صفحة جزء
باب ذب الرجل عن ابنته في الغيرة والإنصاف

4932 حدثنا قتيبة حدثنا الليث عن ابن أبي مليكة عن المسور بن مخرمة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وهو على المنبر إن بني هشام بن المغيرة استأذنوا في أن ينكحوا ابنتهم علي بن أبي طالب فلا آذن ثم لا آذن ثم لا آذن إلا أن يريد ابن أبي طالب أن يطلق ابنتي وينكح ابنتهم فإنما هي بضعة مني يريبني ما أرابها ويؤذيني ما آذاها هكذا قال
قوله ( باب ذب الرجل عن ابنته في الغيرة والإنصاف ) أي في دفع الغيرة عنها وطلب الإنصاف لها .

قوله ( عن ابن أبي مليكة عن المسور ) كذا رواه الليث وتابعه عمرو بن دينار وغير واحد ، وخالفهم أيوب فقال " عن ابن أبي مليكة عن عبد الله بن الزبير " أخرجه الترمذي وقال حسن ، وذكر الاختلاف فيه ثم قال : يحتمل أن يكون ابن أبي مليكة حمله عنهما جميعا اهـ . والذي يظهر ترجيح رواية الليث لكونه توبع ولكون الحديث قد جاء عن المسور من غير رواية ابن أبي مليكة ، فقد تقدم في فرض الخمس وفي المناقب من طريق الزهري عن علي بن الحسين بن علي عن المسور وزاد فيه في الخمس قصة سيف النبي صلى الله عليه وسلم ، وذلك سبب تحديث المسور لعلي بن الحسين بهذا الحديث ، وقد ذكرت ما يتعلق بقصة السيف عنه هناك ، ولا أزال أتعجب من المسور كيف بالغ في تعصبه لعلي بن الحسين حتى قال : إنه لو أودع عنده السيف لا يمكن أحدا منه حتى تزهق روحه ، رعاية لكونه ابن ابن فاطمة محتجا بحديث الباب ، ولم يراع خاطره في أن ظاهر سياق الحديث المذكور غضاضة على علي بن الحسين لما فيه من إيهام غض من جده علي بن أبي طالب حيث أقدم على خطبة بنت أبي جهل على فاطمة حتى اقتضى أن يقع من النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك من الإنكار ما وقع ، بل أتعجب من المسور تعجبا آخر أبلغ من ذلك وهو أن يبذل نفسه دون السيف رعاية لخاطر ولد ابن فاطمة ، وما بذل نفسه دون ابن فاطمة نفسه أعني الحسين والد علي الذي وقعت له معه القصة حتى قتل بأيدي ظلمة الولاة ، لكن يحتمل أن يكون عذره أن الحسين لما خرج إلى العراق ما كان المسور وغيره من أهل الحجاز يظنون أن أمره يئول إلى ما آل إليه والله أعلم . وقد تقدم في فرض الخمس وجه المناسبة بين قصة السيف وقصة الخطبة بما يغني عن إعادته .

[ ص: 239 ] قوله ( سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وهو على المنبر ) في رواية الزهري عن علي بن حسين عن المسور الماضية في فرض الخمس " يخطب الناس على منبره هذا وأنا يومئذ محتلم " قال ابن سيد الناس : هذا غلط . والصواب ما وقع عند الإسماعيلي بلفظ " كالمحتلم " أخرجه من طريق يحيى بن معين عن يعقوب بن إبراهيم بسنده المذكور إلى علي بن الحسين قال : والمسور لم يحتلم في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ، لأنه ولد بعد ابن الزبير ، فيكون عمره عند وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ثماني سنين . قلت : كذا جزم به ، وفيه نظر ، فإن الصحيح أن ابن الزبير ولد في السنة الأولى فيكون عمره عند الوفاة النبوية تسع سنين فيجوز أن يكون احتلم في أول سني الإمكان ، أو يحمل قوله محتلم على المبالغة والمراد التشبيه فتلتئم الروايتان ، وإلا فابن ثمان سنين لا يقال له محتلم ولا كالمحتلم إلا أن يريد بالتشبيه أنه كان كالمحتلم في الحذق والفهم والحفظ ، والله أعلم .

قوله ( إن بني هشام بن المغيرة ) وقع في رواية مسلم هاشم بن المغيرة والصواب هشام لأنه جد المخطوبة .

