صفحة جزء
باب حسن المعاشرة مع الأهل

4893 حدثنا سليمان بن عبد الرحمن وعلي بن حجر قالا أخبرنا عيسى بن يونس حدثنا هشام بن عروة عن عبد الله بن عروة عن عروة عن عائشة قالت جلس إحدى عشرة امرأة فتعاهدن وتعاقدن أن لا يكتمن من أخبار أزواجهن شيئا قالت الأولى زوجي لحم جمل غث على رأس جبل لا سهل فيرتقى ولا سمين فينتقل قالت الثانية زوجي لا أبث خبره إني أخاف أن لا أذره إن أذكره أذكر عجره وبجره قالت الثالثة زوجي العشنق إن أنطق أطلق وإن أسكت أعلق قالت الرابعة زوجي كليل تهامة لا حر ولا قر ولا مخافة ولا سآمة قالت الخامسة زوجي إن دخل فهد وإن خرج أسد ولا يسأل عما عهد قالت السادسة زوجي إن أكل لف وإن شرب اشتف وإن اضطجع التف ولا يولج الكف ليعلم البث قالت السابعة زوجي غياياء أو عياياء طباقاء كل داء له داء شجك أو فلك أو جمع كلا لك قالت الثامنة زوجي المس مس أرنب والريح ريح زرنب قالت التاسعة زوجي رفيع العماد طويل النجاد عظيم الرماد قريب البيت من الناد قالت العاشرة زوجي مالك وما مالك مالك خير من ذلك له إبل كثيرات المبارك قليلات المسارح وإذا سمعن صوت المزهر أيقن أنهن هوالك قالت الحادية عشرة زوجي أبو زرع وما أبو زرع أناس من حلي أذني وملأ من شحم عضدي وبجحني فبجحت إلي نفسي وجدني في أهل غنيمة بشق فجعلني في أهل صهيل وأطيط ودائس ومنق فعنده أقول فلا أقبح وأرقد فأتصبح وأشرب فأتقنح أم أبي زرع فما أم أبي زرع عكومها رداح وبيتها فساح ابن أبي زرع فما ابن أبي زرع مضجعه كمسل شطبة ويشبعه ذراع الجفرة بنت أبي زرع فما بنت أبي زرع طوع أبيها وطوع أمها وملء كسائها وغيظ جارتها جارية أبي زرع فما جارية أبي زرع لا تبث حديثنا تبثيثا ولا تنقث ميرتنا تنقيثا ولا تملأ بيتنا تعشيشا قالت خرج أبو زرع والأوطاب تمخض فلقي امرأة معها ولدان لها كالفهدين يلعبان من تحت خصرها برمانتين فطلقني ونكحها فنكحت بعده رجلا سريا ركب شريا وأخذ خطيا وأراح علي نعما ثريا وأعطاني من كل رائحة زوجا وقال كلي أم زرع وميري أهلك قالت فلو جمعت كل شيء أعطانيه ما بلغ أصغر آنية أبي زرع قالت عائشة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كنت لك كأبي زرع لأم زرع قال أبو عبد الله قال سعيد بن سلمة عن هشام ولا تعشش بيتنا تعشيشا قال أبو عبد الله وقال بعضهم فأتقمح بالميم وهذا أصح
[ ص: 164 ] قوله ( باب حسن المعاشرة مع الأهل ) قال ابن المنير : نبه بهذه الترجمة على أن إيراد النبي صلى الله عليه وسلم هذه الحكاية - يعني حديث أم زرع - ليس خليا عن فائدة شرعية ، وهي الإحسان في معاشرة الأهل . قلت : وليس فيما ساقه البخاري التصريح بأن النبي صلى الله عليه وسلم أورد الحكاية ، وسيأتي بيان الاختلاف في رفعه ووقفه ، وليست الفائدة من الحديث محصورة فيما ذكر ، بل سيأتي له فوائد أخرى : منها ما ترجم عليه النسائي والترمذي ، وقد شرح حديث أم زرع إسماعيل بن أبي أويس شيخ البخاري ، روينا ذلك في جزء إبراهيم بن ديزيل الحافظ من روايته عنه ، وأبو عبيد القاسم بن سلام في " غريب الحديث " وذكر أنه نقل عن عدة من أهل العلم لا يحفظ عددهم ، وتعقب عليه فيه مواضع أبو سعيد الضرير النيسابوري وأبو محمد بن قتيبة كل منهما في تأليف مفرد ، والخطابي في " شرح البخاري " وثابت بن قاسم ، وشرحه أيضا الزبير بن بكار ثم أحمد بن عبيد بن ناصح ثم أبو بكر بن الأنباري ثم إسحاق الكاذي في جزء مفرد وذكر أنه جمعه عن يعقوب بن السكيت وعن أبي عبيدة وعن غيرهما ، ثم أبو القاسم عبد الحكيم بن حبان المصري ثم الزمخشري في " الفائق " ثم القاضي عياض وهو أجمعها وأوسعها ، وأخذ منه غالب الشراح بعده وقد لخصت جميع ما ذكروه .

[ ص: 165 ] قوله : ( حدثنا سليمان بن عبد الرحمن ) في رواية أبي ذر " حدثني " وهو المعروف بابن بنت شرحبيل الدمشقي ( وعلي بن حجر ) بضم المهملة وسكون الجيم وعيسى بن يونس أي ابن أبي إسحاق السبيعي ووقع منسوبا كذلك عن الإسماعيلي

قوله : ( حدثنا هـشام بن عروة عن عبد الله بن عروة ) في رواية مسلم و أبي يعلى عن أحمد بن جناب بجيم ونون خفيفة عن عيسى بن يونس عن هشام " أخبرني أخي عبد الله بن عروة " وهذا من نوادر ما وقع لهشام بن عروة في حديثه عن أبيه حيث أدخل بينهما أخا له واسطة ، ومثله ما سيأتي في اللباس من طريق وهيب عن هشام بن عروة عن أخيه عثمان عن عروة ، ومضت له في الهبة رواية بوساطة اثنين بينه وبين أبيه ، ولم يختلف على عيسى بن يونس في إسناده وسياقه ، لكن حكى عياض عن أحمد بن داود الحراني أنه رواه عن عيسى فقال في أوله : " عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم " وساقه بطوله مرفوعا كله ، وكذا حكاه أبو عبيد أنه بلغه عن عيسى بن يونس وتابع عيسى بن يونس على رواية مفصلا فيما حكاه الخطيب سويد بن عبد العزيز وكذا من شرح الحديث ، وخالفهم الهيثم بن عدي فيما أخرجه الدارقطني في الجزء الثاني من " الأفراد " فرواه عن هشام بن عروة عن أخيه يحيى بن عروة عن أبيه ، وخطأه الدارقطني في " العلل " وصوب أنه عبد الله بن عروة ، وقال عقبة بن خالد وعباد بن منصور وروايتهما عند النسائي ، والدراوردي وعبد الله بن مصعب وروايته عند الزبير بن بكار ، وأبو أويس فيما أخرجه ابنه عنه ، وعبد الرحمن بن أبي الزناد وروايته عند الطبراني ، و أبو معاوية وروايته عند أبي عوانة في صحيحه كلهم عن هشام بن عروة عن أبيه بغير واسطة ، وأدخل بينهما واسطة ، أيضا عقبة بن خالد أيضا فرواه عن هشام بن عروة عن يزيد بن رومان عن عروة لكن اقتصر على المرفوع ، وبين ذلك البزار ، قال الدارقطني : وليس ذلك بمدفوع فقد رواه أبو أويس أيضا وإبراهيم بن أبي يحيى عن يزيد بن رومان اهـ .

ورواه عن عروة أيضا حفيده عمر بن عبد الله بن عروة و أبو الزناد و أبو الأسود محمد بن عبد الرحمن بن نوفل إلا أنه كان يقتصر على المرفوع منه وينكر على هشام بن عروة سياقه بطوله ويقول : إنما كان عروة يحدثنا بذلك في السفر بقطعة منه ، ذكره أبو عبيد الآجري في أسئلته عن أبي داود . قلت : ولعل هذا هـو السبب في ترك أحمد تخريجه في مسنده مع كبره ، وقد حدث به الطبراني عن عبد الله بن أحمد لكن عن غير أبيه ، وقال العقيلي : قال أبو الأسود : لم يرفعه إلا هـشام بن عروة . قلت : المرفوع منه في الصحيحين كنت لك كأبي زرع وباقيه من قول عائشة . وجاء خارج الصحيح مرفوعا كله من رواية عباد بن منصور عند النسائي وساقه بسياق لا يقبل التأويل ولفظه قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : كنت لك كأبي زرع لأم زرع . قالت عائشة : بأبي وأمي يا رسول الله ومن كان أبو زرع ؟ قال : اجتمع نساء فساق الحديث كله ، وجاء مرفوعا أيضا من رواية عبد الله بن مصعب و الدراوردي عند الزبير بن بكار ، وكذا رواه أبو معشر عن هشام وغيره من أهل المدينة عن عروة ، وهي رواية الهيثم بن عدي أيضا ، وكذا أخرجه النسائي من رواية القاسم بن عبد الواحد عن عمر بن عبد الله بن عروة ، وقد قدمت ذكر رواية أحمد بن داود عن عيسى بن يونس ، كذلك قال عياض ، وكذا ظاهر رواية حنبل بن إسحاق عن موسى بن إسماعيل عن سعيد بن سلمة بسنده المتقدم فإن أوله عنده " قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : كنت لك كأبي زرع لأم زرع ، ثم أنشأ يحدث حديث أم زرع " قال عياض : يحتمل أن يكون فاعل أنشأ هـو عروة فلا يكون مرفوعا . وأخذ القرطبي هذا الاحتمال فجزم به وزعم أن ما عداه وهم ، وسبقه إلى ذلك [ ص: 166 ] ابن الجوزي ، لكن يعكر عليه أن في بعض طرقه الصحيحة " ثم أنشأ رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث " وذلك في رواية القاسم بن عبد الواحد التي أشرت إليها ولفظه " كنت لك كأبي زرع لأم زرع ، ثم أنشأ رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث " فانتفى الاحتمال . ويقوي رفع جميعه أن التشبيه المتفق على رفعه يقتضي أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم سمع القصة وعرفها فأقرها فيكون كله مرفوعا من هذه الحيثية ، ويكون المراد بقول الدارقطني والخطيب وغيرهما من النقاد أن المرفوع منه ما ثبت في الصحيحين والباقي موقوف من قول عائشة هو أن الذي تلفظ به النبي صلى الله عليه وسلم لما سمع القصة من عائشة هو التشبيه فقط ولم يريدوا أنه ليس بمرفوع حكما ، ويكون من عكس ذلك فنسب قص القصة من ابتدائها إلى انتهائها إلى النبي صلى الله عليه وسلم واهما كما سيأتي بيانه

قوله : ( جلس إحدى عشرة ) قال ابن التين : التقدير جلس جماعة إحدى عشرة وهو مثل وقال نسوة في المدينة وفي رواية أبي عوانة " جلست " وفي رواية أبي علي الطبري في مسلم " جلسن " بالنون في رواية للنسائي " اجتمع " وفي رواية أبي عبيد " اجتمعت " وفي رواية أبي يعلى " اجتمعن " قال القرطبي : زيادة النون على لغة أكلوني البراغيث وقد أثبتها جماعة من أئمة العربية واستشهدوا لها بقوله تعالى : وأسروا النجوى الذين ظلموا وقوله تعالى عموا وصموا كثير منهم وحديث يتعاقبون فيكم ملائكة وقول الشاعر :

بحوران يعصرن السليط أقاربه

وقوله :

يلومونني في اشتراء النخي     ل قومي فكلهم يعذل

وقد تكلف بعض النحاة رد هذه اللغة إلى اللغة المشهورة وهي أن لا يلحق علامة الجمع ولا التثنية ولا التأنيث في الفعل إذا تقدم على الأسماء ، وخرج لها وجوها وتقديرات في غالبها نظر ، ولا يحتاج إلى ذلك بعد ثبوتها نقلا وصحتها استعمالا والله أعلم .

وقال عياض : الأشهر ما وقع في الصحيحين وهو توحيد الفعل مع الجمع ، قال سيبويه : حذف اكتفاء بما ظهر ، تقول مثلا : قام قومك فلو تقدم الاسم لم يحذف فتقول قومك قام بل قاموا ، ومما يوجه ما وقع هنا أن يكون " إحدى عشرة " بدلا من الضمير في " اجتمعن " والنون على هذا ضمير لا حرف علامة ، أو على أنه خبر مبتدأ محذوف كأنه قيل : من هن ؟ فقيل : إحدى عشرة ، أو بإضمار أعني ، وذكر عياض أن في بعض الروايات " إحدى عشرة نسوة " قال : فإن كان بالنصب احتاج إلى إضمار أعني أو بالرفع فهو بدل من إحدى عشرة ومنه قوله تعالى وقطعناهم اثنتي عشرة أسباطا قال الفارسي : هو بدل من قطعناهم وليس بتمييز اهــ . وقد جوز غيره أن يكون تمييزا بتأويل يطول شرحه . ووقع لهذا الحديث سبب عند النسائي من طريق عمر بن عبد الله بن عروة عن عروة عن عائشة قالت " فخرجت بمال أبي في الجاهلية وكان ألف ألف أوقية - وفيه - فقال النبي صلى الله عليه وسلم : اسكتي يا عائشة فإني كنت لك كأبي زرع لأم زرع " ووقع له سبب آخر فيما أخرجه أبو القاسم عبد الحكيم بن حبان بسند له مرسل من طريق سعيد بن عفير عن القاسم بن الحسن عن عمرو بن الحارث عن الأسود بن جبر المغافري ( 1 ) قال " دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على عائشة وفاطمة وقد جرى بينهما كلام ، فقال : ما أنت بمنتهية يا حميراء عن ابنتي ، إن مثلي ومثلك >[1] [ ص: 167 ] كأبي زرع مع أم زرع . فقالت : يا رسول الله حدثنا عنهما ، فقال : كانت قرية فيها إحدى عشرة امرأة ، وكان الرجال خلوفا ، فقلن : تعالين نتذاكر أزواجنا بما فيهم ولا نكذب " ووقع في رواية أبي معاوية عن هشام بن عروة عند أبي عوانة في صحيحه بلفظ " كان رجل يكنى أبا زرع وامرأته أم زرع ، فتقول : أحسن لي أبو زرع ، وأعطاني أبو زرع ، وأكرمني أبو زرع ، وفعل بي أبو زرع " . ووقع في رواية الزبير بن بكار " دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندي بعض نسائه فقال يخصني بذلك : يا عائشة أنا لك كأبي زرع لأم زرع . قلت : يا رسول الله ما حديث أبي زرع وأم زرع ؟ قال : إن قرية من قرى اليمن كان بها بطن من بطون اليمن وكان منهن إحدى عشرة امرأة ، وأنهن خرجن إلى مجلس فقلن : تعالين فلنذكر بعولتنا بما فيهم ولا نكذب " فيستفاد من هذه الرواية معرفة جهة قبيلتهن وبلادهن ، لكن وقع في رواية الهيثم أنهن كن بمكة . وأفاد أبو محمد بن حزم فيما نقله عياض أنهن كن من خثعم ، وهو يوافق رواية الزبير أنهن من أهل اليمن ، ووقع في رواية ابن أبي أويس عن أبيه أنهن كن في الجاهلية ، وكذا عند النسائي في رواية عقبة بن خالد عن هشام ، وحكى عياض ثم النووي قول الخطيب في " المبهمات " : لا أعلم أحدا سمى النسوة المذكورات في حديث أم زرع إلا من الطريق الذي أذكره وهو غريب جدا ، ثم ساقه من طريق الزبير بن بكار .

