة ، وللكشميهني والأصيلي بالمهملة أي أمكنت أسفله وقوله : ( بزجه ) الزج بضم الزاي بعدها جيم الحديدة التي في أسفل الرمح ، وفي رواية الكشميهني : " فخططت به " وزاد موسى بن عقبة وصالح بن كيسان وابن إسحاق " فأمرت بسلاحي فأخرج من ذنب حجرتي ، ثم انطلقت فلبست لأمتي " .

قوله : ( وخفضت ) أي أمسكه بيده وجر زجه على الأرض فخطها به لئلا يظهر بريقه لمن بعد منه ; لأنه كره أن يتبعه منهم أحد فيشركوه في الجعالة . ووقع في رواية الحسن عن سراقة عند ابن أبي شيبة " وجعلت أجر الرمح مخافة أن يشركني أهل الماء فيها " .

قوله : ( فرفعتها ) أي أسرعت بها السير .

قوله : ( تقرب بي ) التقريب السير دون العدو وفوق العادة ، وقيل : أن ترفع الفرس يديها معا وتضعهما معا .

قوله : ( فأهويت يدي ) أي بسطهما للأخذ ، والكنانة الخريطة المستطيلة .

قوله : ( فاستخرجت منها الأزلام فاستقسمت بها أضرهم أم لا ) والأزلام هي الأقداح وهي السهام التي لا ريش لها ولا نصل ، وسيأتي شرحها وكيفيتها وصنيعهم بها في تفسير المائدة .

قوله : ( فخرج الذي أكره ) أي لا تضرهم ، وصرح به الإسماعيلي وموسى وابن إسحاق وزاد " وكنت أرجو أن أرده فآخذ المائة ناقة " وفي حديث ابن عباس عند ابن عائذ : " وركب سراقة ، فلما أبصر الآثار على غير الطريق وهو وجل أنكر الآثار فقال : والله ما هذه بآثار نعم الشام ولا تهامة ، فتبعهم حتى أدركهم " .

قوله : ( حتى إذا سمعت ) في حديث البراء عن أبي بكر الآتي عقب هذا " فدعا عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وفي رواية أبي خليفة في حديث البراء عند الإسماعيلي فقال : اللهم اكفناه بما شئت وفي حديث ابن عباس مثله ، ونحوه في رواية الحسن عن سراقة ، وفي حديث أنس وهو الثامن عشر من أحاديث الباب فالتفت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : اللهم اصرعه فصرعه فرسه .

قوله : ( ساخت ) بالخاء المعجمة أي غاصت ، وفي حديث أسماء بنت أبي بكر " فوقعت لمنخريها " .

قوله : ( حتى بلغتا الركبتين ) في رواية البراء " فارتطمت به فرسه إلى بطنها " وفي رواية أبي خليفة " في الأرض إلى بطنها " .

قوله : ( فخررت عنها ) في رواية أبي خليفة " فوثبت عنها " زاد ابن إسحاق " فقلت : ما هذا ؟ ثم أخرجت قداحي " نحو الأول .

قوله : ( ثم زجرتها فنهضت فلم تكد ) وفي حديث أنس >[2] " ثم قامت تحمحم " الحمحمة بمهملتين هو صوت الفرس .

قوله : ( عثان ) بضم المهملة بعدها مثلثة خفيفة أي دخان ، قال معمر : قلت لأبي عمرو بن العلاء : [ ص: 285 ] ما العثان ؟ قال : الدخان من غير نار . وفي رواية الكشميهني : غبا بمعجمة ثم موحدة ثم راء ، والأول أشهر . وذكر أبو عبيد في غريبه قال : وإنما أراد بالعثان الغبار نفسه ، شبه غبار قوائمها بالدخان ، وفي رواية موسى بن عقبة والإسماعيلي " وأتبعها دخان مثل الغبار " وزاد " فعلمت أنه منع مني " .

