صفحة جزء
باب الصلوات الخمس كفارة

505 حدثنا إبراهيم بن حمزة قال حدثني ابن أبي حازم والدراوردي عن يزيد يعني ابن عبد الله بن الهاد عن محمد بن إبراهيم عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول أرأيتم لو أن نهرا بباب أحدكم يغتسل فيه كل يوم خمسا ما تقول ذلك يبقي من درنه قالوا لا يبقي من درنه شيئا قال فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله به الخطايا
[ ص: 15 ] قوله ( باب ) بالتنوين ( الصلوات الخمس كفارة ) كذا ثبت في أكثر الروايات ، وهي أخص من الترجمة السابقة على التي قبلها . وسقطت الترجمة من بعض الروايات ، وعليه مشى ابن بطال ومن تبعه ، وزاد الكشميهني بعد قوله " كفارة للخطايا إذا صلاهن لوقتهن في الجماعة وغيرها " .

قوله ( ابن أبي حازم والدراوردي ) كل منهما يسمى عبد العزيز ، وهما مدنيان وكذا بقية رجال الإسناد .

قوله ( عن يزيد بن عبد الله ) أي ابن أبي أسامة بن الهاد الليثي ، وهو تابعي صغير ، ولم أر هذا الحديث بهذا الإسناد إلا من طريقه . وأخرجه مسلم أيضا من طريق الليث بن سعد وبكر بن مضر كلاهما عنه . نعم روي من طريق الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة ، أخرجه البيهقي في الشعب من طريق محمد بن عبيد عنه لكنه شاذ ؛ لأن أصحاب الأعمش إنما رووه عنه عن أبي سفيان عن جابر ، وهو عند مسلم أيضا من هذا الوجه .

قوله ( عن محمد بن إبراهيم ) هو التيمي راوي حديث الأعمال ، وهو من التابعين أيضا ، ففي الإسناد ثلاثة تابعيون على نسق

قوله ( أرأيتم ) هو استفهام تقرير متعلق بالاستخبار ، أي أخبروني هل يبقى .

قوله ( لو أن نهرا ) قال الطيبي : لفظ " لو " يقتضي أن يدخل على الفعل وأن يجاب ، لكنه وضع الاستفهام موضعه تأكيدا وتقريرا ، والتقدير لو ثبت نهر صفته كذا لما بقي كذا ، والنهر بفتح الهاء وسكونها ما بين جنبي الوادي ، سمي بذلك لسعته وكذلك سمي النهار لسعة ضوئه .

قوله ( ما تقول ) كذا في النسخ المعتمدة بإفراد المخاطب ، والمعنى ما تقول يا أيها السامع ؟ ولأبي نعيم في المستخرج على مسلم وكذا للإسماعيلي والجوزقي " ما تقولون " بصيغة الجمع ، والإشارة في ذلك إلى الاغتسال ، قال ابن مالك : فيه شاهد على إجراء فعل القول مجرى فعل الظن ، وشرطه أن يكون مضارعا مسندا إلى المخاطب متصلا باستفهام .

قوله ( يبقي ) بضم أوله على الفاعلية .

قوله ( من درنه ) زاد مسلم " شيئا " والدرن الوسخ ، وقد يطلق الدرن على الحب الصغار التي تحصل في بعض الأجساد ، ويأتي البحث في ذلك .

قوله ( قالوا لا يبقي ) بضم أوله أيضا ، و شيئا ) منصوب على المفعولية . ولمسلم " لا يبقى " بفتح أوله و " شيء " بالرفع ، والفاء في قوله " فذلك " جواب شيء محذوف ، أي إذا تقرر ذلك عندكم فهو مثل الصلوات إلخ . وفائدة التمثيل التأكيد ، وجعل المعقول كالمحسوس . قال الطيبي : في هذا الحديث مبالغة في نفي الذنوب ؛ لأنهم لم يقتصروا في الجواب على " لا " أعادوا اللفظ تأكيدا . وقال ابن العربي : وجه التمثيل أن المرء كما يتدنس بالأقذار المحسوسة في بدنه وثيابه ويطهره الماء الكثير فكذلك الصلوات تطهر العبد عن [ ص: 16 ] أقذار الذنوب حتى لا تبقي له ذنبا إلا أسقطته انتهى . وظاهره أن المراد بالخطايا في الحديث ما هو أعم من الصغيرة والكبيرة لكن قال ابن بطال : يؤخذ من الحديث أن المراد الصغائر خاصة ؛ لأنه شبه الخطايا بالدرن والدرن صغير بالنسبة إلى ما هو أكبر منه من القروح والخراجات ، انتهى .