قلت : وقد ساقه أيضا أبو القاسم عبد الحكيم المذكور من الطريق المرسلة التي قدمت ذكرها فإنه ساقه من طريق الزبير بن بكار بسنده ، ثم ساقه من الطريق المرسلة وقال : فذكر الحديث نحوه ، وسمى ابن دريد في " الوشاح " أم زرع عاتكة ، ثم قال النووي : وفيه - يعني سياق الزبير بن بكار - أن الثانية اسمها عمرة بنت عمرو ، واسم الثالثة حبى بضم المهملة وتشديد الموحدة مقصور بنت كعب ، والرابعة مهدد بنت أبي هزومة ، والخامسة كبشة ، والسادسة هند ، والسابعة حبى بنت علقمة ، والثامنة بنت أوس بن عبد >[2] ، والتاسعة عنده هي الثانية هنا والعاشرة كبشة بنت الأرقم اهــ ، ولم يسم الأولى ولا التاسعة ولا أزواجهن ولا ابنة أبي زرع ولا أمه ولا الجارية ولا المرأة التي تزوجها أبو زرع ولا الرجل الذي تزوجته أم زرع ، وقد تبعه جماعة من الشراح بعده وكلامهم يوهم أن ترتيبهن في رواية الزبير كترتيب رواية الصحيحين ، وليس كذلك فإن الأولى عند الزبير وهي التي لم يسمها هـي الرابعة ، الثانية في رواية الزبير هي الثامنة هنا ، والثالثة عند ابن الزبير هي العاشرة هنا ، والرابعة عند الزبير هي الأولى هنا ، والخامسة عنده هي التاسعة هنا ، والسادسة عنده هي السابعة هنا ، والسابعة عنده هي الخامسة هنا ، والثامنة عنده هي السادسة هنا ، والتاسعة عنده هي الثانية هنا ، والعاشرة عنده هي الثالثة هنا .

وقد اختلف كثير من رواة الحديث في ترتيبهن ، ولا ضير في ذلك ولا أثر للتقديم والتأخير فيه ، إذا لم يقع تسميتهن . نعم في رواية سعيد بن سلمة مناسبة ، وهي سياق الخمسة اللاتي ذممن أزواجهن على حدة والخمسة اللاتي مدحن أزواجهن على حدة ، وسأشير إلى ترتيبهن في الكلام على قول السادسة هنا ، وقد أشار إلى ذلك في قول عروة عند ذكر الخامسة ، فهؤلاء خمس يشكون ، وإنما نبهت على رواية الزبير بخصوصها لما فيها من التسمية مع المخالفة في سياق الأعداد ، فيظن من لم يقف على حقيقة ذلك أن الثانية التي سميت عمرة بنت عمرو هي التي قالت : زوجي لا أبث خبره ، وليس ذلك بل هي التي قالت : زوجي المس مس أرنب ، وهكذا إلخ فللتنبيه عليه فائدة من هذه الحيثية .

قوله : ( فتعاهدن وتعاقدن ) أي ألزمن أنفسهن عهدا وعقدن على الصدق من ضمائرهن عقدا .

قوله : ( أن لا يكتمن في رواية ابن أبي أويس و عقبة أن يتصادقن بينهن ولا يكتمن ، وفي رواية سعيد بن >[3] [ ص: 168 ] سلمة عند الطبراني أن ينعتن أزواجهن ويصدقن ، وفي رواية الزبير فتبايعن على ذلك . قوله ( قالت الأولى زوجي لحم جمل غث بفتح المعجمة وتشديد المثلثة ، ويجوز جره صفة للجمل ورفعه صفة للحم ، قال ابن الجوزي : المشهور في الرواية الخفض ، وقال ابن ناصر : الجيد الرفع ونقله عن التبريزي وغيره ، والغث الهزيل الذي يستغث من هزاله أي يستترك ويستكره ، مأخوذ من قولهم : غث الجرح غثا وغثيثا إذا سال منه القيح واستغثه صاحبه ، ومنه أغث الحديث ، ومنه غث فلان في خلقه ، وكثر استعماله في مقابلة السمين فيقال للحديث المختلط : فيه الغث والسمين .

قوله : ( على رأس جبل في رواية أبي عبيد و الترمذي " وعر " وفي رواية الزبير بن بكار " وعث " وهي أوفق للسجعة ، والأول ظاهر أي كثير الضجر شديد الغلط يصعب الرقي إليه ، والوعث بالمثلثة الصعب المرتقى بحيث توحل فيه الأقدام فلا يتخلص منه يشق فيه المشي ، ومنه وعثاء السفر .

قوله : ( لا سهل بالفتح بلا تنوين وكذا " ولا سمين " و يجوز فيها الرفع على خبر مبتدأ مضمر ، أي لا هـو سهل ولا سمين ، ويجوز الجر على أنهما صفة جمل وجبل . ووقع في رواية عقبة بن خالد عن هشام عند النسائي بالنصب منونا فيهما " لا سهلا ولا سمينا " وفي رواية عمر بن عبد الله بن عروة عنده " لا بالسمين ولا بالسهل " قال عياض : أحسن الأوجه عندي الرفع في الكلمتين من جهة سياق الكلام وتصحيح المعنى لا من وجهة تقويم اللفظ ، وذلك أنها أودعت كلامها تشبيه شيئين بشيئين : شبهت زوجها باللحم الغث وشبهت سوء خلقه بالجبل الوعر ، ثم فسرت ما أجملت فكأنها قالت : لا الجبل سهل فلا يشق ارتقاؤه لأخذ اللحم ولو كان هزيلا ، لأن الشيء المزهود فيه قد يؤخذ إذا وجد بغير نصب ، ثم قال : ولا اللحم سمين فيتحمل المشقة في صعود الجبل لأجل تحصيله .

قوله : ( فيرتقى أي فيصعد فيه وهو وصف للجبل ، وفي رواية للطبراني " لا سهل فيرتقى إليه " .

قوله : ( ولا سمين فينتقل في رواية أبي عبيد " فينتقى " وهذا وصف اللحم ، والأول من الانتقال أي أنه لهزاله لا يرغب أحد فيه فينتقل إليه يقال انتقلت الشيء أي نقلته ، ومعنى " ينتقى " ليس له نقي يستخرج ، والنقي المخ ، يقال : نقوت العظم ونقيته وانتقيته إذا استخرجت مخه ، وقد كثر استعماله في اختيار الجيد من الرديء .

قال عياض : أرادت أنه ليس له نقي فيطلب لأجل ما فيه من النقي ، وليس المراد أنه فيه نقي يطلب استخراجه ، قالوا آخر ما يبقى في الجمل مخ عظم المفاصل ومخ العين وإذا نفدا لم يبق فيه خير ، قالوا : وصفته بقلة الخير وبعده مع القلة ، فشبهته باللحم الذي صغرت عظامه عن النقي وخبث طعمه وريحه مع كونه في مرتقى يشق الوصول إليه فلا يرغب أحد في طلبه لينقله إليه مع توفر دواعي أكثر الناس على تناول الشيء المبذول مجانا . وقال النووي : فسره الجمهور بأنه قليل الخير من أوجه : منها كونه كلحم الجمل لا كلحم الضأن مثلا ، ومنها أنه مع ذلك مهزول رديء ، ويؤيده قول أبي سعيد الضرير ليس في اللحوم أشد غثاثة من لحم الجمل لأنه يجمع خبث الطعم وخبث الريح ، ومنها أنه صعب التناول لا يوصل إليه إلا بمشقة شديدة وذهب الخطابي إلى أن تشبيهها بالجبل الوعر إشارة إلى سوء خلقه ، وأنه يرتفع ويتكبر ويسمو بنفسه فوق موضعها فيجمع البخل وسوء الخلق . وقال عياض : شبهت وعورة خلقه بالجبل وبعد خيره ببعد اللحم على رأس الجبل ، والزهد فيما يرجى منه مع قلته وتعذره بالزهد في لحم الجمل الهزيل ، فأعطت التشبيه حقه ووفته قسطه .

[ ص: 169 ] قوله ( قالت الثانية زوجي لا أبث خبره بالموحدة ثم المثلثة وفي رواية حكاها عياض " أنث " بالنون بدل الموحدة أي لا أظهر حديثه ، وعلى رواية النون فمرادها حديثه الذي لا خير فيه ، لأن النث بالنون أكثر ما يستعمل في الشر ، ووقع في رواية للطبراني " لا أنم " بنون وميم من النميمة .

قوله ( إني أخاف أن لا أذره أي أخاف أن لا أترك من خبره شيئا ، فالضمير للخبر أي أنه لطوله وكثرته إن بدأته لم أقدر على تكميله فاكتفت بالإشارة إلى معايبه خشية أن يطول الخطب بإيراد جميعها . ووقع في رواية عباد بن منصور عند النسائي " أخشى أن لا أذره من سوء " وهذا تفسير ابن السكيت ، ويؤيده أن في رواية عقبة بن خالد " إني أخاف أن لا أذره ، أذكره وأذكر عجره وبجره " وقال غيره : الضمير لزوجها وعليه يعود ضمير " عجره وبجره " بلا شك كأنها خشيت إذا ذكرت ما فيه أن يبلغه فيفارقها ، فكأنها قالت أخاف أن لا أقدر على تركه لعلاقتي به وأولادي منه ، وأذره بمعنى أفارقه فاكتفت بالإشارة إلى أن له معايب وفاء بما التزمته من الصدق وسكتت عن تفسيرها للمعنى الذي اعتذرت به ، ووقع في رواية الزبير " زوجي من لا أذكره ولا أبث خبره " والأول أليق بالسجع .

قوله ( عجره وبجره بضم أوله وفتح الجيم فيهما الأول بعين مهملة والثاني بموحدة جمع عجرة وبجرة بضم ثم سكون ، فالعجرة تعقد العصب والعروق في الجسد حتى تصير ناتئة ، والبجر مثلها إلا أنها مختصة بالتي تكون في البطن قاله الأصمعي و غيره . وقال ابن الأعرابي : العجرة نفخة في الظهر والبجرة نفخة في السرة . وقال ابن أبي أويس : العجر العقد التي تكون في البطن واللسان ، والبجر العيوب . وقيل : العجر في الجنب والبطن ، والبجر في السرة . هذا أصلهما ، ثم استعملا في الهموم والأحزان ، ومنه قول علي يوم الجمل : أشكو إلى الله عجري وبجري . وقال الأصمعي : استعملا في المعايب ، وبه جزم ابن حبيب و أبو عبيد الهروي . وقال أبو عبيد بن سلام ثم ابن السكيت : استعملا فيما يكتمه المرء ويخفيه عن غيره ، وبه جزم المبرد . قال الخطابي أرادت عيوبه الظاهرة وأسراره الكامنة . قال : ولعله كان مستور الظاهر رديء الباطن . وقال أبو سعيد الضرير : عنت أن زوجها كثير المعايب متعقد النفس عن المكارم . وقال الأخفش : العجر العقد تكون في سائر البدن ، والبجر تكون في القلب . وقال ابن فارس : يقال في المثل أفضيت إليه بعجري وبجري أي بأمري كله .

قوله ( قالت الثالثة زوجي العشنق بفتح المهملة ثم المعجمة وتشديد النون المفتوحة وآخره قاف ، قال أبو عبيد وجماعة : هو الطويل ، زاد الثعالبي : المذموم الطول . وقال الخليل : هو الطويل العنق . وقال ابن أبي أويس : الصقر من الرجال المقدام الجريء . وحكى ابن الأنباري عن ابن قتيبة أنه قال : هو القصير ، ثم قال : كأنه عنده من الأضداد ، قال : ولم أره لغيره انتهى . والذي يظهر أنه تصحف عليه بما قال ابن أبي أويس قاله عياض ، وقد قال ابن حبيب : هو المقدام على ما يريد ، الشرس في أموره . وقيل : السيئ الخلق . وقال الأصمعي : أرادت أنه ليس عند أكثر من طوله بغير نفع . وقال غيره : هو المستكره الطول ، وقيل ذمته بالطول لأن الطول في الغالب دليل السفه وعلل ببعد الدماغ عن القلب . وأغرب من قال مدحته بالطول لأن العرب تتمدح بذلك . وأجاب عنه ابن الأنباري باحتمال أن تكون أرادت مدح خلقه وذم خلقه ، فكأنها قالت : له منظر بلا مخبر ، وهو محتمل . وقال أبو سعيد الضرير : الصحيح أن العشنق الطويل النجيب الذي يملك أمر نفسه ولا تحكم النساء فيه بل يحكم فيهن بما شاء ، فزوجته تهابه أن تنطق بحضرته ، فهي تسكت على مضض . قال الزمخشري : وهي من الشكاية البليغة انتهى . ويؤيده ما وقع في رواية يعقوب بن السكيت من [ ص: 170 ] الزيادة في آخره " وهو على حد السنان المذلق " بفتح المعجمة وتشديد اللام أي المجرد بوزنه ومعناه ، تشير إلى أنها منه على حذر ، ويحتمل أن تكون أرادت بهذا أنه أهوج لا يستقر على حال كالسنان الشديد الحدة .