قوله : ( فناديتهم بالأمان ) وفي رواية أبي خليفة " قد علمت يا محمد أن هذا عملك ، فادع الله أن ينجيني مما أنا فيه ، والله لأعمين عليك من ورائي " أي الطلب . وفي رواية ابن إسحاق " فناديت القوم : أنا سراقة بن مالك بن جعشم ، انظروني أكلمكم ، فوالله لا آتيكم ولا يأتيكم مني شيء تكرهونه " وفي حديث ابن عباس مثله وزاد " وأنا لكم نافع غير ضار ، وإني لا أدري لعل الحي - يعني قومه - فزعوا لركوبي ، وأنا راجع ورادهم عنكم " .

قوله : ( ووقع في نفسي حينما لقيت من الحبس عنهم أن سيظهر أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ) في رواية ابن إسحاق " أنه قد منع مني " .

قوله : ( وأخبرتهم أخبار ما يريد الناس بهم ) أي من الحرص على الظفر بهم ، وبذل المال لمن يحصلهم . وفي حديث ابن عباس " وعاهدهم أن لا يقاتلهم ولا يخبر عنهم ، وأن يكتم عنهم ثلاث ليال " .

قوله : ( وعرضت عليهم الزاد والمتاع ) في مرسل عمير بن إسحاق عند ابن أبي شيبة فكف ثم قال : هلما إلى الزاد والحملان ، فقالا : لا حاجة لنا في ذلك وفي حديث ابن عباس أن سراقة قال لهم : " وإن إبلي على طريقكم فاحتلبوا من اللبن وخذوا سهما من كنانتي أمارة إلى الراعي " .

قوله : ( فلم يرزآني ) براء ثم زاي ، أي لم ينقصاني مما معي شيئا ، وفي رواية أبي خليفة وهذه كنانتي فخذ سهما منها ، فإنك تمر على إبلي وغنمي بمكان كذا وكذا فخذ منها حاجتك ، فقال لي : لا حاجة لنا في إبلك ، ودعا له .

قوله : ( أخف عنا ) لم يذكر جوابه ، ووقع في رواية البراء " فدعا له فنجا ، فجعل لا يلقى أحدا إلا قال له : قد كفيتم ما هاهنا ، فلا يلقى أحدا إلا رده " قال : " ووفى لنا " . وفي حديث أنس فقال : يا نبي الله مرني بما شئت . قال : فقف مكانك ، لا تتركن أحدا يلحق بنا . قال : فكان أول النهار جاهدا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان آخر النهار مسلحة له أي حارسا له بسلاحه . وذكر ابن سعد " أنه لما رجع قال لقريش : قد عرفتم بصري بالطريق وبالأثر ، وقد استبرأت لكم فلم أر شيئا ، فرجعوا " .

قوله : ( كتاب أمن ) بسكون الميم ، وفي رواية الإسماعيلي " كتاب موادعة " وفي رواية إسحاق " كتابا يكون آية بيني وبينك " .

قوله : ( فأمر عامر بن فهيرة فكتب في رقعة من أدم ) وفي رواية ابن إسحاق " فكتب لي كتابا في عظم - أو ورقة أو خرقة - ثم ألقاه إلي ، فأخذته فجعلته في كنانتي ثم رجعت " وفي رواية موسى بن عقبة نحوه وعندهما فرجعت فسئلت فلم أذكر شيئا مما كان ، حتى إذا فرغ من حنين بعد فتح مكة خرجت لألقاه ومعي الكتاب ، فلقيته بالجعرانة حتى دنوت منه فرفعت يدي بالكتاب فقلت : يا رسول الله هذا كتابك فقال : يوم [ ص: 286 ] وفاء وبر ، ادن ، فأسلمت وفي رواية صالح بن كيسان نحوه ، وفي رواية الحسن عن سراقة قال : فبلغني أنه يريد أن يبعث خالد بن الوليد إلى قومي ، فأتيته فقلت : أحب أن توادع قومي ، فإن أسلم قومك أسلموا وإلا أمنت منهم ، ففعل ذلك ، قال : ففيهم نزلت : إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق الآية . قال ابن إسحاق : قال أبو جهل لما بلغه ما لقي سراقة لامه في تركهم ، فأنشده :


أبا حكم واللات لو كنت شاهدا     لأمر جوادي إذ تسيخ قوائمه
عجبت ولم تشكك بأن محمدا     نبي وبرهان فمن ذا يكاتمه