وهو مبني على أن المراد بالدرن في الحديث الحب ، والظاهر أن المراد به الوسخ ؛ لأنه هو الذي يناسبه الاغتسال والتنظف . وقد جاء من حديث أبي سعيد الخدري التصريح بذلك ، وهو فيما أخرجه البزار والطبراني بإسناد لا بأس به من طريق عطاء بن يسار أنه سمع أبا سعيد الخدري يحدث أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول أرأيت لو أن رجلا كان له معتمل ، وبين منزله ومعتمله خمسة أنهار فإذا انطلق إلى معتمله عمل ما شاء الله فأصابه وسخ أو عرق ، فكلما مر بنهر اغتسل منه الحديث . ولهذا قال القرطبي : ظاهر الحديث أن الصلوات الخمس تستقل بتكفير جميع الذنوب ، وهو مشكل ، لكن روى مسلم قبله حديث العلاء عن أبي هريرة مرفوعا الصلوات الخمس كفارة لما بينها ما اجتنبت الكبائر فعلى هذا المقيد يحمل ما أطلق في غيره .

( فائدة ) : قال ابن بزيزة في " شرح الأحكام " : يتوجه على حديث العلاء إشكال يصعب التخلص منه ، وذلك أن الصغائر بنص القرآن مكفرة باجتناب الكبائر ، وإذا كان كذلك فما الذي تكفره الصلوات الخمس ؟ انتهى . وقد أجاب عنه شيخنا الإمام البلقيني بأن السؤال غير وارد ؛ لأن مراد الله إن تجتنبوا أي في جميع العمر ومعناه الموافاة على هذه الحالة من وقت الإيمان أو التكليف إلى الموت ، والذي في الحديث أن الصلوات الخمس تكفر ما بينها - أي في يومها - إذا اجتنبت الكبائر في ذلك اليوم ، فعلى هذا لا تعارض بين الآية والحديث ، انتهى . وعلى تقدير ورود السؤال فالتخلص منه بحمد الله سهل ، وذلك أنه لا يتم اجتناب الكبائر إلا بفعل الصلوات الخمس ، فمن لم يفعلها لم يعد مجتنبا للكبائر ؛ لأن تركها من الكبائر فوقف التكفير على فعلها ، والله أعلم .

وقد فصل شيخنا الإمام البلقيني أحوال الإنسان بالنسبة إلى ما يصدر منه من صغيرة وكبيرة ، فقال : تنحصر في خمسة ، أحدها : أن لا يصدر منه شيء البتة ، فهذا يعاوض برفع الدرجات . ثانيها : يأتي بصغائر بلا إصرار ، فهذا تكفر عنه جزما . ثالثها : مثله لكن مع الإصرار فلا تكفر إذا قلنا إن الإصرار على الصغائر كبيرة . رابعها : أن يأتي بكبيرة واحدة وصغائر . خامسها : أن يأتي بكبائر وصغائر ، وهذا فيه نظر يحتمل إذا لم يجتنب الكبائر أن لا تكفر الكبائر بل تكفر الصغائر ، ويحتمل أن لا تكفر شيئا أصلا ، والثاني أرجح ؛ لأن مفهوم المخالفة إذا لم تتعين جهته لا يعمل به فهنا لا تكفر شيئا إما لاختلاط الكبائر والصغائر أو لتمحض الكبائر أو تكفر الصغائر ، فلم تتعين جهة مفهوم المخالفة لدورانه بين الفصلين فلا يعمل به ويؤيده أن مقتضى تجنب الكبائر أن هناك كبائر ، ومقتضى " ما اجتنبت الكبائر " أن لا كبائر فيصان الحديث عنه .

( تنبيه : لم أر في شيء من طرقه عند أحد من الأئمة الستة وأحمد بلفظ " ما تقول " إلا عند البخاري وليس هو عند أبي داود أصلا وهو عند ابن ماجه من حديث عثمان لا من حديث أبي هريرة ، ولفظ مسلم أرأيتم لو أن نهرا بباب أحدكم يغتسل فيه كل يوم خمس مرات هل كان يبقى من درنه شيء وعلى لفظه اقتصر عبد الحق في الجمع بين الصحيحين وكذا الحميدي ، ووقع في كلام بعض المتأخرين بعد أن ساقه بلفظ " ما تقولون " أنه في الصحيحين والسنن الأربعة ، وكأنه أراد أصل الحديث ، لكن يرد عليه أنه ليس [ ص: 17 ] عند أبي داود أصلا ولا ابن ماجه من حديث أبي هريرة . ووقع في بعض النسخ المتأخرة من البخاري بالياء التحتانية آخر الحروف " من يقول " فزعم بعض أهل العصر أنه غلط وأنه لا يصح من حيث المعنى ، واعتمد على ما ذكره ابن مالك مما قدمته وأخطأ في ذلك ، بل له وجه وجيه ، والتقدير ما يقول أحدكم في ذلك . والشرط الذي ذكره ابن مالك وغيره من النحاة إنما هو لإجراء فعل القول مجرى فعل الظن كما تقدم ، وأما إذا ترك القول على حقيقته فلا ، وهذا ظاهر ، وإنما نبهت عليه لئلا يغتر به .

التالي السابق


الخدمات العلمية