قوله ( إن أنطق أطلق ، وإن أسكت أعلق أي إن ذكرت عيوبه فيبلغه طلقني ، وإن سكت عنها فأنا عنده معلقة لا ذات زوج ولا أيم ، كما وقع في تفسير قوله تعالى فتذروها كالمعلقة فكأنها قالت : أنا عنده لا ذات بعل فأنتفع به ، ولا مطلقة فأتفرغ لغيره ، فهي كالمعلقة بين العلو والسفل لا تستقر بأحدهما ، هكذا توارد عليه أكثر الشراح تبعا لأبي عبيد . وفي الشق الثاني عندي نظر ، لأنه لو كان ذلك مرادها لانطلقت ليطلقها فتستريح . والذي يظهر لي أيضا أنها أرادت وصف سوء حالها عنده ، فأشارت إلى سوء خلقه وعدم احتماله لكلامها إن شكت له حالها ، وأنها تعلم أنها متى ذكرت له شيئا من ذلك بادر إلى طلاقها وهي لا تؤثر تطليقه لمحبتها فيه ، ثم عبرت بالجملة الثانية إشارة إلى أنها إن سكتت صابرة على تلك الحال كانت عنده كالمعلقة التي لا ذات زوج . ولا أيم ، ويحتمل أن يكون قولها : " أعلق " مشتقا من علاقة الحب أو من علاقة الوصلة ، أي إن نطقت طلقني وإن سكت استمر بي زوجة ، وأنا لا أوثر تطليقه لي فلذلك أسكت . قال عياض : أوضحت بقولها " على حد السنان المذلق " مرادها بقولها قبل " إن أسكت أعلق ، وإن أنطق أطلق " أي أنها إن حادت عن السنان سقطت فهلكت ، وإن استمرت عليه أهلكها .

قوله ( قالت الرابعة : زوجي كليل تهامة ، لا حر ولا قر ، ولا مخافة ولا سآمة بالفتح بغير تنوين مبنية مع لا على الفتح وجاء الرفع مع التنوين فيها وهي رواية أبي عبيد ، قال أبو البقاء : وكأنه أشبع بالمعنى أي ليس فيه حر ، فهو اسم ليس وخبرها محذوف ، قال : ويقويه ما وقع من التكرير ، كذا قال ، وقد وقع في القراءات المشهورة البناء على الفتح في الجميع والرفع مع التنوين وفتح البعض ورفع البعض وذلك في مثل قوله تعالى " لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة " ومثل فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج ووقع في رواية عمر بن عبد الله عند النسائي " ولا برد " بدل " ولا قر " زاد في رواية الهيثم " ولا خامة " بالخاء المعجمة أي لا تقل عنده ، تصف زوجها بذلك وأنه لين الجانب خفيف الوطأة على الصاحب ، ويحتمل أن يكون ذلك من بقية صفة الليل ، وفي رواية الزبير بن بكار " والغيث غيث غمامة " قال أبو عبيد : أرادت أن لا شر فيه يخاف ، وقال ابن الأنباري : أرادت بقولها : " ولا مخافة " أي أن أهل تهامة لا يخافون لتحصنهم بجبالها ، أو أرادت وصف زوجها بأنه حامي الذمار مانع لداره وجاره ولا مخافة عند من يأوي عليه ، ثم وصفته بالجود . وقال غيره : قد ضربوا المثل بليل تهامة في الطيب لأنها بلاد حارة في غالب الزمان ، وليس فيها رياح باردة ، فإذا كان الليل كان وهج الحر ساكنا فيطيب الليل لأهلها بالنسبة لما كانوا فيه من أذى حر النهار ، فوصفت زوجها بجميل العشرة واعتدال الحال وسلامة الباطن فكأنها قالت : لا أذى عنده ولا مكروه ، وأنا آمنة منه فلا أخاف من شره ، ولا ملل عنده فيسأم من عشرتي ، أو ليس بسيئ الخلق فأسأم من عشرته ، فأنا لذيذة العيش عنده كلذة أهل تهامة بليلهم المعتدل .

قوله ( قالت الخامسة : زوجي إن دخل فهد ، وإن خرج أسد . ولا يسأل عما عهد قال أبو عبيد : فهذه بفتح الفاء وكسر الهاء مشتق من الفهد ، وصفته بالغفلة عند دخول البيت على وجه المدح له . وقال ابن حبيب : شبهته في لينه وغفلته بالفهد ، لأنه يوصف بالحياء وقلة الشر وكثرة النوم . وقوله أسد بفتح الألف وكسر السين مشتق من الأسد أي يصير بين الناس مثل الأسد . وقال ابن السكيت : تصفه بالنشاط في الغزو ، وقال ابن أبي أويس : معناه إن دخل البيت وثب علي وثوب الفهد ، وإن خرج كان في الإقدام مثل الأسد ، فعلى هذا [ ص: 171 ] يحتمل قوله وثب على المدح والذم ، فالأول تشير إلى كثرة جماعه لها إذا دخل فينطوي تحت ذلك تمدحها بأنها محبوبة لديه بحيث لا يصبر عنها إذا رآها ، والذم إما من جهة أنه غليظ الطبع ليست عنده مداعبة ولا ملاعبة قبل المواقعة ، بل يثب وثوبا كالوحش ، أو من جهة أنه كان سيئ الخلق يبطش بها ويضربها ، وإذا خرج على الناس كان أمره أشد في الجرأة والإقدام والمهابة كالأسد . قال عياض : فيه مطابقة بين خرج ودخل لفظية ، وبين فهد وأسد معنوية ، ويسمى أيضا المقابلة . وقولها : " ولا يسأل عما عهد " يحتمل المدح والذم أيضا ، فالمدح بمعنى أنه شديد الكرم كثير التغاضي لا يتفقد ما ذهب من ماله ، وإذا جاء بشيء لبيته لا يسأل عنه بعد ذلك ، أو لا يلتفت إلى ما يرى في البيت من المعايب ، بل يسامح ويغضي . ويحتمل الذم بمعنى أنه غير مبال بحالها حتى لو عرف أنها مريضة أو معوزة وغاب ثم جاء لا يسأل عن شيء من ذلك ولا يتفقد حال أهله ولا بيته ، بل إن عرضت له بشيء من ذلك وثب عليها بالبطش والضرب ، وأكثر الشراح شرحوه على المدح ، فالتمثيل بالفهد من جهة كثرة التكرم أو الوثوب ، وبالأسد من جهة الشجاعة ، وبعدم السؤال من جهة المسامحة .

وقال عياض : حمله الأكثر على الاشتقاق من خلق الفهد إما من جهة قوة وثوبه وإما من كثرة نومه ، ولهذا ضربوا المثل به فقالوا : أنوم من فهد ، قال : ويحتمل أن يكون من جهة كثرة كسبه لأنهم قالوا في المثل أيضا : أكسب من فهد ، وأصله أن الفهود الهرمة تجتمع على فهد منها فتي فيتصيد عليها كل يوم حتى يشبعها ، فكأنها قالت : إذا دخل المنزل دخل معه بالكسب لأهله كما يجيء الفهد لمن يلوذ به من الفهود الهرمة . ثم لما كان في وصفها له بخلق الفهد ما قد يحتمل الذم من جهة كثرة النوم رفعت اللبس بوصفها له بخلق الأسد ، فأفصحت أن الأول سجية كرم ونزاهة شمائل ومسامحة في العشرة ، لا سجية جبن وخور في الطبع . قال عياض : وقد قلب الوصف بعض الرواة يعني كما وقع في رواية الزبير بن بكار فقال : إذا دخل أسد وإذا خرج فهد ، فإن كان محفوظا فمعناه أنه إذا خرج إلى مجلسه كان على غاية الرزانة والوقار وحسن السمت ، أو على الغاية من تحصيل الكسب ، وإذا دخل منزله كان متفضلا مواسيا لأن الأسد يوصف بأنه إذا افترس أكل من فريسته بعضا وترك الباقي لمن حوله من الوحوش ولم يهاوشهم عليها ، وزاد في رواية الزبير بن بكار في آخره ولا يرفع اليوم لغد يعني لا يدخل نما حصل عنده اليوم من أجل الغد ، فكنت بذلك عن غاية جوده ، ويحتمل أن يكون المراد أنه يأخذ بالحزم في جميع أموره فلا يؤخر ما يجب عمله اليوم إلى غده .

قوله ( قالت السادسة : زوجي إن أكل لف ، وإن شرب اشتف ، وإن اضطجع التف ، ولا يولج الكف ليعلم البث في رواية عمر بن عبد الله عند النسائي " إذا أكل اقتف " وفيه " وإذا نام " بدل " اضطجع " وزاد " وإذا ذبح اغتث " أي تحرى الغث وهو الهزيل كما تقدم في شرح كلام الأولى . وفي رواية للطبراني " ولا يدخل " بدل " يولج " و " إذا رقد " بدل " اضطجع " وفي رواية الترمذي و الطبراني " فيعلم " بالفاء بدل اللام في رواية غيره ، والمراد باللف الإكثار منه واستقصاؤه حتى لا يترك منه شيئا وقال أبو عبيد : الإكثار مع التخليط ، يقال : لف الكتيبة بالأخرى إذا خلطها في الحرب ، ومنه اللفيف من الناس ، فأرادت أنه يخلط صنوف الطعام من نهمته وشرهه ثم لا يبقي منه شيئا . وحكى عياض رواية من رواه " رف " بالراء بدل اللام قال : وهي بمعناها ، وبرواية من رواه " اقتف " بالقاف قال : ومعناه التجميع ، قال الخليل : قفاف كل شيء جماعه واستيعابه ، ومنه سميت القفة لجمعها ما وضع فيها ، والاشتفاف في الشرب استقصاؤه مأخوذ من الشفافة بالضم والتخفيف وهي البقية تبقى في الإناء ، فإذا شربها الذي شرب الإناء قيل : اشتفها . ومنهم من رواها بالمهملة وهي [ ص: 172 ] بمعناها . وقوله " التف " أي رقد ناحية وتلفف بكسائه وحده وانقبض عن أهله إعراضا ، فهي كئيبة حزينة لذلك ، ولذلك قالت " ولا يولج الكف ليعلم البث " أي لا يمد يده ليعلم ما هـي عليه من الحزن فيزيله . ويحتمل أن تكون أرادت أنه ينام نوم العاجز الفشل الكسل ، والمراد بالبث الحزن ويقال شدة الحزن ، ويطلق البث أيضا على الشكوى وعلى المرض وعلى الأمر الذي لا يصبر عليه ، فأرادت أنه لا يسأل عن الأمر الذي يقع اهتمامها به ، فوصفته بقلة الشفقة عليها وأنه لو رآها عليلة لم يدخل يده في ثوبها ليتفقد خبرها كعادة الأجانب فضلا عن الأزواج ، أو هو كناية عن ترك الملاعبة أو عن ترك الجماع كما سيأتي .

وقد اختلفوا في هذا فقال أبو عبيد : كان في جسدها عيب فكان لا يدخل يده في ثوبها ليلمس ذلك العيب لئلا يشق عليها ، فمدحته بذلك . وقد تعقبه كل من جاء بعده إلا النادر ، وقالوا : إنما شكت منه وذمته واستقصرت حظها منه ، ودل على ذلك قولها قبل " وإذا اضطجع التف " كأنها قالت إنه يتجنبها ولا يدنيها منه ولا يدخل يديه في جنبها فيلمسها ولا يباشرها ولا يكون منه ما يكون من الرجال فيعلم بذلك محبتها له وحزنها لقلة حظها منه ، وقد جمعت في وصفها له بين اللؤم والبخل والهمة والمهانة وسوء العشرة مع أهله ، فإن العرب تذم بكثرة الأكل والشرب وتتمدح بقلتهما وبكثرة الجماع لدلالتها على حصة الذكورية والفحولية . وانتصر ابن الأنباري لأبي عبيد فقال : لا مانع من أن تجمع المرأة بين مثالب زوجها ومناقبه ، لأنهن كن تعاهدن أن لا يكتمن من صفاتهم شيئا ، فمنهن من وصفت زوجها بالخير في جميع أموره ، ومنهن من وصفته بضد ذلك ، ومنهن من جمعت .

وارتضى القرطبي هذا الانتصار واستدل عياض للجمهور بما وقع في رواية سعيد بن سلمة عن أبي الحسام أن عروة ذكر هذه في الخمس اللاتي يشكون أزواجهن ، فإن ذكر في روايته الثلاث المذكورات هنا أولا على الولاء ثم السابعة المذكورة عقب هذا ثم السادسة هذه فهي خامسة عنده والسابعة رابعة ، قال : ويؤيد أيضا قول الجمهور كثرة استعمال العرب لهذه الكناية عن ترك الجماع والملاعبة ، وقد سبق في فضائل القرآن في قصة عمرو بن العاص مع زوج ابنه عبد الله بن عمرو حيث سألها عن حالها مع زوجها فقالت " هو كخير الرجال من رجل لم يفتش لنا كنفا " وسبق أيضا من حديث الإفك قول صفوان بن المعطل ما كشفت كنف أنثى قط ، فعبر عن الاشتغال بالنساء بكشف الكنف وهو الغطاء ، ويحتمل أن يكون معنى قولها " ولا يولج الكف " كناية عن ترك تفقده أمورها وما تهتم به من مصالحها ، وهو كقولهم : لم يدخل يده في الأمر أي لم يشتغل به ولم يتفقده ، وهذا الذي ذكره احتمالا جزم بمعناه ابن أبي أويس فإنه قال : معناه لا ينظر في أمر أهله ولا يبالي أن يجوعوا . وقال أحمد بن عبيد بن ناصح : معناه لا يتفقد أموري ليعلم ما أكرهه فيزيله ، يقال : ما أدخل يده في الأمر أي لم يتفقده .