وذكر ابن سعد أن سراقة عارضهم يوم الثلاثاء بقديد . الحديث الثالث عشر :

قوله : ( قال ابن شهاب : فأخبرني عروة بن الزبير أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقي الزبير في ركب ) هو متصل إلى ابن شهاب بالإسناد المذكور أولا ، وقد أفرده الحاكم من وجه آخر عن يحيى بن بكير بالإسناد المذكور ، ولم يستخرجه الإسماعيلي أصلا وصورته مرسل ، لكنه وصله الحاكم أيضا من طريق معمر عن الزهري قال : " أخبرني عروة أنه سمع الزبير " به ، وأفاد أن قوله " وسمع المسلمون إلخ " من بقية الحديث المذكور . وأخرجه موسى بن عقبة عن ابن شهاب به وأتم منه وزاد " قال : ويقال : لما دنا من المدينة كان طلحة قدم من الشام ، فخرج عائدا إلى مكة إما متلقيا وإما معتمرا ، ومعه ثياب أهداها لأبي بكر من ثياب الشام ، فلما لقيه أعطاه فلبس منها هو وأبو بكر " انتهى .

وهذا إن كان محفوظا احتمل أن يكون كل من طلحة والزبير أهدى لهما من الثياب . والذي في السير هو الثاني ، ومال الدمياطي إلى ترجيحه على عادته في ترجيح ما في السير على ما في الصحيح ، والأولى الجمع بينهما وإلا فما في الصحيح أصح ؛ لأن الرواية التي فيها طلحة من طريق ابن لهيعة عن أبي الأسود عن عروة ، والتي في الصحيح من طريق عقيل عن الزهري عن عروة . ثم وجدت عند ابن أبي شيبة من طريق هشام بن عروة عن أبيه نحو رواية أبي الأسود ، وعند ابن عائذ في المغازي من حديث ابن عباس " خرج عمر والزبير وطلحة وعثمان وعياش بن ربيعة نحو المدينة ، فتوجه عثمان وطلحة إلى الشام " فتعين تصحيح القولين .

قوله : ( وسمع المسلمون بالمدينة ) في رواية معمر " فلما سمع المسلمون " قوله : ( يغدون ) بسكون الغين المعجمة أي يخرجون غدوة ، وفي رواية الحاكم من وجه آخر عن عروة عن عبد الرحمن بن عويم بن ساعدة عن رجال من قومه قال : " لما بلغنا مخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - كنا نخرج فنجلس له بظاهر الحرة نلجأ إلى ظل المدر حتى تغلبنا عليه الشمس ثم نرجع إلى رحالنا " .

قوله : ( حتى يردهم ) في رواية معمر " يؤذيهم " وفي رواية ابن سعد " فإذا أحرقتهم رجعوا إلى منازلهم . ووقع في رواية أبي خليفة في حديث أبي البراء " حتى أتينا المدينة ليلا " .

قوله : ( فانقلبوا يوما بعدما طال >[3] انتظارهم ) في رواية عبد الرحمن بن عويم " حتى إذا كان اليوم الذي جاء فيه جلسنا كما كنا نجلس حتى إذا رجعنا جاء " .

[ ص: 287 ] قوله : ( أوفى رجل من يهود ) أي طلع إلى مكان عال فأشرف منه ، ولم أقف على اسم هذا اليهودي .

قوله : ( أطم ) بضم أوله وثانيه هو الحصن ، ويقال : كان بناء من حجارة كالقصر .

قوله : ( مبيضين ) أي عليهم الثياب البيض التي كساهم إياها الزبير أو طلحة ، وقال ابن التين : يحتمل أن يكون معناه مستعجلين ، وحكى عن ابن فارس يقال : بايض أي مستعجل .

قوله : ( يزول بهم السراب ) أي يزول السراب عن النظر بسبب عروضهم له ، وقيل : معناه ظهرت حركتهم للعين .

قوله : ( يا معاشر العرب ) في رواية عبد الرحمن بن عويم " يا بني قيلة " وهو بفتح القاف وسكون التحتانية وهي الجدة الكبرى للأنصار والدة الأوس والخزرج ، وهي قيلة بنت كاهل بن عذرة .

