صفحة جزء
باب بنيان المسجد وقال أبو سعيد كان سقف المسجد من جريد النخل وأمر عمر ببناء المسجد وقال أكن الناس من المطر وإياك أن تحمر أو تصفر فتفتن الناس وقال أنس يتباهون بها ثم لا يعمرونها إلا قليلا وقال ابن عباس لتزخرفنها كما زخرفت اليهود والنصارى

435 حدثنا علي بن عبد الله قال حدثنا يعقوب بن إبراهيم بن سعد قال حدثني أبي عن صالح بن كيسان قال حدثنا نافع أن عبد الله بن عمر أخبره أن المسجد كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مبنيا باللبن وسقفه الجريد وعمده خشب النخل فلم يزد فيه أبو بكر شيئا وزاد فيه عمر وبناه على بنيانه في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم باللبن والجريد وأعاد عمده خشبا ثم غيره عثمان فزاد فيه زيادة كثيرة وبنى جداره بالحجارة المنقوشة والقصة وجعل عمده من حجارة منقوشة وسقفه بالساج
قوله : ( باب بنيان المسجد ) أي النبوي .

قوله : ( وقال أبو سعيد ) هو الخدري ، والقدر المذكور هنا طرف من حديثه في ذكر ليلة القدر ، وقد وصله المؤلف في الاعتكاف وغيره من طريق أبي سلمة عنه ، وسيأتي قريبا في أبواب صلاة الجماعة .

قوله : ( وأمر عمر ) هو طرف من قصة في ذكر تجديد المسجد النبوي .

قوله : ( وقال أكن الناس ) وقع في روايتنا أكن بضم الهمزة وكسر الكاف وتشديد النون المضمومة بلفظ الفعل المضارع من أكن الرباعي يقال : أكننت الشيء إكنانا أي صنته وسترته ، وحكى أبو زيد كننته من الثلاثي بمعنى أكننته ، وفرق الكسائي بينهما فقال كننته أي سترته وأكننته في نفسي أي أسررته ، ووقع في رواية الأصيلي " أكن " بفتح الهمزة والنون فعل أمر من الإكنان أيضا ويرجحه قوله قبله " وأمر عمر " وقوله بعده " وإياك " وتوجه الأولى بأنه خاطب القوم بما أراد ثم التفت إلى الصانع فقال له " وإياك " ، أو يحمل قوله وإياك على التجريد كأنه خاطب نفسه بذلك ، قال عياض : وفي رواية غير الأصيلي والقابسي - أي وأبي ذر - " كن الناس " بحذف الهمزة وكسر الكاف وهو صحيح أيضا . وجوز ابن مالك ضم الكاف على أنه من كن فهو مكنون . انتهى . وهو متجه ، لكن الرواية لا تساعده .

قوله : ( فتفتن الناس ) بفتح المثناة من فتن ، وضبطه ابن التين بالضم من أفتن ، وذكر أن الأصمعي أنكره وأن أبا عبيدة أجازه فقال فتن وأفتن بمعنى ، قال ابن بطال : كان عمر فهم ذلك من رد الشارع الخميصة إلى أبي جهم من أجل الأعلام التي فيها وقال " إنها ألهتني عن صلاتي " . قلت : ويحتمل أن يكون عند عمر من ذلك علم خاص بهذه المسألة فقد روى ابن ماجه من طريق عمرو بن ميمون عن عمر مرفوعا " ما ساء عمل قوم قط إلا زخرفوا مساجدهم " رجاله ثقات إلا شيخه جبارة بن المغلس ففيه مقال .

قوله : ( وقال أنس : يتباهون بها ) بفتح الهاء أي يتفاخرون ، وهذا التعليق رويناه موصولا في مسند أبي يعلى وصحيح ابن خزيمة من طريق أبي قلابة أن أنسا قال " سمعته يقول : يأتي على أمتي زمان يتباهون بالمساجد ثم لا يعمرونها إلا قليلا " وأخرجه أبو داود والنسائي وابن حبان مختصرا من طريق أخرى عن أبي قلابة عن أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال " لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس في المساجد " والطريق الأولى أليق بمراد البخاري . وعند أبي نعيم في كتاب المساجد من الوجه الذي عند ابن خزيمة " يتباهون بكثرة المساجد " .

[ ص: 643 ] ( تنبيه ) : قوله " ثم لا يعمرونها " المراد به عمارتها بالصلاة وذكر الله ، وليس المراد به بنيانها ، بخلاف ما يأتي في ترجمة الباب الذي بعده .