قوله ( قالت السابعة : زوجي غياياء أو عياياء كذا في الصحيحين بفتح المعجمة بعدها تحتانية خفيفة ثم أخرى بعد الألف الأولى والتي بعدها بمهملة ، وهو شك من راوي الخبر عيسى بن يونس ، وقد صرح بذلك أبو يعلى في روايته عن أحمد بن خباب عنه . ووقع في رواية عمر بن عبد الله عند النسائي " غياياء " بمعجمة بغير شك ، والغياياء الطباقاء الأحمق الذي ينطبق عليه أمره ، وقال أبو عبيد : العياياء بالمهملة الذي لا يضرب ولا يلقح من الإبل وبالمعجمة ليس بشيء ، والطباقاء الأحمق الفدم : وقال ابن فارس : الطباقاء الذي لا يحسن الضراب ، فعلى هذا يكون تأكيدا لاختلاف اللفظ كقولهم بعدا وسحقا . وقال الداودي قوله " غياياء " بالمعجمة مأخوذ من الغي بفتح المعجمة ، وبالمهملة مأخوذ من العي بكسر المهملة . وقال أبو عبيد : العياياء بالمهملة العي الذي تعييه مباضعة النساء ، وأراه مبالغة من العي في ذلك . وقال ابن السكيت : هو العيي الذي لا [ ص: 173 ] يهتدي . وقال عياض وغيره : الغياياء بالمعجمة يحتمل أن يكون مشتقا من الغياية وهو كل شيء أظل الشخص فوق رأسه ، فكأنه مغطى عليه من جهله وهذا الذي ذكره احتمالا جزم به الزمخشري في الفائق . وقال النووي : قال عياض وغيره : غياياء بالمعجمة صحيح ، وهو مأخوذ من الغاية وهي الظلمة ، وكل ما أظل الشخص ، ومعناه لا يهتدي إلى مسلك . أو أنها وصفته بثقل الروح ، وأنه كالظل المتكاثف الظلمة الذي لا إشراق فيه ، أو أنها أرادت أنه غطيت عليه أموره . أو يكون غياياء من الغي وهو الانهماك في الشر ، أو من الغي الذي هو الخيبة . قال تعالى فسوف يلقون غيا وقال ابن الأعرابي : الطباقاء المطبق عليه حمقا . وقال ابن دريد : الذي تنطبق عليه أموره . وعن الجاحظ : الثقيل الصدر عند الجماع ينطبق صدره على صدر المرأة فيرتفع سفله عنها ، وقد ذمت امرأة امرأ القيس فقالت له : ثقيل الصدر ، خفيف العجز ، سريع الإراقة ، بطيء الإفاقة .

قال عياض : ولا منافاة بين وصفها له بالعجز عند الجماع وبين وصفها بثقيل الصدر فيه لاحتمال تنزيله على حالتين كل منهما مذموم ، أو يكون إطباق صدره من جملة عيبه وعجزه وتعاطيه ما لا قدرة له عليه ، لكن كل ذلك يرد على من فسر عياياء بأنه العنين . وقولها " كل داء له داء " أي كل شيء تفرق في الناس من المعايب موجود فيه وقال الزمخشري : يحتمل أن يكون قولها " له داء " خبرا لـ كل ، أي أن كل داء تفرق في الناس فهو فيه . ويحتمل أن يكون " له " صفة لداء و " داء " خبرا لـ كل ، أي كل داء في غاية التناهي ، كما يقال : إن زيدا لزيد ، وإن هذا الفرس لفرس . قال عياض : وفيه من لطيف الوحي والإشارة لأنه انطوى تحت هذه الكلمة كلام كثير . وقولها : " شجك " بمعجمة أوله وجيم ثقيلة أي جرحك في رأسك ، وجراحات الرأس تسمى شجاجا وقولها : أو فلك بفاء ثم لام ثقيلة أي جرح جسدك ، ومنه قول الشاعر :

بهن فلول

أي ثلم جمع ثلمة ، ويحتمل أن يكون المراد نزع منك كل ما عندك أو كسرك بسلاطة لسانه وشدة خصومته . زاد ابن السكيت في روايته " أو بجك " بموحدة ثم جيم ، أي طعنك في جراحتك فشقها ، والبج شق القرحة ، وقيل : هو الطعنة . وقولها " أو جمع كلا لك " وقع في رواية الزبير " إن حدثته سبك ، وإن مازحته فلك ، وإلا جمع كلا لك " وهي توضح أن " أو " في رواية الأصيلي للتقسيم لا للتخيير . وقال الزمخشري : يحتمل أن تكون أرادت أنه ضروب للنساء ، فإذا ضرب إما أن يكسر عظما أو يشج رأسا أو يجمعهما . قال : ويحتمل أن يريد بالفل الطرد والإبعاد ، وبالشج الكسر عند الضرب وإن كان الشج إنما يستعمل في جراحة الرأس . قال عياض : وصفته بالحمق ، والتناهي في سوء العشرة ، وجمع النقائص بأن يعجز عن قضاء وطرها مع الأذى ، فإذا حدثته سبها ، وإذا مازحته شجها ، إذا أغضبته كسر عضوا من أعضائها أو شق جلدها أو أغار على مالها أو جمع كل ذلك من الضرب والجرح وكسر العضو وموجع الكلام وأخذ المال .

قوله ( قالت الثامنة : زوجي المس مس أرنب ، والريح ريح زرنب زاد الزبير في روايته " وأنا أغلبه والناس يغلب " وكذا في رواية عقبة عند النسائي ، وفي رواية عمر عنده ، وكذا للطبراني لكن بلفظ " ونغلبه " بنون الجمع ، والأرنب دويبة لينة المس ناعمة الوبر جدا ، والزرنب بوزن الأرنب لكن أوله زاي وهو نبت طيب الريح ، وقيل : هو شجرة عظيمة بالشام بجبل لبنان لا تثمر لها ورق بين الخضرة والصفرة ، كذا ذكره عياض ، واستنكره ابن البيطار وغيره من أصحاب المفردات وقيل : هو حشيشة دقيقة طيبة الرائحة وليست ببلاد العرب ، وإن كانوا ذكروها ، قال الشاعر :

يا بأبي أنت وفوك الأشنب     كأنما ذر عليه الزرنب

[ ص: 174 ] وقيل : هو الزعفران ، وليس بشيء . واللام في المس والريح نائبة عن الضمير أي مسه وريحه . أو فيهما حذف تقديره الريح منه والمس منه ، كقولهم : السمن منوان بدرهم . وصفته بأنه لين الجسد ناعمه . ويحتمل أن تكون كنت بذلك عن حسن خلقه ولين عريكته بأنه طيب العرق لكثرة نظافته واستعماله الطيب تظرفا ، ويحتمل أن تكون كنت بذلك عن طيب حديثه أو طيب الثناء عليه لجميل معاشرته .

وأما قولها " وأنا أغلبه والناس يغلب " فوصفته مع جميل عشرته لها وصبره عليها بالشجاعة وهو كما قال معاوية : " يغلبن الكرام ويغلبهن اللئام " قال عياض : هذا من التشبيه بغير أداة ، وفيه حسن المناسبة والموازنة والتسجيع . وأما قولها : " والناس يغلب " ففيه نوع من البديع يسمى التتميم ، لأنها لو اقتصرت على قولها : وأنا أغلبه لظن أنه جبان ضعيف ، فلما قالت " والناس يغلب " دل على أن غلبها إياه إنما هـو من كرم سجاياه فتممت بهذه الكلمة البالغة في حسن أوصافه .

قوله ( قالت التاسعة : زوجي رفيع العماد ، طويل النجاد ، عظيم الرماد ، قريب البيت من الناد زاد الزبير بن بكار في روايته : لا يشبع ليلة يضاف ولا ينام ليلة يخاف وصفته بطول البيت وعلوه فإن بيوت الأشراف كذلك يعلونها ويضربونها في المواضع المرتفعة ليقصدهم الطارقون والوافدون ، فطول بيوتهم إما لزيادة شرفهم أو لطول قاماتهم ، وبيوت غيرهم قصار ، وقد لهج الشعراء بمدح الأول وذم الثاني كقوله

قصار البيوت لا ترى صهواتها

وقال آخر :

إذا دخلوا بيوتهم أكبوا     على الركبات من قصر العماد

ومن لازم طول البيت أن يكون متسعا فيدل على كثرة الحاشية والغاشية ، وقيل : كنت بذلك عن شرفه ورفعة قدره . والنجاد بكسر النون وجيم خفيفة حمالة السيف ، تريد أنه طويل القامة يحتاج إلى طول نجاده ، وفي ضمن كلامها أنه صاحب سيف فأشارت إلى شجاعته ، وكانت العرب تتمادح بالطول وتذم بالقصر . وقولها " عظيم الرماد " تعني أن نار قراه للأضياف لا تطفأ لتهتدي الضيفان إليها فيصير رماد النار كثيرا لذلك ، وقولها " قريب البيت من الناد " وقفت عليها بالسكون لمؤاخاة السجع ، والنادي والندي مجلس القوم ، وصفته بالشرف في قومه ، فهم إذا تفاوضوا واشتوروا في أمر أتوا فجلسوا قريبا من بيته فاعتمدوا على رأيه وامتثلوا أمره ، أو أنه وضع بيته في وسط الناس ليسهل لقاؤه ، ويكون أقرب إلى الوارد وطالب القرى ، قال زهير :

بسط البيوت لكي يكون مظنة     من حيث توضع جفنة المسترقد

ويحتمل أن تريد أن أهل النادي إذا أتوه لم يصعب عليهم لقاؤه لكونه لا يحتجب عنهم ولا يتباعد منهم بل يقرب ويتلقاهم ويبادر لإكرامهم ، وضده من يتوارى بأطراف الحلل وأغوار المنازل ، ويبعد عن سمت الضيف لئلا يهتدوا إلى مكانه ، فإذا استبعدوا موضعه صدوا عنه ومالوا إلى غيره . ومحصل كلامها أنها وصفته بالسيادة والكرم وحسن الخلق وطيب المعاشرة . قوله ( قالت العاشرة : زوجي مالك وما مالك مالك خير من ذلك ، له إبل كثيرات المبارك قليلات المسارح ، وإذا سمعن صوت المزهر أيقن أنهن هوالك وقع في رواية عمر بن عبد الله عند النسائي والزبير " المبارح " بدل " المبارك " وفي رواية أبي يعلى " المزاهر " بصيغة الجمع ، وعند الزبير " الضيف " بدل " المزهر " . والمبارك بفتحتين جمع مبرك وهو موضع نزول الإبل ، والمسارح جمع مسرح وهو الموضع الذي تطلق لترعى فيه ، والمزهر بكسر الميم وسكون الزاي وفتح الهاء آلة من آلات اللهو ، وقيل هي العود وقيل دف مربع ، وأنكر أبو سعيد الضرير تفسير المزهر بالعود فقال : ما كانت العرب تعرف العود إلا من خالط الحضر منهم ، وإنما [ ص: 175 ] هو بضم الميم وكسر الهاء وهو الذي يوقد النار فيزهرها للضيف ، فإذا سمعت الإبل صوته ومعمعان النار عرفت أن ضيفا طرق فتيقنت الهلاك . وتعقبه عياض بأن الناس كلهم رووه بكسر الميم وفتح الهاء ، ثم قال : ومن الذي أخبره أن مالكا المذكور لم يخالط الحضر ولا سيما مع ما جاء في بعض طرق هذا الحديث أنهن كن من قرية من قرى اليمن وفي الأخرى أنهم من أهل مكة ، وقد كثر ذكر المزهر في أشعار العرب جاهليتها وإسلامها بدويها وحضريها اهــ . ويرد عليه أيضا وروده بصيغة الجمع فإنه بعينه للآلة ، ووقع في رواية يعقوب بن السكيت وابن الأنباري من الزيادة " وهو أما القوم في المهالك " فجمعت في وصفها له بين الثروة والكرم وكثرة القرى والاستعداد له والمبالغة في صفاته ، ووصفته أيضا مع ذلك بالشجاعة لأن المراد بالمهالك الحروب ، وهو لثقته بشجاعته يتقدم رفقته ، وقيل : أرادت أنه هاد في السبل الخفية عالم بالطرق في البيداء ، فالمراد على هذا بالمهالك المفاوز ، والأول أليق ، والله أعلم .