قوله : ( هذا جدكم ) بفتح الجيم أي حظكم وصاحب دولتكم الذي تتوقعونه ، وفي رواية معمر " هذا صاحبكم " .

قوله : ( حتى نزل بهم في بني عمرو بن عوف ) أي ابن مالك بن الأوس بن حارثة ومنازلهم بقباء ، وهي على فرسخ من المسجد النبوي بالمدينة ، كان نزوله على كلثوم بن الهرم ، وقيل : كان يومئذ مشركا ، وجزم به محمد بن الحسن بن زبالة في " أخبار المدينة " .

قوله : ( وذلك يوم الاثنين من شهر ربيع الأول ) وهذا هو المعتمد وشذ من قال : يوم الجمعة ، في رواية موسى بن عقبة عن ابن شهاب " قدمها لهلال ربيع الأول " أي أول يوم منه ، وفي رواية جرير بن حازم عن ابن إسحاق " قدمها لليلتين خلتا من شهر ربيع الأول " ونحوه عند أبي معشر ، لكن قال : ليلة الاثنين ، ومثله عن ابن البرقي ، وثبت كذلك في أواخر صحيح مسلم ، وفي رواية إبراهيم بن سعد عن ابن إسحاق " قدمها لاثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الأول " وعند أبي سعيد في " شرف المصطفى " من طريق أبي بكر بن حزم " قدم لثلاث عشرة من ربيع الأول " .

وهذا يجمع بينه وبين الذي قبله بالحمل على الاختلاف في رؤية الهلال ، وعنده من حديث عمر " ثم نزل على بني عمرو بن عوف يوم الاثنين لليلتين بقيتا من ربيع الأول " كذا فيه ولعله كان فيه " خلتا " ليوافق رواية جرير وابن حازم ، وعند الزبير في خبر المدينة عن ابن شهاب " في نصف ربيع الأول " وقيل : كان قدومه في سابعه ، وجزم ابن حزم بأنه خرج من مكة لثلاث ليال بقين من صفر ، وهذا يوافق قول هشام بن الكلبي إنه خرج من الغار ليلة الاثنين أول يوم من ربيع الأول فإن كان محفوظا فلعل قدومه قباء كان يوم الاثنين ثامن ربيع الأول ، وإذا ضم إلى قول أنس إنه أقام بقباء أربع عشرة ليلة خرج منه أن دخوله المدينة كان لاثنين وعشرين منه ، لكن الكلبي جزم بأنه دخلها لاثنتي عشرة خلت منه فعلى قوله تكون إقامته بقباء أربع ليال فقط وبه جزم ابن حبان فإنه قال : " أقام بها الثلاثاء والأربعاء والخميس " يعني وخرج يوم الجمعة ، فكأنه لم يعتد بيوم الخروج ، وكذا قال موسى بن عقبة إنه أقام فيهم ثلاث ليال فكأنه لم يعتد بيوم الخروج ، ولا الدخول ، وعن قوم من بني عمرو بن عوف أنه أقام فيهم اثنين وعشرين يوما حكاه الزبير بن بكار ، وفي مرسل عروة بن الزبير ما يقرب منه كما يذكر عقب هذا ، والأكثر أنه قدم نهارا ، ووقع في رواية مسلم ليلا ، ويجمع بأن القدوم كان آخر الليل فدخل نهارا .

[ ص: 288 ] قوله : ( فقام أبو بكر للناس ) أي يتلقاهم .

قوله : ( فطفق ) أي جعل ( من جاء من الأنصار ممن لم ير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحيي أبا بكر ) أي يسلم عليه ، قال ابن التين : إنما كانوا يفعلون ذلك بأبي بكر لكثرة تردده إليهم في التجارة إلى الشام فكانوا يعرفونه ، وأما النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم يأتها بعد أن كبر . قلت : ظاهر السياق يقتضي أن الذي يحيي ممن لا يعرف النبي - صلى الله عليه وسلم - يظنه أبا بكر فلذلك يبدأ بالسلام عليه ، ويدل عليه قوله في بقية الحديث " فأقبل أبو بكر يظلل عليه بردائه ، فعرف الناس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " ووقع بيان ذلك في رواية موسى بن عقبة عن ابن شهاب قال : وجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صامتا ، فطفق من جاء من الأنصار ممن لم يكن رآه يحسبه أبا بكر ، حتى إذا أصابته الشمس أقبل أبو بكر بشيء أظله به ولعبد الرحمن بن عويم في رواية ابن إسحاق " أناخ إلى الظل هو وأبو بكر ، والله ما أدري أيهما هو ، حتى رأينا أبا بكر ينحاز له عن الظل فعرفناه بذلك " .