قوله : ( وقال ابن عباس : لتزخرفنها ) بفتح اللام وهي لام القسم وضم المثناة وفتح الزاي وسكون الخاء المعجمة وكسر الراء وضم الفاء وتشديد النون وهي نون التأكيد ، والزخرفة الزينة ، وأصل الزخرف الذهب ثم استعمل في كل ما يتزين به . وهذا التعليق وصله أبو داود وابن حبان من طريق يزيد بن الأصم عن ابن عباس هكذا موقوفا ، وقبله حديث مرفوع ولفظه " ما أمرت بتشييد المساجد " وظن الطيبي في شرح المشكاة أنهما حديث واحد فشرحه على أن اللام في " لتزخرفنها " مكسورة وهي لام التعليل للمنفي قبله ، والمعنى : ما أمرت بالتشييد ليجعل ذريعة إلى الزخرفة ، قال : والنون فيه لمجرد التأكيد ، وفيه نوع توبيخ وتأنيب ، ثم قال : ويجوز فتح اللام على أنها جواب القسم . قلت : وهذا هو المعتمد ، والأول لم تثبت به الرواية أصلا فلا يغتر به ، وكلام ابن عباس فيه مفصول من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - في الكتب المشهورة وغيرها ، وإنما لم يذكر البخاري المرفوع منه للاختلاف على يزيد بن الأصم في وصله وإرساله ، قال البغوي : التشييد رفع البناء وتطويله ، وإنما زخرفت اليهود والنصارى معابدها حين حرفوا كتبهم وبدلوها .

قوله : ( حدثنا يعقوب بن إبراهيم ) زاد الأصيلي ابن سعد . ورواية صالح بن كيسان عن نافع من رواية الأقران ; لأنهما مدنيان ثقتان تابعيان من طبقة واحدة ، وعبد الله " هو ابن عمر " .

قوله : ( باللبن ) بفتح اللام وكسر الموحدة .

قوله : ( وعمده ) بفتح أوله وثانيه ويجوز ضمهما ، وكذا قوله " خشب " .

قوله : ( وزاد فيه عمر وبناه على بنيانه ) أي بجنس الآلات المذكورة ولم يغير شيئا من هيئته إلا توسيعه .

قوله : ( ثم غيره عثمان ) ، أي من الوجهين : التوسيع ، وتغيير الآلات .

قوله : ( بالحجارة المنقوشة ) أي بدل اللبن ، وللحموي والمستملي " بحجارة منقوشة " .

قوله : ( والقصة ) بفتح القاف وتشديد الصاد المهملة وهي الجص بلغة أهل الحجاز ، وقال الخطابي : تشبه الجص وليست به .

[ ص: 644 ] قوله : ( وسقفه ) بلفظ الماضي عطفا على جعل ، وبإسكان القاف على عمده ، والساج نوع من الخشب معروف يؤتى به من الهند ، وقال ابن بطال وغيره : هذا يدل على أن السنة في بنيان المسجد القصد وترك الغلو في تحسينه ، فقد كان عمر مع كثرة الفتوح في أيامه وسعة المال عنده لم يغير المسجد عما كان عليه ، وإنما احتاج إلى تجديده ; لأن جريد النخل كان قد نخر في أيامه ، ثم كان عثمان والمال في زمانه أكثر فحسنه بما لا يقتضي الزخرفة ، ومع ذلك فقد أنكر بعض الصحابة عليه كما سيأتي بعد قليل .

وأول من زخرف المساجد الوليد بن عبد الملك بن مروان ، وذلك في أواخر عصر الصحابة ، وسكت كثير من أهل العلم عن إنكار ذلك خوفا من الفتنة ، ورخص في ذلك بعضهم - وهو قول أبي حنيفة - إذا وقع على سبيل التعظيم للمساجد ، ولم يقع الصرف على ذلك من بيت المال . وقال ابن المنير : لما شيد الناس بيوتهم وزخرفوها ناسب أن يصنع ذلك بالمساجد صونا لها عن الاستهانة . وتعقب بأن المنع إن كان للحث على اتباع السلف في ترك الرفاهية فهو كما قال ، وإن كان لخشية شغل بال المصلي بالزخرفة فلا لبقاء العلة . وفي حديث أنس علم من أعلام النبوة لإخباره - صلى الله عليه وسلم - بما سيقع ، فوقع كما قال .

التالي السابق


الخدمات العلمية