و " ما " في قولها : " وما مالك " استفهامية يقال للتعظيم والتعجب ، والمعنى وأي شيء هو مالك ما أعظمه وأكرمه . وتكرير الاسم أدخل في باب التعظيم . وقولها " مالك خير من ذلك " زيادة في الإعظام ، وتفسير لبعض الإبهام ، وأنه خير مما أشير إليه من ثناء وطيب ذكر ، وفوق ما اعتقد فيه من سؤدد وفخر ، وهو أجل مما أصفه لشهرة فضله . وهذا بناء على أن الإشارة بقولها : " ذلك " إلى ما تعتقده فيه من صفات المدح . ويحتمل أن يكون المراد مالك خير من كل مالك ، والتعميم يستفاد من المقام كما قيل : تمرة خير من جرادة ، أي كل تمرة خير من كل جرادة ، وهذا إشارة إلى ما في ذهن المخاطب ، أي مالك خير مما في ذهنك من مالك الأموال وهو خير مما سأصفه به ، ويحتمل أن تكون الإشارة إلى ما تقدم من الثناء على الذين قبله ، وأن مالكا أجمع من الذين قبله لخصال السيادة والفضل . ومعنى قولها : " قليلات المسارح " أنه لاستعداده للضيفان بها لا يوجه منهن إلى المسارح إلا قليلا ، ويترك سائرهن بفنائه ، فإن فاجأه ضيف وجد عنده ما يقريه به من لحومها وألبانها ، ومنه قول الشاعر :

حبسنا ولم نسرح لكي لا يلومنا     على حكمه صبرا معودة الحبس

ويحتمل أن يريد بقولها " قليلات المسارح " الإشارة إلى كثرة طروق الضيفان ، فاليوم الذي يطرقه الضيف فيه لا تسرح حتى يأخذ منها حاجته للضيفان ، واليوم الذي يطرقه فيه أحد أو يكون هو فيه غائبا تسرح كلها ، فأيام الطروق أكثر من أيام عدمه ، فهي لذلك قليلات المسارح . وبهذا يندفع اعتراض تسرح كلها : لو كانت قليلات المسارح لكانت في غاية الهزال . وقيل : المراد بكثرة المبارك أنها كثيرا ما تثار فتحلب ثم تترك فتكثر مباركها لذلك ، وقال ابن السكيت : إن المراد أن مباركها على العطايا والحمالات وأداء الحقوق وقرى الأضياف كثيرة ، وإنما يسرح منها ما فضل عن ذلك . فالحاصل أنها في الأصل كثيرة ولذلك كانت مباركها كثيرة ، ثم إذا سرحت صارت قليلة لأجل ما ذهب منها . وأما رواية من روى " عظيمات المبارك " فيحتمل أن يكون المعنى أنها من سمنها وعظم جثثها تعظم مباركها ، وقيل : المراد أنها إذا بركت كانت كثيرة لكثرة من ينضم إليها ممن يلتمس القرى ، وإذا سرحت سرحت وحدها فكانت قليلة بالنسبة لذلك . ويحتمل أن يكون المراد بقلة مسارحها قلة الأمكنة التي ترعى فيها من الأرض ، وأنها لا تمكن من الرعي إلا بقرب المنازل لئلا يشق طلبها إذا احتيج إليها . ويكون ما قرب من المنزل كثير الخصب لئلا تهزل . ووقع في رواية سعد بن سلمة عند الطبراني " أبو مالك وما أبو مالك ، ذو إبل كثيرة المسالك قليلة المبارك " قال عياض : إن لم تكن هذه الرواية وهما فالمعنى أنها كثيرة في حال رعيها إذا ذهبت ، قليلة في حال مباركها إذا قامت ، لكثرة ما ينحر منها وما يسلك منها فيه من مسالك الجود من رفد ومعونة وحمل وحمالة ونحو ذلك . وأما قولها " أيقن أنهن هوالك " فالمعنى أنه كثرت عادته بنحر الإبل لقرى الضيفان ، ومن [ ص: 176 ] عادته أن يسقيهم ويلهيهم أو يتلقاهم بالغناء مبالغة في الفرح بهم صارت الإبل إذا سمعت صوت الغناء عرفت أنها تنحر ، ويحتمل أنها لم ترد فهم الإبل لهلاكها ، ولكن لما كان ذلك يعرفه من يعقل أضيف إلى الإبل ، والأول أولى .

قوله ( قالت الحادية عشر قال النووي : وفي بعض النسخ الحادي عشرة وفي بعضها الحادية عشر ، والصحيح الأول ، وفي رواية الزبير وهي أم زرع بنت أكيمل بن ساعدة .

قوله ( زوجي أبو زرع في رواية النسائي " نكحت أبا زرع " .

قوله ( فما أبو زرع في رواية أبي ذر " وما أبو زرع " وهو المحفوظ للأكثر ، زاد الطبراني في رواية " صاحب نعم وزرع " .

قوله ( أناس بفتح الهمزة وتخفيف النون وبعد الألف مهملة أي حرك .

قوله ( من حلي بضم المهملة وكسر اللام ( أذني بالتثنية ، والمراد أنه ملأ أذنيها بما جرت عادة النساء من التحلي به من قرط وشنف من ذهب ولؤلؤ ونحو ذلك . وقال ابن السكيت : أناس أي أثقل حتى تدلى واضطرب . والنوس حركة كل شيء متدل ، وقد تقدم حديث ابن عمر أنه ( دخل على حفصة ونواستها تنطف مع شرح المراد به في المغازي . ووقع في رواية ابن السكيت " أذني وفرعي " بالتثنية ، قال عياض : يحتمل أن تريد بالفرعين اليدين لأنهما كالفرعين من الجسد ، تعني أنه حلى أذنيها ومعصميها ، أو أرادت العنق واليدين ، وأقامت اليدين مقام فرع واحد ، أو أرادت اليدين والرجلين كذلك ، أو الغديرتين وقرني الرأس ، فقد جرت عادة المترفات بتنظيم غدائرهن وتحلية نواصيهن وقرونهن . ووقع في رواية ابن أبي أويس " فرعي " بالإفراد ، أي حلى رأسي فصار يتدلى من كثرته وثقله ، والعرب تسمي شعر الرأس فرعا ، قال امرؤ القيس : وفرع يغشى المتن أسود فاحم . قوله ( وملأ من شحم عضدي قال أبو عبيد : لم ترد العضد وحده وإنما أرادت الجسد كله ، لأن العضد إذا سمنت سمن سائر الجسد ، وخصمت العضد لأنه أقرب ما يلي بصر الإنسان من جسده .

قوله ( وبجحني بموحدة ثم جيم خفيفة ، وفي رواية النسائي ثقيلة ثم مهملة .

قوله ( فبجحت بسكون المثناة ، وفي رواية لمسلم " فتبجحت إلي بالتشديد نفسي " هذا من المشهور في الروايات ، وفي رواية النسائي " وبجح نفسي فبجحت إلي " وفي أخرى له و لأبي عبيد " فبجحت " بضم التاء وإلى بالتخفيف ، والمعنى أنه فرحها ففرحت . وقال ابن الأنباري : المعنى عظمني فعظمت إلي نفسي ، وقال ابن السكيت : المعنى فخرني ففخرت . وقال ابن أبي أويس معناه وسع علي وترفني .

قوله ( وجدني في أهل غنيمة بالمعجمة والنون مصغر .

قوله ( بشق بكسر المعجمة ، قال الخطابي : هكذا الرواية ، والصواب بفتح الشين وهو موضع بعينه ، وكذا قال أبو عبيد ، وصوبه الهروي ، وقال ابن الأنباري : هو بالفتح والكسر موضع وقال ابن أبي أويس و ابن حبيب هو بالكسر والمراد شق جبل كانوا فيه لقلتهم وسعهم سكنى شق الجبل أي ناحيته ، وعلى رواية الفتح فالمراد شق في الجبل كالغار ونحوه ، وقال ابن قتيبة وصوبه نفطويه : المعنى بالشق بالكسر أنهم كانوا في شظف من العيش ، يقال : هو بشق من العيش أي بشظف وجهد ، ومنه لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس وبهذا جزم الزمخشري وضعيف غيره .

[ ص: 177 ] قوله ( فجعلني في أهل صهيل أي خيل ( وأطيط أي إبل ، زاد في رواية للنسائي وجامل وهو جمع جمل ، والمراد اسم فاعل لمالك الجمال كقوله " لابن وتامر " وأصل الأطيط صوت أعواد المحامل والرجال على الجمال ، فأرادت أنهم أصحاب محامل ، تشير بذلك إلى رفاهيتهم ويطلق الأطيط على كل صوت نشأ عن ضغط كما في حديث باب الجنة " ليتأتين عليه زمان وله أطيط " ويقال : المراد بالأطيط صوت الجوف من الجوع .

قوله ( ودائس اسم فاعل من الدوس ، وفي رواية للنسائي " ودياس " قال ابن السكيت الدائس الذي يدوس الطعام ، وقال أبو عبيد : تأوله بعضهم من دياس الطعام وهو دراسه ، وأهل العراق يقولون : الدياس وأهل الشام الدراس ، فكأنها أرادت أنهم أصحاب زرع ، وقال أبو سعيد : المراد أن عندهم طعاما متنقى وهم في دياس شيء آخر فخيرهم متصل .

قوله ( ومنق بكسر النون وتشديد القاف ، قال أبو عبيد : لا أدري معناه ، وأظنه بالفتح من تنقي الطعام . وقال ابن أبي أويس : المنق بالكسر نقيق أصوات المواشي ، تصف كثرة ماله . وقال أبو سعد الضرير : هو بالكسر من نقيقة الدجاج يقال أنق الرجل إذا كان له دجاج ، قال القرطبي : لا يقال لشيء من أصوات المواشي نق ، وإنما يقال : نق الضفدع والعقرب والدجاج ، ويقال في الهر بقلة ، وأما قول أبي سعيد وإنما أراد ما فهمه الزمخشري فقال : كأنها أرادت من يطرد الدجاج عن الحب فينق ، وحكى الهروي أن المنق بالفتح الغربال ، وعن بعض المغاربة : يجوز أن يكون بسكون النون وتخفيف القاف ، أي له أنعام ذات نقى أي سمان . والحاصل أنها ذكرت أنه نقلها من شظف عيش أهلها إلى الثروة الواسعة من الخيل والإبل والزرع وغير ذلك ، ومن أمثالهم " إن كنت كاذبا فحلبت قاعدا " أي صار مالك غنما يحلبها القاعد ، وبالضد أهل الإبل والخيل .

قوله ( فعنده أقول في رواية النسائي " أنطق " وفي رواية الزبير " أتكلم " .

قوله ( فلا أقبح أي فلا يقال لي قبحك الله أو لا يقبح قولي ولا يرد علي ، أي لكثرة إكرامه لها وتدللها عليه لا يرد لها ولا يقبح عليها ما تأتي به . ووقع في رواية الزبير " فبينما أنا عنده أنام إلخ " .

قوله ( وأرقد فأتصبح أي أنام الصبحة وهي نوم أول النهار فلا أوقظ ، إشارة إلى أن لها من يكفيها مؤنة بيتها ومهنة أهلها .

قوله ( وأشرب فأتقنح كذا وقع بالقاف والنون الثقيلة ثم المهملة ، قال عياض : لم يقع في الصحيحين إلا بالنون ، ورواه الأكثر في غيرهما بالميم قلت : وسيأتي بيان ذلك في آخر الكلام على هذا الحديث حيث نقل البخاري أن بعضهم رواه بالميم قال أبو عبيد : أتقمح أي أروى حتى لا أحب الشرب ، مأخوذ من الناقة القامح وهي التي تريد الخوض فلا تشرب وترفع رأسها ريا وأما بالنون فلا أعرفه انتهى . وأثبت بعضهم أن معنى أتقنح بمعنى أتقمح لأن النون والميم يتعاقبان مثل امتقع لونه وانتقع ، وحكى شمر عن أبي زيد : التقنح الشرب بعد ري ، وقال ابن حبيب الري بعد الري ، وقال أبو سعيد : هو الشرب على مهل لكثرة اللبن لأنها كانت آمنة من قلته فلا تبادر إليه مخافة عجزه . وقال أبو حنيفة الدينوري : قنحت من الشراب تكارهت عليه بعد الري ، وحكى القالي : قنحت الإبل تقنح بفتح النون في الماضي والمستقبل قنحا بسكون النون وبفتحها أيضا إذا تكارهت الشرب بعد الري . وقال أبو زيد و ابن السكيت : أكثر كلامهم تقنحت تقنحا بالتشديد وقال ابن السكيت : معنى قولها [ ص: 178 ] " فأتقنح " أي لا يقطع علي شربي ، فتوارد هؤلاء كلهم على أن المعنى أنها تشرب حتى لا تجد مساغا ، أو أنها لا يقلل مشروبها ولا يقطع عليها حتى تتم شهوتها منه ، وأغرب أبو عبيد فقال : لا أراها قالت ذلك إلا لعزة الماء عندهم ، أي فلذلك فخرجت بالري من الماء ، وتعقبوه بأن السياق ليس فيه التقييد بالماء فيحتمل أن تريد أنواع الأشربة من لبن وخمر ونبيذ وسويق وغير ذلك ، ووقع في رواية الإسماعيلي عن البغوي " فانفتح " بالفاء والمثناة ، وقال عياض : إن لم يكن وهما فمعناه التكبر والزهو ، يقال في فلان فتحة إذا تاه وتكبر ، ويكون ذلك تحصل لها من نشأة الشراب ، أو يكون راجعا إلى جميع ما تقدم ، أشارت به إلى عزتها عنده وكثرة الخير لديها فهي تزهو لذلك ، أو معنى أتقنح كناية عن سمن جسمها . ووقع في رواية الهيثم " وآكل فأتمنح " أي أطعم غيري يقال : منحه يمنحه إذا أعطاه ، وأتت بالألفاظ كلها بوزن أتفعل إشارة إلى تكرار الفعل وملازمته ومطالبة نفسها أو غيرها بذلك ، فإن ثبتت هذه الرواية وإلا ففي الاقتصار على ذكر الشرب إشارة إلى أن المراد به اللبن هو الذي يقوم مقام الشراب والطعام .