قوله : ( فلبث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بني عمرو بن عوف بضع عشرة ليلة ) في حديث أنس الآتي في الباب الذي يليه أنه أقام فيهم أربع عشرة ليلة ، وقد ذكرت قبله ما يخالفه ، والله أعلم . قال موسى بن عقبة عن ابن شهاب : " أقام فيهم ثلاثا " قال وروى ابن شهاب عن مجمع بن حارثة " أنه أقام اثنين وعشرين ليلة " وقال ابن إسحاق . أقام فيهم خمسا ، وبنو عمرو بن عوف يزعمون أكثر من ذلك . قلت : ليس أنس من بني عمرو بن عوف ، فإنهم من الأوس وأنس من الخزرج ، وقد جزم بما ذكرته فهو أولى بالقبول من غيره .

قوله : ( وأسس المسجد الذي أسس على التقوى ) أي مسجد قباء ، وفي رواية عبد الرزاق عن معمر عن ابن شهاب عن عروة قال : الذين بنى فيهم المسجد الذي أسس على التقوى هم بنو عمرو بن عوف ، وكذا في حديث ابن عباس عند ابن عائذ ولفظه " ومكث في بني عمرو بن عوف ثلاث ليال واتخذ مكانه مسجدا فكان يصلي فيه ، ثم بناه بنو عمرو بن عوف فهو الذي أسس على التقوى " وروى يونس بن بكير في " زيادات المغازي " عن المسعودي عن الحكم بن عتيبة قال : " لما قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - فنزل بقباء قال عمار بن ياسر : ما لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - بد من أن يجعل له مكانا يستظل به إذا استيقظ ويصلي فيه ، فجمع حجارة فبنى مسجد قباء ، فهو أول مسجد بني " يعني بالمدينة ، وهو في التحقيق أول مسجد صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه بأصحابه جماعة ظاهرا ، وأول مسجد بني لجماعة المسلمين عامة ، وإن كان قد تقدم بناء غيره من المساجد لكن لخصوص الذي بناها كما تقدم في حديث عائشة في بناء أبي بكر مسجده . وروى ابن أبي شيبة عن جابر قال : " لقد لبثنا بالمدينة قبل أن يقدم علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بسنين نعمر المساجد ونقيم الصلاة " .