قوله ( استأذنوا ) في رواية الكشميهني " استأذنوني ) ( في أن ينكحوا ابنتهم علي بن أبي طالب ) هكذا في رواية ابن أبي مليكة أن سبب الخطبة استئذان بني هشام بن المغيرة ، وفي رواية الزهري عن علي بن الحسين بسبب آخر ولفظه " أن عليا خطب بنت أبي جهل على فاطمة ، فلما سمعت بذلك فاطمة أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : إن قومك يتحدثون " كذا في رواية شعيب ، وفي رواية عبد الله بن أبي زياد عنه في صحيح ابن حبان " فبلغ ذلك فاطمة فقالت : إن الناس يزعمون أنك لا تغضب لبناتك ، وهذا علي ناكح بنت أبي جهل " هكذا أطلقت عليه اسم فاعل مجازا لكونه أراد ذلك وصمم عليه فنزلته منزلة من فعله ، ووقع في روايةعبيد الله بن أبي زياد " خطب " ولا إشكال فيها ، قال المسور : فقام النبي صلى الله عليه وسلم فذكر الحديث ، ووقع عند الحاكم من طريق إسماعيل بن أبي خالد عن أبي حنظلة " أن عليا خطب بنت أبي جهل ، فقال له أهلها : لا نزوجك على فاطمة " . قلت : فكأن ذلك كان سبب استئذانهم . وجاء أيضا أن عليا استأذن بنفسه ، فأخرج الحاكم بإسناد صحيح إلى سويد بن غفلة - وهو أحد المخضرمين ممن أسلم في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ولم يلقه . قال خطب علي بنت أبي جهل إلى عمها الحارث بن هشام ، فاستشار النبي صلى الله عليه وسلم فقال : أعن حسبها تسألني ؟ فقال : لا ولكن أتأمرني بها ؟ قال : لا ، فاطمة مضغة مني ، ولا أحسب إلا أنها تحزن أو تجزع ، فقال علي : لا آتي شيئا تكرهه ولعل هذا الاستئذان وقع بعد خطبة النبي صلى الله عليه وسلم بما خطب ولم يحضر علي الخطبة المذكورة فاستشار ، فلما قال له " لا " لم يتعرض بعد ذلك لطلبها ، ولهذا جاء آخر حديث شعيب عن الزهري " فترك علي الخطبة " وهي بكسر الخاء المعجمة ، ووقع عند ابن أبي داود من طريق معمر عن الزهري عن عروة " فسكت علي عن ذلك النكاح " .

قوله ( فلا آذن ، ثم لا آذن ، ثم لا آذن ) كرر ذلك تأكيدا ، وفيه إشارة إلى تأبيد مدة منع الإذن وكأنه أراد رفع المجاز لاحتمال أن يحمل النفي على مدة بعينها فقال " ثم لا آذن " أي ولو مضت المدة المفروضة تقديرا لا آذن بعدها ثم كذلك أبدا ، وفيه إشارة إلى ما في حديث الزهري من أن بني هشام بن المغيرة استأذنوا ، وبنو هشام هم أعمام بنت أبي جهل لأنه أبو الحكم عمرو بن هشام بن المغيرة وقد أسلم أخواه الحارث بن هشام وسلمة بن هشام عام الفتح وحسن إسلامهما ، ويؤيد ذلك جوابهما المتقدم لعلي . وممن يدخل في إطلاق بني هشام بن المغيرة عكرمة بن أبي جهل بن هشام ، وقد أسلم أيضا وحسن إسلامه ، واسم المخطوبة تقدم بيانه في " باب ذكر أصهار النبي صلى الله عليه وسلم " من كتاب المناقب وأنه تزوجها عتاب بن أسيد بن أبي العيص لما تركها علي [ ص: 240 ] وتقدم هناك زيادة في رواية الزهري في ذكر أبي العاص بن الربيع والكلام على قوله صلى الله عليه وسلم " حدثني فصدقني ، ووعدني ووفى لي " وتوجيه ما وقع من علي في هذه القصة أغنى عن إعادته .

قوله ( إلا أن يريد ابن أبي طالب أن يطلق ابنتي وينكح ابنتهم ) هذا محمول على أن بعض من يبغض عليا وشى به أنه مصمم على ذلك ، وإلا فلا يظن به أنه يستمر على الخطبة بعد أن استشار النبي صلى الله عليه وسلم فمنعه ، وسياق سويد بن غفلة يدل على أن ذلك وقع قبل أن تعلم به فاطمة ، فكأنه لما قيل لها ذلك وشكت إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن أعلمه على أنه ترك أنكر عليه ذلك ، وزاد في رواية الزهري " وإني لست أحرم حلالا ، ولا أحلل حراما ، ولكن والله لا تجمع بنت رسول الله وبنت عدو الله عند رجل أبدا " وفي رواية مسلم " مكانا واحدا أبدا " وفي رواية شعيب " عند رجل واحد أبدا " قال ابن التين : أصح ما تحمل عليه هذه القصة أن النبي صلى الله عليه وسلم حرم على علي أن يجمع بين ابنته وبين ابنة أبي جهل لأنه علل بأن ذلك يؤذيه وأذيته حرام بالاتفاق ، ومعنى قوله " لا أحرم حلالا " أي هي له حلال لو لم تكن عنده فاطمة ، وأما الجمع بينهما الذي يستلزم تأذي النبي صلى الله عليه وسلم لتأذي فاطمة به فلا ، وزعم غيره أن السياق يشعر بأن ذلك مباح لعلي ، لكنه منع النبي صلى الله عليه وسلم رعاية لخاطر فاطمة وقبل هو ذلك امتثالا لأمر النبي صلى الله عليه وسلم . والذي يظهر لي أنه لا يبعد أن يعد في خصائص النبي صلى الله عليه وسلم أن لا يتزوج على بناته ، ويحتمل أن يكون ذلك خاصا بفاطمة عليها السلام .