قوله ( أم أبي زرع فما أم أبي زرع ، عكومها رداح ، وبيتها فساح في رواية أبي عبيد " فياح " بتحتانية خفيفة من فاح يفيح إذا اتسع ، ووقع في رواية أبي العباس العذري فيما حكاه عياض " أم زرع وما أم زرع " بحذف أداة الكنية قال عياض : وعلى هذا فتكون كنت بذلك عن نفسها . قلت : والأول هو الذي تضافرت به الروايات وهو المعتمد ، وأما قوله " فما أم أبي زرع " فتقدم بيانه في قول العاشرة ، والعكوم بضم المهملة جمع عكم بكسرها وسكون الكاف هي الأعدال والأحمال التي تجمع فيها الأمتعة ، وقيل هي نمط تجعل المرأة فيها ذخيرتها حكاه الزمخشري ، ورداح بكسر الراء وبفتحها وآخره مهملة أي عظام كثيرة الحشو قاله أبو عبيد وقال الهروي : معناه ثقيلة ، يقال للكتيبة الكبيرة رداح إذا كانت بطيئة السير لكثرة من فيها ، ويقال للمرأة إذا كانت عظيمة الكفل ثقيلة الورك رداح ، وقال ابن حبيب : إنما هـو رداح أي ملأى ، قال عياض : رأيته مضبوطا وذكر أنه سمعه من ابن أبي أويس كذلك ، قال : وليس كما قاله شراح العراقيين ، قال عياض : وما أدري ما أنكره ابن حبيب مع أنه فسره بما فسره به أبو عبيد مع مساعدة سائر الرواة له ، قال : ويحتمل أن يكون مراده أن يضبطها بكسر الراء لا بفتحها جمع رادح كقائم وقيام ، ويصح أن يكون رداح خبر عكوم فيخبر عن الجمع بالجمع ، ويصح أن يكون خبر المبتدأ محذوفا أي عكومها كلها رداح على أن : رداح واحد جمعه ردح بضمتين ، وقد سمع الخبر عن الجمع بالواحدة مثل أدرع دلاص فيحتمل أن يكون هذا منه ومنه أولياؤهم الطاغوت أشار إلى ذلك عياض قال : ويحتمل أن يكون مصدرا مثل طلاق وكمال ، أو على حذف المضاف أي عكومها ذات رداح قال الزمخشري : لو جاءت الرواية في عكوم بفتح العين لكان الوجه على أن يكون المراد بها الجفنة التي لا تزول عن مكانها إما لعظمها وإما لأن القرى متصل دائم من قولهم ورد ولم يعكم أي لم يقف ، أو التي كثر طعامها وتراكم كما يقال : اعتكم الشيء وارتكم قال : والرداح حينئذ تكون واقعة في مصابها من كون الجفنة موصوفة بها ، وفساح بفتح الفاء والمهملة أي واسع يقال : بيت فسيح وفساح وفياح بمعناه ، ومنهم من شدد الياء مبالغة والمعنى أنها وصفت والدة زوجها بأنها كثيرة الآلات والأثاث والقماش واسعة المال كبيرة البيت ، إما حقيقة فيدل ذلك على عظم الثروة ، وإما كناية عن كثرة الخير ورغد العيش والبر بمن ينزل بهم لأنهم يقولون فلان رحب المنزل أي يكرم من ينزل عليه ، وأشارت بوصف والدة زوجها إلى أن زوجها كثير البر لأمه وأنه لم يطعن في السن لأن ذلك من الغالب ممن يكون له والدة توصف بمثل ذلك .

[ ص: 179 ] قوله ( ابن أبي زرع فما ابن أبي زرع ، مضجعه كمسل شطبة ويشبعه ذراع الجفرة زاد في رواية لابن الأنباري " وترويه فيقة اليعرة ، ويميس في حلق النترة " فأما مسل الشطبة فقال أبو عبيد : أصل الشطبة ما شطب من الجريد وهو سعفة فيشق منه قضبان رقاق تنسج منه الحصر ، وقال ابن السكيت : الشطبة من سدى الحصير ، وقال ابن حبيب : هي العود المحدد كالمسلة ، وقال ابن الأعرابي أرادت بمسل الشطبة سيفا سل من غمده فمضجعه الذي ينام فيه في الصغر كقدر مسل شطبة واحدة ، أما على ما قال الأولون فعلى قدر ما يسل من الحصير فيبقى مكانه فارغا ، وأما على قول ابن الأعرابي فيكون كغمد السيف . وقال أبو سعيد الضرير : شبهته بسيف مسلول ذي شطب ، وسيوف اليمن كلها ذات شطب ، وقد شبهت العرب الرجال بالسيوف إما لخشونة الجانب وشدة المهابة ، وإما لجمال الرونق وكمال اللألاء ، وإما لكمال صورتها في اعتدالها واستوائها . وقال الزمخشري : المسل مصدر بمعنى السل يقام مقام المسلول ، والمعنى كمسلول الشطبة .

وأما الجفرة بفتح الجيم وسكون الفاء فهي الأنثى من ولد المعز إذا كان ابن أربعة أشهر وفصل عن أمه وأخذ في الرعي قاله أبو عبيد وغيره ، وقال ابن الأنباري و ابن دريد : وقال لولد الضأن أيضا إذا كان ثنيا . وقال الخليل : الجفر من أولاد الشاء ما استجفر أي صار له بطن ، والفيقة الزمان الذي بين الحلبتين ، واليعرة بفتح التحتانية وسكون المهملة بعدها راء : العناق ، ويميس بالمهملة أي يتبختر ، والمراد بحلق النترة وهي بالنون المفتوحة ثم المثناة الساكنة الدرع اللطيفة أو القصيرة ، وقيل : اللينة الملمس وقيل : الواسعة ، والحاصل أنها وصفته بهيف القد وأنه ليس ببطين ولا جاف قليل الأكل والشرب ملازم لآلة الحرب يختال في موضع القتال ، وكل ذلك مما تتمادح به العرب . ويظهر لي أنها وصفته بأنه خفيف الوطأة عليها لأن زوج الأب غالبا يستثقل ولده من غيرها فكان هذا يخفف عنها ، فإذا دخل بيتها فاتفق أنه قال فيه مثلا لم يضطجع إلا قدر ما يسل السيف من غمده ثم يستيقظ مبالغة في التخفيف عنها ، وكذا قولها : يشبعه ذراع الجفرة أنه لا يحتاج ما عندها بالأكل فضلا عن الأخذ ، بل لو طعم عندها لاقتنع باليسير الذي يسد الرمق من المأكول والمشروب .

قوله ( بنت أبي زرع فما بنت أبي زرع في رواية مسلم " وما " بالواو بدل الفاء . قوله ( طوع أبيها وطوع أمها أي أنها بارة بهما ، زاد في رواية الزبير " وزين أهلها ونسائها " أي يتجملون بها . وفي رواية للنسائي " زين أمها وزين أبيها " بدل " طوع " في الموضعين . وفي رواية للطبراني وقرة عين لأمها وأبيها ، وزين لأهلها وزاد الكاذي في روايته عن ابن السكيت " وصفر رداؤها " وزاد في رواية " قباء هضيمة الحشا ، جائلة الوشاح ، عكناء فعماء ، نجلاء دعجاء رجاء قنواء ، مؤنقة مفنقة " . قوله ( وملء كسائها كناية عن كمال شخصها ونعمة جسمها .

قوله ( وغيظ جارتها في رواية سعيد بن سلمة عند مسلم " وعقر جارتها " بفتح المهملة وسكون القاف أي دهشها أو قتلها ، وفي رواية للنسائي و الطبراني " وحير جارتها " بالمهملة ثم التحتانية من الحيرة ، وفي رواية أخرى له " وحين جارتها " بفتح المهملة وسكون التحتانية بعدها نون أي هلاكها ، وفي رواية الهيثم بن عدي " وعبر جارتها " بضم المهملة وسكون الموحدة وهو من العبرة بالفتح أي تبكي حسدا لما تراه منها ، أو بالكسر أي تعتبر بذلك . وفي رواية سعيد بن سلمة " وحبر نسائها " واختلف في ضبطه فقيل بالمهملة والموحدة من التحبير ، وقيل [ ص: 180 ] بالمعجمة والتحتانية من الخيرية ، والمراد بجارتها ضرتها أو هو على حقيقته لأن الجارات من شأنهن ذلك ، ويؤيد الأول أن في رواية حنبل " وغير جارتها " بالغين المعجمة وسكون التحتانية من الغيرة ، وسيأتي قريبا قول عمر لحفصة : " لا يغرنك أن كانت جارتك أضوأ منك " يعني عائشة ، وقولها ، " صفر " بكسر الصاد المهملة وسكون الفاء أي خال فارغ ، والمعنى أن رداءها كالفارغ الخالي لأنه لا يمس من جسمها شيئا لأن ردفها وكتفيها يمنع مسه من خلفها شيئا من جسمها ونهدها يمنع مسه شيئا من مقدمها ، وفي كلام ابن أبي أويس وغيره : ومعنى قولها : صفر رداؤها تصفها بأنها خفيفة موضع التردية وهو أعلى بدنها ، ومعنى قوله " ملء كسائها " أي ممتلئة موضع الأزرة وهو أسفل بدنها ، والصفر الشيء الفارغ ، قال عياض : والأولى أنه أراد أن امتلاء منكبيها وقيام نهديها يرفعان الرداء عن أعلى جسدها فهو لا يمسه فيصير كالفارغ منها ، بخلاف أسفلها ، ومنه قول الشاعر :

أبت الروادف والنهود لقمصها     من أن تمس بطونها وظهورها

وقولها " قباء " بفتح القاف وبتشديد الموحدة أي ضامرة البطن ، و " هضيمة الحشا " هو بمعنى الذي قبله و " جائلة الوشاح " أي يدور وشاحها لضمور بطنها ، و " عكناء " أي ذات أعكان و " فعماء " بالمهملة أي ممتلئة الجسم ، و " نجلاء " بنون وجيم أي واسعة العين ، و " دعجاء " أي شديدة سواد العين ، و " رجاء " بتشديد الجيم أي كبيرة الكفل ترتج من عظمة إن كانت الرواية بالراء ، فإن كانت بالزاي المراد في حاجبيها تقويس ، و " مؤنقة " بنون ثقيلة وقاف و " مفنقة " بوزنه أي مغذية بالعيش الناعم ، وكلها أوصاف حسان . وفي رواية ابن الأنباري " برود الظل " أي أنها حسنة العشرة كريمة الجوار " وفي الإلى " بتشديد التحتانية والإلى بكسر الهمزة أي العهد أو القرابة " كريم الخل " بكسر المعجمة أي الصاحب زوجا كان أو غيره ، وإنما ذكرت هذه الأوصاف مع أن الموصوف مؤنث لأنها ذهبت به مذهب التشبيه أي هي كرجل في هذه الأوصاف ، أو حملته على المعنى كشخص أو شيء ، ومنه قول عروة بن حرام : " وعفراء عني المعرض المتواني "

قال الزمخشري : ويحتمل أن يكون بعض الرواة نقل هذه الصفة من الابن إلى البنت ، وفي أكثر هذه الأوصاف رد على الزجاجي في إنكاره مثل قولهم : مررت برجل حسن وجهه وزعم أن سيبويه انفرد بإجازة مثل ذلك ، وهو ممتنع لأنه أضاف الشيء إلى نفسه ، قال القرطبي : أخطأ الزجاجي في مواضع في منعه وتعليله وتخطئته ودعواه الشذوذ ، وقد نقل ابن خروف أن القائلين به لا يحصى عددهم ، وكيف يخطئ من تمسك بالسماع الصحيح كما جاء في هذا الحديث الصحيح المتفق على صحته ، وكما جاء في صفة النبي صلى الله عليه وسلم " شئن أصابعه " .

" تنبيه " : سقط من رواية الزبير ذكر ابن أبي زرع ووصف بنت أبي زرع فجعل وصف ابن أبي زرع لبنت أبي زرع ، ورواية الجماعة أولى وأتم .

قوله ( جارية أبي زرع فما جارية أبي زرع في رواية الطبراني " خادم أبي زرع " وفي رواية الزبير " وليد أبي زرع " والوليد الخادم يطلق على الذكر والأنثى .

قوله ( لا تبث حديثنا تبثيثا بالموحدة ثم المثلثة ، وفي رواية بالنون بدل الموحدة وهما بمعنى : بث الحديث ونث الحديث أظهره ، ويقال بالنون في الشر خاصة كما تقدم في كلام الأولى . وقال ابن الأعرابي : النثاث المغتاب . ووقع في رواية الزبير " ولا تخرج " .

قوله ( ولا تنقث بتشديد القاف بعدها مثلثة أي تسرع فيه بالخيانة وتذهبه بالسرقة ، كذا في البخاري وضبطه عياض في مسلم بفتح أوله وسكون النون وضم القاف قال : وجاء تنقيثا مصدرا على غير الأصل وهو [ ص: 181 ] جائز كما في قوله تعالى فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتا حسنا ووقع عند مسلم في الطريق التي بعد هذه وهي رواية سعيد بن سلمة " ولا تنقث " بالتشديد كما في رواية البخاري انتهى . وضبطه الزمخشري بالفاء الثقيلة بدل القاف وقال في شرحه : النفث والتفل بمعنى ، وأرادت المبالغة في براءتها من الخيانة ، فيحتمل إن كان محفوظا أن تكون إحدى الروايتين في مسلم بالقاف كما في رواية البخاري والأخرى بالفاء . والميرة بكسر الميم وسكون التحتانية بعدها راء الزاد وأصله ما يحصله البدوي من الحضر ويحمله إلى منزله لينتفع به أهله . وقال أبو سعيد : التنقيث إخراج ما في منزل أهلها إلى غيرهم ، وقال ابن حبيب : معناه لا تفسده ، ويؤيده أن رواية الزبير " ولا تفسد " وذكر مسلم أن في رواية سعيد بن سلمة بالفاء في الموضعين ، وفي رواية أبي عبيد " ولا تنقل " وكذا للزبير عن عمه مصعب ، و لأبي عوانة " ولا تنتقل " وفي رواية عن ابن الأنباري " ولا تغث " بمعجمة ومثلثة أي تفسد ، وأصله من الغثة بالضم وهي الوسوسة ، وفي رواية النسائي " ولا تفش ميرتنا تفشيشا " بفاء ومعجمتين من الإفشاش طلب الأكل من هنا وهنا ، ويقال : فش ما على الخوان إذا أكله أجمع ، ووقع عند الخطابي " ولا تفسد ميرتنا تغشيشا " بمعجمات ، وقال : مأخوذ من غشيش الخبز إذا فسد ، تريد أنها تحسن مراعاة الطعام وتتعاهده بأن تطعم منه أولا طريا ولا تغفله فيفسد وقال القرطبي : فسره الخطابي بأنها لا تفسد الطعام المخبوز بل تتعهده بأن تطعمهم منه أولا فأولا ، وتبعه المازري ، وهذا إنما يتمشى على الرواية التي وقعت للخطابي ، وأما على رواية الصحيح " ولا تملأ " فلا يستقيم وإنما معناه أنها تتعهده بالتنظيف . والحاصل أن الرواية في الأولى كما في الأصل " ولا تنقث ميرتنا تنقيثا " وعند الخطابي " ولا تفسد ميرتنا تغشيشا " بالغين المعجمة ، واتفقتا في الثانية >[4] ( 1 على " ولا تملأ بيتنا تعشيشا " وهي بالعين المهملة ، وعلى رواية الخطابي هي أقعد بالسجع أعني تعشيشا من تنقيثا ، والله أعلم .