وقد اختلف في المراد بقوله تعالى : لمسجد أسس على التقوى من أول يوم فالجمهور على أن المراد به مسجد قباء هذا هو ظاهر الآية ، وروى مسلم من طريق عبد الرحمن بن أبي سعيد عن أبيه سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن المسجد الذي أسس على التقوى فقال : هو مسجدكم هذا ولأحمد والترمذي من وجه آخر عن أبي سعيد اختلف رجلان في المسجد الذي أسس على التقوى فقال أحدهما : هو مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم . وقال الآخر : هو مسجد قباء ، فأتيا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسألاه عن ذلك فقال : هو هذا ، وفي ذلك - يعني مسجد قباء - خير كثير . ، ولأحمد عن سهل بن سعد نحوه ، وأخرجه [ ص: 289 ] من وجه آخر عن سهل بن سعد عن أبي بن كعب مرفوعا . قال القرطبي : هذا السؤال صدر ممن ظهرت له المساواة بين المسجدين في اشتراكهما في أن كلا منهما بناه النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فلذلك سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عنه فأجاب بأن المراد مسجده ، وكأن المزية التي اقتضت تعيينه دون مسجد قباء لكون مسجد قباء لم يكن بناؤه بأمر جزم من الله لنبيه ، أو كان رأيا رآه بخلاف مسجده ، أو كان حصل له أو لأصحابه فيه من الأحوال القلبية ما لم يحصل لغيره ، انتهى . ويحتمل أن تكون المزية لما اتفق من طول إقامته - صلى الله عليه وسلم - بمسجد المدينة ، بخلاف مسجد قباء فما أقام به إلا أياما قلائل ، وكفى بهذا مزية من غير حاجة إلى ما تكلفه القرطبي ، والحق أن كلا منهما أسس على التقوى ، وقوله تعالى في بقية الآية فيه رجال يحبون أن يتطهروا يؤيد كون المراد مسجد قباء ، وعند أبي داود بإسناد صحيح عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : نزلت فيه رجال يحبون أن يتطهروا في أهل قباء وعلى هذا فالسر في جوابه - صلى الله عليه وسلم - بأن المسجد الذي أسس على التقوى مسجده رفع توهم أن ذلك خاص بمسجد قباء ، والله أعلم . قال الداودي وغيره : ليس هذا اختلافا ، لأن كلا منهما أسس على التقوى وكذا قال السهيلي وزاد غيره أن قوله تعالى : من أول يوم يقتضي أنه مسجد قباء ، لأن تأسيسه كان في أول يوم حل النبي - صلى الله عليه وسلم - بدار الهجرة ، والله أعلم .

قوله : ( ثم ركب راحلته ) وقع عند ابن إسحاق وابن عائذ أنه ركب من قباء يوم الجمعة فأدركته الجمعة في بني سالم بن عوف فقالوا : يا رسول الله هلم إلى العدد والعدد والقوة ، انزل بين أظهرنا . وعند أبي الأسود عن عروة نحوه وزاد : وصاروا يتنازعون زمام ناقته ، وسمى ممن سأله النزول عندهم تبان بن مالك في بني سالم ، وفروة بن عمرو في بني بياضة ، وسعد بن عبادة والمنذر بن عمرو وغيرهما في بني ساعدة ، وأبا سليط وغيره ، في بني عدي ، يقول لكل منهم : دعوها فإنها مأمورة وعند الحاكم من طريق إسحاق بن أبي طلحة عن أنس جاءت الأنصار فقالوا : إلينا يا رسول الله . فقال : دعوا الناقة فإنها مأمورة . فبركت على باب أبي أيوب .

قوله : ( حتى بركت عند مسجد الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة ) في حديث البراء عن أبي بكر فتنازعه القوم أيهم ينزل عليه فقال : إني أنزل على أخوال عبد المطلب أكرمهم بذلك وعند ابن عائذ عن الوليد بن مسلم وعند سعيد بن منصور كلاهما عن عطاف بن خالد أنها استناخت به أولا فجاءه ناس فقالوا : المنزل يا رسول الله . فقال : دعوها . فانبعثت حتى استناخت عند موضع المنبر من المسجد ، ثم تحلحلت فنزل عنها فأتاه أبو أيوب فقال : إن منزلي أقرب المنازل فأذن لي أن أنقل رحلك . قال : نعم . فنقل وأناخ الناقة في منزله وذكر ابن سعد أن أبا أيوب لما نقل رحل النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى منزله قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : المرء مع رحله وأن سعد بن زرارة جاء فأخذ ناقته فكانت عنده ، قال : وهذا أثبت ، وذكر أيضا أن مدة إقامته عند أبي أيوب كانت سبعة أشهر .

قوله : ( وكان ) أي موضع المسجد ( مربدا ) بكسر الميم وسكون الراء وفتح الموحدة : هو الموضع الذي يجفف فيه التمر . وقال الأصمعي : المربد كل شيء حبست فيه الإبل أو الغنم ، وبه سمي مربد البصرة ؛ لأنه كان موضع سوق الإبل .

[ ص: 290 ] قوله : ( لسهيل وسهل ) زاد ابن عيينة في جامعه عن أبي موسى عن الحسن " وكانا من الأنصار " وعند الزبير بن بكار في " أخبار المدينة " أنهما أتيا رافع بن عمرو ، وعند ابن إسحاق أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سأل : " لمن هذا ؟ فقال له معاذ ابن عفراء : هو لسهيل وسهل ابني عمرو يتيمان لي وسأرضيهما منه " .