قوله ( فإنما هـي بضعة مني ) بفتح الموحدة وسكون الضاد المعجمة أي قطعة ، ووقع في حديث سويد بن غفلة كما تقدم " مضغة " بضم الميم وبغين معجمة ، والسبب فيه ما تقدم في المناقب أنها كانت أصيبت بأمها ثم بأخواتها واحدة بعد واحدة فلم يبق لها من تستأنس به ممن يخفف عليها الأمر ممن تفضي إليه بسرها إذا حصلت لها الغيرة .

قوله ( يريبني ما أرابها ) كذا هـنا من أراب رباعيا وفي رواية مسلم " ما رابها " من راب ثلاثيا ، وزاد في رواية الزهري " وأنا أتخوف أن تفتن في دينها " يعني أنها لا تصبر على الغيرة فيقع منها في حق زوجها في حال الغضب ما لا يليق بحالها في الدين ، وفي رواية شعيب " وأنا أكره أن يسوءها " أي تزويج غيرها عليها ، وفي رواية مسلم من هذا الوجه " أن يفتنوها " وهي بمعنى أن تفتن .

قوله ( ويؤذيني ما آذاها ) في رواية أبي حنظلة " فمن آذاها فقد آذاني " وفي حديث عبد الله بن الزبير " يؤذيني ما آذاها وينصبني ما أنصبها " وهو بنون ومهملة وموحدة من النصب بفتحتين وهو التعب ، وفي رواية عبيد الله بن أبي رافع عن المسور " يقبضني ما يقبضها ويبسطني ما يبسطها " أخرجها الحاكم . ويؤخذ من هذا الحديث أن فاطمة لو رضيت بذلك لم يمنع علي من التزويج بها أو بغيرها ، وفي الحديث تحريم أذى من يتأذى النبي صلى الله عليه وسلم بتأذيه ، لأن أذى النبي صلى الله عليه وسلم حرام اتفاقا قليله وكثيره ، وقد جزم بأنه يؤذيه ما يؤذي فاطمة فكل من وقع منه في حق فاطمة شيء فتأذت به فهو يؤذي النبي صلى الله عليه وسلم بشهادة هذا الخبر الصحيح ، ولا شيء أعظم في إدخال الأذى عليها من قتل ولدها ، ولهذا عرف بالاستقراء معاجلة من تعاطى ذلك بالعقوبة في الدنيا ولعذاب الآخرة أشد . وفيه حجة لمن يقول بسد الذريعة ، لأن تزويج ما زاد على الواحدة حلال للرجال ما لم يجاوز الأربع ، ومع ذلك فقد منع من ذلك في الحال لما يترتب عليه من الضرر في المآل . وفيه بقاء عار الآباء في أعقابهم لقوله " بنت عدو الله " فإن فيه إشعارا بأن للوصف تأثيرا في [ ص: 241 ] المنع ، مع أنها هـي كانت مسلمة حسنة الإسلام . وقد احتج به من منع كفاءة من مس أباه الرق ثم أعتق بمن لم يمس أباها الرق ، ومن مسه الرق بمن لم يمسها هي بل مس أباها فقط . وفيه أن الغيراء إذا خشي عليها أن تفتن في دينها كان لوليها أن يسعى في إزالة ذلك كما في حكم الناشز ، كذا قيل وفيه نظر ، ويمكن أن يزاد فيه شرط أن لا يكون عندها من تتسلى به ويخفف عنها الحملة كما تقدم ، ومن هنا يؤخذ جواب من استشكل اختصاص فاطمة بذلك مع أن الغيرة على النبي صلى الله عليه وسلم أقرب إلى خشية الافتتان في الدين ومع ذلك فكان صلى الله عليه وسلم يستكثر من الزوجات وتوجد منهن الغيرة كما في هذه الأحاديث ، ومع ذلك ما راعى ذلك صلى الله عليه وسلم في حقهن كما رعاه في حق فاطمة . ومحصل الجواب أن فاطمة كانت إذ ذاك كما تقدم فاقدة من تركن إليه من يؤنسها ويزيل وحشتها من أم أو أخت ، بخلاف أمهات المؤمنين فإن كل واحدة منهن كانت ترجع إلى من يحصل لها معه ذلك وزيادة عليه وهو زوجهن صلى الله عليه وسلم لما كان عنده من الملاطفة وتطييب القلوب وجبر الخواطر بحيث إن كل واحدة منهن ترضى منه لحسن خلقه وجميل خلقه بجميع ما يصدر منه بحيث لو وجد ما يخشى وجوده من الغيرة لزال عن قرب ، وقيل : فيه حجة لمن منع الجمع بين الحرة والأمة . ويؤخذ من الحديث إكرام من ينتسب إلى الخير أو الشرف أو الديانة .

التالي السابق


الخدمات العلمية