قوله ( ولا تملأ بيتنا تعشيشا بالمهملة ثم معجمتين ، أي أنها مصلحة للبيت مهتمة بتنظيفه وإلقاء كناسته وإبعادها منه وأنها لا تكتفي بقم كناسته وتركها في جوانبه كأنها الأعشاش ، وفي رواية الطبراني " ولا تعش " بدل " ولا تملأ " ووقع في رواية سعيد بن سلمة التي علقها البخاري بعد بالغين المعجمة بدل المهملة ، وهو من الغش ضد الخالص ، أي لا تملؤه بالخيانة بل هي ملازمة للنصيحة فيما هـي فيه ، وقال بعضهم : هو كناية عن عفة فرجها ، والمراد أنها لا تملأ البيت وسخا بأطفالها من الزنا ، وقال بعضهم : كناية عن وصفها بأنها لا تأتيهم بشر ولا تهمة . وقال الزمخشري في " تعشيشا " بالعين المهملة : يحتمل أن يكون من عششت النخلة إذا قل سعفها أي لا تملؤه اختزالا وتقليلا لما فيه . ووقع في رواية الهيثم " ولا تنجث أخبارنا تنجيثا " بنون وجيم ومثلثة أي تستخرجها ، وأصل التنجثة ما يخرج من البئر من تراب ، ويقال أيضا : بالموحدة بدل الجيم ، زاد الحارث بن أبي أسامة عن محمد بن جعفر الوركاني عن عيسى بن يونس " قالت عائشة : حتى ذكرت كلب أبي زرع " وكذا ذكره الإسماعيلي عن البغوي عن الوركاني ، وزاد الهيثم بن عيد في روايته " ضيف أبي زرع فما ضيف أبي زرع ، في شبع وري ورتع . طهاة أبي زرع فما طهاة أبي زرع لا تفتر ولا تعدى تقدح قدر وتنصب أخرى ، فتلحق الآخرة بالأولى . مال أبي زرع فما مال أبي زرع على الجمم معكوس ، وعلى العفاة محبوس " وقوله ري ورتع بفتح الراء وبالمثناة أي تنعم [ ص: 182 ] ومسرة والطهاة بضم المهملة الطباخون وقوله لا تفتر بالفاء الساكنة ثم المثناة المضمومة أي لا تسكن ولا تضعف ، وقوله ولا تعدى مهملة أي تصرف ، وتقدح بالقاف والحاء المهملة أي تفرق ، وتنصب أي ترفع على النار ، والجمم بالجيم جمع جمة هم القوم يسألون في الدية ومعكوس أي مردود ، والعفاة السائلون ، ومحبوس أي موقوف عليهم .

قوله ( قالت خرج أبو زرع في رواية النسائي " خرج من عندي " وفي رواية الحارث بن أبي أسامة " ثم خرج من عندي " .

قوله ( والأوطاب تمخض الأوطاب جمع وطب بفتح أوله وهو وعاء اللبن ، وذكر أبو سعيد أن جمعه على أوطاب على خلاف قياس العربية لأن فعلا لا يجمع على أفعال بل على فعال ، وتعقب بأنه قال الخليل : جمع الوطب وطاب وأوطاب ، وقد جمع فرد على أفراد ، فبطل الحصر الذي ادعاه ، نعم القياس في فعل أفعل في القلة وفعال أو فعول في الكثرة ، قال عياض : ورأيت في رواية حمزة عن النسائي " والأطاب " بغير واو فإن كان مضبوطا فهو على إبدال الواو همزة كما قالوا إكاف ووكاف ، قال يعقوب ابن السكيت : أرادت أنه يبكر بخروجه من منزلها غدوة وقت قيام الخدم والعبيد لأشغالهم ، وانطوى في خبرها كثرة خير داره وغزر لبنه وأن عندهم ما يكفيهم ويفضل حتى يمخضوه ويستخرجوا زبده ، يحتمل أن يكون أنها أرادت أن الوقت الذي خرج فيه كان في زمن الخصب وطيب الربيع . قلت : وكأن سبب ذكر ذلك توطئة للباعث على رؤية أبي زرع للمرأة على الحالة التي رآها عليها ، أي أنها من مخض اللبن تعبت فاستلقت تستريح ، فرآها أبو زرع على ذلك .

قوله ( فلقي امرأة معها ولدان لها كالفهدين في رواية الطبراني " فأبصر امرأة لها ابنان كالفهدين " وفي رواية ابن الأنباري " كالصقرين " وفي رواية الكاذي " كالشبلين " ووقع في رواية إسماعيل بن أبي أويس " سارين حسنين نفيسين " وفائدة وصفها لهما التنبيه على أسباب تزويج أبي زرع لها لأنهم كانوا يرغبون في أن تكون أولادهم من النساء المنجبات فلذلك حرص أبو زرع عليها لما رآها ، وفي رواية للنسائي " فإذا هـو بأم غلامين " ووصفها لهما بذلك للإشارة إلى صغر سنهما واشتداد خلقهما ، وتواردت الروايات على أنهما ابناها ، إلا ما رواه أبو معاوية عن هشام فإنه قال " فمر على جارية معها أخواها " قال عياض يتأول بأن المراد أنهما ولداها ولكنهما جعلا أخويها في حسن الصورة وكمال الخلقة ، فإن حمل على ظاهره كان أدل على صغر سنها ، ويؤيده قوله في رواية غندر " فمر بجارية شابة " كذا قال وليس لغندر في هذا الحديث رواية ، وإنما هـذه رواية الحارث بن أبي أسامة عن محمد بن جعفر وهو الوركاني ولم يدرك الحارث محمد بن جعفر غندرا . ويؤيد أنه الوركاني أن غندرا ما له رواية عن عيسى بن يونس ، وقد أخرجه الإسماعيلي عن البغوي عن محمد بن جعفر الوركاني ولكن لم يسق لفظه ، ثم إن كونهما أخويها يدل على صغر سنها فيه نظر لاحتمال أن يكونا من أبيها وولدا له بعد أن طعن في السن وهي بكر أولاده فلا تكون شابة ، ويمكن الجمع بين كونهما أخويها وولديها بأن تكون لما وضعت ولديها كانت أمها ترضع فأرضعتهما .

قوله ( يلعبان من تحت خصريها برمانتين في رواية الحارث " من تحت درعها " وفي رواية الهيثم " من تحت صدرها " قال أبو عبيد : يريد أنها ذات كفل عظيم فإذا استلقت ارتفع كفلها بها من الأرض حتى يصير تحتها فجوة تجري فيها الرمانة ، قال : وذهب بعض الناس إلى الثديين وليس هذا موضعه اهــ ، وأشار بذلك إلى ما جزم به إسماعيل بن أبي أويس ، ويؤيد قول أبي عبيد ما وقع في رواية أبي معاوية " وهي مستلقية على قفاها ومعهما رمانة [ ص: 183 ] يرميان بها من تحتها فتخرج من الجانب الآخر من عظم إليتيها " لكن رجح عياض تأويل الرمانتين بالنهدين من جهة أن سياق أبي معاوية هذا لا يشبه كلام أم زرع ، قال : فلعله من كلام بعض رواته أورده على سبيل التفسير الذي ظنه فأدرج في الخبر ، وإلا لم تجر العادة بلعب الصبيان ورميهم الرمان تحت أصلاب أمهاتهم ، وما الحامل لها على الاستلقاء حتى يصنعان ذلك ويرى الرجال منها ذلك ، بل الأشبه أن يكون قولها " يلعبان من تحت خصريها " أي أن ذلك مكان الولد منها ، وأنهما كانا في حضنيها أو جنبيها ، وفي تشبيه النهدين بالرمانتين إشارة إلى صغر سنها ، وأنها لم تترهل حتى تنكسر ثدياها وتتدلى اهــ . وما رده ليس ببعيد ، أما نفي العادة فمسلم ، لكن من أين له أن ذلك لم يقع اتفاقا بأن تكون لما استلقت وولداها معها شغلتهما عنها بالرمانة يلعبان بها ليتركاها تستريح فاتفق أنهما لعبا بالهيئة التي حكيت ، وأما الحامل لها على الاستلقاء فقد قدمت احتمال أن يكون من التعب الذي حصل لها من المخض ، وقد يقع ذلك للشخص فيستلقي في غير موضع الاستلقاء ، والأصل عدم الإدراج الذي تخيله ، وإن كان من اختاره من أن المراد بالرمانة ثديها أولى لأنه أدخل في وصف المرأة بصغر سنها ، والله أعلم .

قوله ( فطلقني ونكحها في رواية الحارث فأعجبته فطلقني وفي رواية أبي معاوية " فخطبها أبو زرع فتزوجها ، فلم تزل به حتى طلق أم زرع " فأفاد السبب في رغبة أبي زرع فيها ثم في تطليقه أم زرع .

قوله ( فنكحت بعده رجلا في رواية النسائي " فاستبدلت ، وكل بدل أعور " وهو مثل معناه أن البدل من الشيء غالبا لا يقوم مقام المبدل منه بل هو دونه وأنزل منه ، والمراد بالأعور المعيب قال ثعلب : الأعور الرديء من كل شيء كما يقال : كلمة عوراء أي قبيحة ، وهذا إنما هـو على الغالب وبالنسبة ، فأخبرت أم زرع أن الزوج الثاني لم يسد مسد أبي زرع .

قوله ( سريا بمهملة ثم راء ثم تحتانية ثقيلة أي من سراة الناس وهم كبراؤهم في حسن الصورة والهيئة ، والسري من كل شيء خياره ، وفسره الحربي بالسخي ، ووقع في رواية الزبير .

قوله ( ركب شريا بمعجمة ثم راء ثم تحتانية ثقيلة ، قال ابن السكيت : تعني فرسا خيارا فائقا ، وفي رواية الحارث " ركب فرسا عربيا " وفي رواية الزبير " أعوجيا " وهو منسوب إلى أعوج فرس مشهور تنسب إليه العرب جياد الخيل كان لبني كندة ثم لبني سليم ثم لبني هلال ، وقيل لبني غني وقيل لبني كلاب ، وكل هذه القبائل بعد كندة من قيس ، قال ابن خالويه : كان لبعض ملوك كندة فغزا قوما من قيس فقتلوه وأخذوا فرسه ، وقيل : إنه ركب صغيرا رطبا قبل أن يشتد فاعوج وكبر على ذلك ، والشري الذي يستشري في سيره أي يمضي فيه بلا فتور ، وشرى الرجل في الأمر إذا لج فيه وتمادى ، وشرى البرق إذا كثر لمعانه .

قوله ( وأخذ خطيا بفتح الخاء المعجمة وكسر الطاء المهملة نسبة إلى الخط ، صفة موصوف وهو الرمح ، ووقع في رواية الحارث " وأخذ رمحا خطيا " والخط موضع بنواحي البحرين تجلب منه الرماح ، ويقال : أصلها من الهند تحمل في البحر إلى الخط المكان المذكور ، وقيل : إن سفينة في أول الزمان كانت مملوءة رماحا قذفها البحر إلى الخط فخرجت رماحها فيها فنسبت إليها ، وقيل : إن الرماح إذا كانت على جانب البحر تصير كالخط بين البر والبحر فقيل لها الخطية لذلك ، وقيل : الخط منبت الرماح ، قال عياض : ولا يصح . وقيل : الخط الساحل وكل ساحل خط .

[ ص: 184 ] قوله ( وأراح بمهملتين من الرواح ومعناه أتى بها إلى المراح وهو موضع مبيت الماشية ، قال ابن أبي أويس : معناه أنه غزا فغنم ، فأتى بالنعم الكثيرة .

قوله ( علي بالتشديد وفي رواية الطبراني وأراح على بيتي .

قوله ( نعما بفتحتين ، وهو جمع لا واحد له من لفظه ، وهو الإبل خاصة ، ويطلق على جميع المواشي إذا كان فيها إبل ، وفي رواية حكاها عياض " نعما " بكسر أوله جمع نعمة ، والأشهر الأول .

قوله ( ثريا بمثلثة أي كثيرة ، والثري المال الكثيرة من الإبل وغيرها ، ويقال : أثرى فلان فلانا إذا كثره فكان في شيء من الأشياء أكثر منه ، وذكر ثريا وإن كان وصف مؤنث لمراعاة السجع ، ولأن كل ما ليس تأنيثه حقيقيا يجوز فيه التذكير والتأنيث .

قوله ( وأعطاني من كل رائحة براء وتحتانية ومهملة ، وفي رواية لمسلم " ذابحة " بمعجمة ثم موحدة ثم مهملة أي مذبوحة ، مثل عيشة راضية أي مرضية ، فالمعنى أعطاني من كل شيء يذبح زوجا ، وفي رواية الطبراني " من كل سائمة " والسائمة الراعية والرائحة الآتية وقت الرواح وهو آخر النهار .

قوله ( زوجا أي اثنين من كل شيء من الحيوان الذي يرعى ، والزوج يطلق على الاثنين وعلى الواحد أيضا ، وأرادت بذلك كثرة ما أعطاها وأنه لم يقتصر على الفرد من ذلك .