قوله : ( في حجر سعد بن زرارة ) كذا لأبي ذر وحده ، وفي رواية الباقين " أسعد " بزيادة ألف وهو الوجه ، كان أسعد من السابقين إلى الإسلام من الأنصار ، ويكنى أبا أمامة ، وأما أخوه سعد فتأخر إسلامه ، ووقع في مرسل ابن سيرين عند أبي عبيد في " الغريب " أنهما كانا في حجر معاذ ابن عفراء ، وحكى الزبير أنهما كانا في حجر أبي أيوب ، والأول أثبت ، وقد يجمع باشتراكهما أو بانتقال ذلك بعد أسعد إلى من ذكر واحدا بعد واحد ، وذكر ابن سعد أن أسعد بن زرارة كان يصلي فيه قبل أن يقدم النبي - صلى الله عليه وسلم - .

قوله : ( فساومهما ) في رواية ابن عيينة فكلم عمهما أي الذي كانا في حجره أن يبتاعه منهما فطلبه منهما فقالا ما تصنع به فلم يجد بدا من أن يصدقهما . ووقع لأبي ذر عن الكشميهني " فأبى أن يقبله منهما " .

قوله : ( حتى ابتاعه منهما ) ذكر ابن سعد عن الواقدي عن معمر عن الزهري " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر أبا بكر أن يعطيهما ثمنه " ، قال : وقال غير معمر : أعطاهما عشرة دنانير . وتقدم في أبواب المساجد من حديث أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : يا بني النجار ثامنوني بحائطكم . قالوا : لا والله لا نطلب ثمنه إلا إلى الله ويأتي مثله في آخر الباب الذي يليه ، ولا منافاة بينهما ، فيجمع بأنهم لما قالوا : لا نطلب ثمنه إلا إلى الله سأل عمن يختص بملكه منهم فعينوا له الغلامين فابتاعه منهما ، فحينئذ يحتمل أن يكون الذين قالوا له : لا نطلب ثمنه إلا إلى الله تحملوا عنه للغلامين بالثمن ، وعند الزبير أن أبا أيوب أرضاهما عن ثمنه .

قوله : ( وطفق رسول الله - صلى الله عليه وسلم ) أي جعل ( ينقل معهم اللبن ) أي الطوب المعمول من الطين الذي لم يحرق ، وفي رواية عطاف بن خالد عند ابن عائذ أنه صلى فيه وهو عريش اثني عشر يوما ، ثم بناه وسقفه . وعند الزبير في خبر المدينة من حديث أنس أنه بناه أولا بالجريد ثم بناه باللبن بعد الهجرة بأربع سنين .

قوله : ( هذا الحمال ) بالمهملة المكسورة وتخفيف الميم أي هذا المحمول من اللبن ( أبر ) عند الله ، أي أبقى ذخرا وأكثر ثوابا وأدوم منفعة وأشد طهارة من حمال خيبر ، أي التي يحمل منها التمر والزبيب ونحو ذلك . ووقع في بعض النسخ في رواية المستملي " هذا الجمال " بفتح الجيم ، وقوله : " ربنا " منادى مضاف .

قوله : ( اللهم إن الأجر أجر الآخرة ، فارحم الأنصار والمهاجرة ) كذا في هذه الرواية ، ويأتي في حديث أنس في الباب الذي بعده اللهم لا خير إلا خير الآخرة ، فانصر الأنصار والمهاجرة وجاء في غزوة الخندق بتغيير آخر من حديث سهل بن سعد ، ونقل الكرماني أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يقف على الآخرة والمهاجرة بالتاء محركة فيخرجه عن الوزن ذكره في أوائل كتاب الصلاة ولم يذكر مستنده ، والكلام الذي بعد هذا يرد عليه .

قوله : ( فتمثل بشعر رجل من المسلمين لم يسم لي ) قال الكرماني : يحتمل أن يكون المراد الرجز المذكور ، ويحتمل أن يكون شعرا آخر . قلت : الأول هو المعتمد ، ومناسبة الشعر المذكور للحال المذكور واضحة ، وفيها إشارة إلى أن الذي ورد في كراهية البناء مختص بما زاد على الحاجة ، أو لم يكن في أمر ديني كبناء المسجد .