قوله ( وقال : كلي أم زرع ، وميري أهلك أي صليهم وأوسعي عليهم بالميرة بكسر الميم وهي الطعام ، والحاصل أنها وصفته بالسؤدد في ذاته والشجاعة ، والفضل والجود بكونه أباح لها أن تأكل ما شاءت من ماله وتهدي منه ما شاء لأهلها مبالغة في إكرامها ، ومع ذلك فكانت أحواله عندها محتقرة بالنسبة لأبي زرع ، وكان سبب ذلك أن أبا زرع كان أول أزواجها فسكنت محبته في قلبها كما قيل ما الحب إلا للحبيب الأول . زاد أبو معاوية في روايته " فتزوجها رجل آخر فأكرمها أيضا ، فكانت تقول : أكرمني وفعل بي ، وتقول في آخر ذلك : لو جمع ذلك كله " .

قوله ( قالت فلو جمعت في رواية الهيثم " فجمعت ذلك كله " وفي رواية الطبراني : " فقلت لو كان هذا أجمع في أصغر " .

قوله ( كل شيء في رواية للنسائي " كل الذي " .

قوله ( أعطانيه في رواية مسلم " أعطاني " بلا هـاء .

قوله ( ما بلغ أصغر آنية أبي زرع في رواية ابن أبي أويس " ما ملأ إناء من آنية أبي زرع " وفي رواية النسائي " ما بلغت إناء " وفي رواية الطبراني " فلو جمعت كل شيء أصبته منه فجعلته في أصغر وعاء من أوعية أبي زرع ما ملأه " لأن الإناء أو الوعاء لا يسع ما ذكرت أنه أعطاها من أصناف النعم ، ويظهر لي حمله على معنى غير مستحيل وهي أنها أرادت أن الذي أعطاها جملة أراد أنها توزعه على المدة إلى أن يجيء أوان الغزو ، فلو وزعته لكان حظ كل يوم مثلا لا يملأ أصغر آنية أبي زرع التي كان يطبخ فيها في كل يوم على الدوام والاستمرار بغير نقص ولا قطع .

[ ص: 185 ] قوله ( قالت عائشة : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في رواية الترمذي " فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم " زاد الكاذي في رواية " يا عائش " وفي رواية ابن أبي أويس " يا عائشة " .

قوله ( كنت لك في رواية للنسائي " فكنت لك " وفي رواية الزبير : " أنا لك " وهي تفسير المراد برواية كنت كما جاء في تفسير قوله تعالى كنتم خير أمة أي أنتم ، ومنه من كان في المهد أي من هو في المهد ، ويحتمل أن تكون كان هنا على بابها والمراد بها الاتصال كما في قوله تعالى وكان الله غفورا رحيما إذ المراد بيان زمان ماض في الجملة ، أي كنت لك في سابق علم الله .

قوله ( كأبي زرع لأم زرع زاد في رواية الهيثم بن عدي " في الألفة والوفاء لا في الفرقة والجلاء " وزاد الزبير في آخره " إلا أنه طلقها وإني لا أطلقك " ومثله في رواية للطبراني ، وزاد النسائي في رواية له و الطبراني " قالت عائشة : يا رسول الله بل أنت خير من أبي زرع " وفي أول رواية الزبير " بأبي وأمي لأنت خير لي من أبي زرع لأم زرع " وكأنه صلى الله عليه وسلم قال ذلك تطييبا لها وطمأنينة لقلبها ودفعا لإيهام عموم التشبيه بجملة أحوال أبي زرع إذ لم يكن فيه ما تذمه النساء سوى ذلك ، وقد وقع الإفصاح بذلك ، وأجابت هي عن ذلك جواب مثلها في فضلها وعلمها .

" تنبيه " : وقع عند أبي يعلى عن سويد بن سعيد عن سفيان بن عيينة عن داود بن شابور عن عمر بن عبد الله بن عروة عن جده عروة عن عائشة أنها حدثت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أبي زرع وأم زرع وذكرت شعر أبي زرع في أم زرع ، كذا فيه ولم يسق لفظه ، ولم أقف في شيء من طرق على هذا الشعر ، وأخرجه أبو عوانة من طريق عبد الله بن عمران و الطبراني من طريق ابن أبي عمر كلاهما عن ابن عيينة بإسناده ولم يسق لفظه أيضا .

قوله ( قال سعيد بن سلمة هو ابن أبي الحسام وهو مدني صدوق ما له في البخاري إلا هذا الموضع .

قوله ( قال هشام هو ابن عروة يعني بهذا الإسناد ، وقد وصله مسلم عن الحسن بن علي عن موسى بن إسماعيل عنه ولم يسق لفظه بتمامه بل ذكر أن عنده عيانا ولم يشك وأنه قال " وصفر ردائها وخير نسائها وعقر جارتها " وقال " ولا تنقث ميرتنا تنقيثا " وقال " وأعطاني من كل رائحة " وقد بينت ذلك كله ، وهذا الذي نبه عليه البخاري من قوله " ولا تعشش بيتنا تعشيشا " واختلف في ضبطه فقيل : بالغين المعجمة وقيل : بالمهملة ، وقد تقدم بيانه ، وقد وصله أبو عوانة في صحيحه و الطبراني بطوله وإسناده موافق لعيسى بن يونس ، وأشرت إلى ما في روايته من المخالفة فيما تقدم مفصلا . وذكر الجياني أنه وقع عند أبي زيد المروزي بلفظ " قال سعيد بن سلمة عن أبي سلمة بيتنا تعشيشا " وهو خطأ في السند والمتن ، والصواب " ولا تعشش " وقال موسى " حدثنا سعيد عن هشام " .

قوله ( قال أبو عبد الله وقال بعضهم " فأتقمح " بالميم وهذا أصح . أبو عبد الله المذكور هو البخاري المصنف وهو يوضح أن الذي وقع في أصل روايته " أتقنح " بالنون ، وقد رواه أتقمح بالميم من طريق عيسى بن يونس أيضا النسائي و أبو يعلى و ابن حبان و الجوزقي وغيرهم ، وكذا وقع في رواية سعيد بن سلمة المذكورة وفي رواية أبي عبيد أيضا ، وقد تقدم بيان الاختلاف في ضبطها ومعناها . وفي هذا الحديث من الفوائد غير ما تقدم حسن عشرة المرء أهله بالتأنيس والمحادثة بالأمور المباحة ما لم يفض ذلك إلى ما يمنع ، وفيه المزح أحيانا [ ص: 186 ] وبسط النفس به ومداعبة الرجل أهله وإعلامه بمحبته لها ما لم يؤد ذلك إلى مفسدة تترتب على ذلك من تجنيها عليه وإعراضها عنه . وفيه منع الفخر بالمال وبيان جواز ذكر الفضل بأمور الدين و إخبار الرجل أهله بصورة حاله معهم وتذكيرهم بذلك لا سيما عند وجود ما طبعن عليه من كفر الإحسان . وفيه ذكر المرأة إحسان زوجها ، وفيه إكرام الرجل بعض نسائه بحضور ضرائرها بما يخصها به من قول أو فعل ، ومحله عند السلامة من الميل المفضي إلى الجور ، وقد تقدم في أبواب الهبة جواز تخصيص بعض الزوجات بالتحف واللطف إذا استوفى للأخرى حقها . وفيه جواز تحدث الرجل مع زوجته في غير نوبتها . وفيه الحديث عن الأمم الخالية وضرب الأمثال بهم اعتبارا ، وجواز الانبساط بذكر طرف الأخبار ومستطابات النوادر تنشيطا للنفوس . وفيه حض النساء على الوفاء لبعولتهن وقصر الطرف عليهم والشكر لجميلهم ، ووصف المرأة زوجها بما تعرفه من حسن وسوء ، وجواز المبالغة في الأوصاف ، ومحله إذا لم يصر ذلك ديدنا لأنه يفضي إلى خرم المروءة .

وفيه تفسير ما يحمله المخبر من الخبر إما بالسؤال عنه وإما ابتداء من تلقاء نفسه ، وفيه أن ذكر المرء بما فيه من العيب جائز إذا قصد التنفير عن ذلك الفعل ولا يكون ذلك غيبة أشار إلى ذلك الخطابي ، وتعقبه أبو عبد الله التميمي شيخ عياض بأن الاستدلال بذلك إنما يتم أن لو كان النبي صلى الله عليه وسلم سمع المرأة تغتاب زوجها فأقرها ، وأما الحكاية عمن ليس بحاضر فليس كذلك وإنما هـو نظير من قال في الناس شخص يسيء ، ولعل هذا هـو الذي أراده الخطابي فلا تعقب عليه ، وقال المازري : قال بعضهم : ذكر بعض هؤلاء النسوة أزواجهن بما يكرهون ولم يكن ذلك غيبة لكونهم لا يعرفون بأعيانهم وأسمائهم قال المازري : وإنما يحتاج إلى هذا الاعتذار لو كان من تحدث عنده بهذا الحديث سمع كلامهن في اغتياب أزواجهن فأقرهن على ذلك ، فأما والواقع خلاف ذلك وهو أن عائشة حكت قصة عن نساء مجهولات غائبات فلا ، ولو أن امرأة وصفت زوجها بما يكره لكان غيبة محرمة على من يقوله ويسمعه ، إلا إن كانت في مقام الشكوى منه عند الحاكم ، وهذا في حق المعين فأما المجهول الذي لا يعرف فلا حرج في سماع الكلام فيه لأنه لا يتأذى إلا إذا عرف أن من ذكر عنده يعرفه ، ثم إن هؤلاء الرجال مجهولون لا تعرف أسماؤهم ولا أعيانهم ، ولم يثبت للنسوة إسلام حتى يجري عليهن حكم الغيبة فبطل الاستدلال به لما ذكر ، وفيه تقوية لمن كره نكاح من كان له زوج لما ظهر من اعتراف أم زرع بإكرام زوجها الثاني لها بقدر طاقته ، ومع ذلك فحقرته وصغرته بالنسبة إلى الزوج الأول ، وفيه أن الحب يستر الإساءة لأن أبا زرع مع إساءته لها بتطليقها لم يمنعها ذلك من المبالغة في وصفه إلى أن بلغت حد الإفراط والغلو .

وقد وقع في بعض طرقه إشارة أن أبا زرع ندم على طلاقها وقال في ذلك شعرا ، ففي رواية عمر بن عبد الله بن عروة عن جده عن عائشة أنها حدثت عن النبي صلى الله عليه وسلم عن أبي زرع وأم زرع وذكرت شعر أبي زرع على أم زرع . وفيه جواز وصف النساء ومحاسنهن للرجل ، لكن محله إذا كن مجهولات ، والذي يمنع من ذلك وصف المرأة المعينة بحضرة الرجل أو أن يذكر من وصفها ما لا يجوز للرجل تعمد النظر إليه . وفيه أن التشبيه لا يستلزم مساواة المشبه بالمشبه به من كل جهة لقوله صلى الله عليه وسلم " كنت لك كأبي زرع " والمراد ما بينه بقوله في رواية الهيثم في الألفة إلى آخره لا في جميع ما وصف به أبو زرع من الثورة الزائدة والابن والخادم وغير ذلك وما لم يذكر من أمور الدين كلها .

وفيه أن كناية الطلاق لا توقعه إلا مع مصاحبة النية فإنه صلى الله عليه وسلم تشبه بأبي زرع وأبو زرع قد طلق فلم يستلزم ذلك وقوع الطلاق لكونه لم يقصد إليه . وفيه جواز التأسي بأهل الفضل من كل أمة لأن أم زرع أخبرت عن أبي زرع بجميل عشرته فامتثله النبي صلى الله عليه وسلم ، كذا قال المهلب واعتضه عياض فأجاد ، وهو أنه ليس في السياق ما يقتضي أنه تأسى به بل فيه أنه أخبر أن حاله معها مثل حال أم زرع ، نعم ما استنبطه صحيح باعتبار أن الخبر إذا سيق وظهر من الشارع [ ص: 187 ] تقريره مع الاستحسان له جاز التأسي به ، ونحو مما قاله المهلب قول آخر : إن فيه قبول خبر الواحد لأن أم زرع أخبرت بحال أبي زرع فامتثله النبي صلى الله عليه وسلم ، وتعقبه عياض أيضا فأجاد ، نعم يؤخذ منه القبول بطريق أن النبي صلى الله عليه وسلم أقره ولم ينكره ، وفيه جوازقول بأبي وأمي ومعناه فداك أبي وأمي وسيأتي تقريره في كتاب الأدب إن شاء الله تعالى . وفيه مدح الرجل في وجهه إذا علم أن ذلك لا يفسده . وفيه جواز القول للمتزوج : بالرفاء والبنين إن ثبتت اللفظة الزائدة أخيرا ، وقد تقدم البحث فيه قبل بأبواب . وفيه أن من شأن النساء إذا تحدثن أن لا يكون حديثهن غالبا إلا في الرجال ، وهذا بخلاف الرجال فإن غالب حديثهم إنما هـو فيما يتعلق بأمور المعاش .

وفيه جواز الكلام بالألفاظ الغريبة واستعمال السجع في الكلام إذا لم يكن مكلفا ، وقال عياض ما ملخصه : في كلام هؤلاء النسوة من فصاحة الألفاظ وبلاغة العبارة والبديع ما لا مزيد عليه ، ولا سيما كلام أم زرع فإنه مع كثرة فصوله وقلة فضوله مختار الكلمات ، واضح السمات نير النسمات ، وقد قدرت ألفاظه قدر معانيه وقررت قواعده وشيدت مبانيه ، وفي كلامهن ولا سيما الأولى والعاشرة أيضا من فنون التشبيه والاستعارة والكناية والإشارة والموازنة والترصيع والمناسبة والتوسيع والمبالغة والتسجيع والتوليد وضرب المثل وأنواع المجانسة وإلزام ما لا يلزم والإيغال والمقابلة والمطابقة والاحتراس وحسن التفسير والترديد وغرابة التقسيم وغير ذلك أشياء ظاهرة لمن تأملها ، وقد أشرنا إلى بعضها فيما تقدم ، وكمل ذلك أن غالب ذلك أفرغ في قالب الانسجام ، وأتى به الخاطر بغير تكلف ، وجاء لفظه تابعا لمعناه منقادا له غير مستكره ولا منافر ، والله يمن على من يشاء بما شاء لا إله إلا هـو .

التالي السابق


الخدمات العلمية