[ ص: 291 ] قوله : ( قال ابن شهاب : ولم يبلغنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تمثل ببيت شعر تام غير هذه الأبيات ) زاد ابن عائذ في آخره " التي كان يرتجز بهن وهو ينقل اللبن لبناء المسجد " قال ابن التين : أنكر على الزهري هذا من وجهين ، أحدهما أنه رجز وليس بشعر ، ولهذا يقال لقائله : راجز ، ويقال : أنشد رجزا ، ولا يقال له : شاعر ولا أنشد شعرا . والوجه الثاني أن العلماء اختلفوا هل ينشد النبي - صلى الله عليه وسلم - شعراأم لا . وعلى الجواز هل ينشد بيتا واحدا أو يزيد ؟ وقد قيل : إن البيت الواحد ليس بشعر ، وفيه نظر . ا هـ . والجواب عن الأول أن الجمهور على أن الرجز من أقسام الشعر إذا كان موزونا ، وقد قيل : إنه كان - صلى الله عليه وسلم - إذا قال ذلك لا يطلق القافية بل يقولها متحركة التاء ، ولا يثبت ذلك ، وسيأتي من حديث سهل بن سعد في غزوة الخندق بلفظ " فاغفر للمهاجرين والأنصار " وهذا ليس بموزون ، وعن الثاني بأن الممتنع عنه - صلى الله عليه وسلم - إنشاؤه لا إنشاده ، ولا دليل على منع إنشاده متمثلا .

وقول الزهري : " لم يبلغنا " لا اعتراض عليه فيه ، ولو ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه أنشد غير ما نقله الزهري ، لأنه نفى أن يكون بلغه ، ولم يطلق النفي المذكور . على أن ابن سعد روى عن عفان عن معتمر بن سليمان عن معمر عن الزهري قال : " لم يقل النبي - صلى الله عليه وسلم - شيئا من الشعر قيل قبله أو يروى عن غيره إلا هذا " كذا قال ، وقد قال غيره : إن الشعر المذكور لعبد الله بن رواحة فكأنه لم يبلغه ، وما في الصحيح أصح ، وهو قوله : " شعر رجل من المسلمين " وفي الحديث جواز قول الشعروأنواعه خصوصا الرجز في الحرب ، والتعاون على سائر الأعمال الشاقة ، لما فيه من تحريك الهمم وتشجيع النفوس وتحركها على معالجة الأمور الصعبة ، وذكر الزبير من طريق مجمع بن يزيد قال قائل من المسلمين في ذلك :


لئن قعدنا والنبي يعمل     ذاك إذا للعمل المضلل



ومن طريق أخرى عن أم سلمة نحوه وزاد : قال : وقال علي بن أبي طالب :


لا يستوي من يعمر المساجدا     يدأب فيها قائما وقاعدا
ومن يرى عن التراب حائدا



وسيأتي كيفية نزوله على أبي أيوب إلى أن أكمل المسجد في حديث أنس في هذا الباب إن شاء الله تعالى .

( تنبيه ) : أخرج المصنف هذا الحديث بطوله في " التاريخ الصغير " بهذا السند فزاد بعد قوله هذه الأبيات " وعن ابن شهاب قال : كان بين ليلة العقبة - يعني الأخيرة - وبين مهاجر النبي - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة أشهر أو قريب منها " . قلت : هي ذو الحجة والمحرم وصفر ، لكن كان مضى من ذي الحجة عشرة أيام ، ودخل المدينة بعد أن استهل ربيع الأول فمهما كان الواقع أنه اليوم الذي دخل فيه من الشهر يعرف منه القدر على التحرير ، فقد يكون ثلاثة سواء وقد ينقص وقد يزيد ، لأن أقل ما قيل : إنه دخل في اليوم الأول منه وأكثر ما قيل : إنه دخل الثاني عشر منه . الحديث الرابع عشر .

التالي السابق


الخدمات العلمية