صفحة جزء
باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة قطعا

26 حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وزهير بن حرب كلاهما عن إسمعيل بن إبراهيم قال أبو بكر حدثنا ابن علية عن خالد قال حدثني الوليد بن مسلم عن حمران عن عثمان قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من مات وهو يعلم أنه لا إله إلا الله دخل الجنة حدثنا محمد بن أبي بكر المقدمي حدثنا بشر بن المفضل حدثنا خالد الحذاء عن الوليد أبي بشر قال سمعت حمران يقول سمعت عثمان يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول مثله سواء
باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة قطعا

هذا الباب فيه أحاديث كثيرة وتنتهي إلى حديث العباس بن عبد المطلب - رضي الله عنه - : ( ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا ) .

واعلم أن مذهب أهل السنة وما عليه أهل الحق من السلف والخلف أن من مات موحدا دخل الجنة قطعا على كل حال . فإن كان سالما من المعاصي كالصغير ، والمجنون والذي اتصل جنونه بالبلوغ ، والتائب توبة صحيحة من الشرك أو غيره من المعاصي إذا لم يحدث معصية بعد توبته ، والموفق الذي لم يبتل بمعصية أصلا ، فكل هذا الصنف يدخلون الجنة ، ولا يدخلون النار أصلا ، لكنهم يردونها على الخلاف المعروف في الورود . والصحيح أن المراد به المرور على الصراط وهو منصوب على ظهر جهنم . أعاذنا الله منها ومن سائر المكروه .

وأما من كانت له معصية كبيرة ومات من غير توبة فهو في مشيئة الله تعالى : فإن شاء عفا عنه وأدخله الجنة أولا وجعله كالقسم الأول ، وإن شاء عذبه القدر الذي يريده سبحانه وتعالى ، ثم يدخله الجنة فلا يخلد في النار أحد مات على التوحيد ولو عمل من المعاصي ما عمل . كما أنه لا يدخل الجنة أحد مات على الكفر ولو عمل من أعمال البر ما عمل .

هذا مختصر جامع لمذهب أهل الحق في هذه المسألة . وقد تظاهرت أدلة الكتاب والسنة وإجماع من [ ص: 177 ] يعتد به من الأمة على هذه القاعدة ، وتواترت بذلك نصوص تحصل العلم القطعي . فإذا تقررت هذه القاعدة حمل عليها جميع ما ورد من أحاديث الباب وغيره . فإذا ورد حديث في ظاهره مخالفة وجب تأويله عليها ليجمع بين نصوص الشرع ، وسنذكر من تأويل بعضها ما يعرف به تأويل الباقي إن شاء الله تعالى . والله أعلم .

وأما شرح أحاديث الباب فنتكلم عليها مرتبة لفظا ومعنى إسنادا ومتنا .

فقوله في الإسناد الأول ( عن إسماعيل بن إبراهيم ) وفي رواية ( أبي بكر بن أبي شيبة حدثنا ابن علية عن خالد قال : حدثني الوليد بن مسلم عن حمران عن عثمان - رضي الله عنه - قال : قال رسول - صلى الله عليه وسلم - : " من مات وهو يعلم أن لا إله إلا الله دخل الجنة : " ) أما إسماعيل بن إبراهيم فهو ابن علية ، وهذا من احتياط مسلم - رحمه الله - فإن أحد الراويين قال : ابن علية والآخر قال : إسماعيل بن إبراهيم ، فبينهما ولم يقتصر على أحدهما . و ( علية ) أم إسماعيل وكان يكره أن يقال له ابن علية ، وقد تقدم بيانه .

وأما ( خالد ) فهو ابن مهران الحذاء كما بينه في الرواية الثانية ، وهو ممدود وكنيته أبو المنازل بالميم المضمومة والنون والزاي واللام . قال أهل العلم : لم يكن خالد حذاء قط ، ولكنه كان يجلس إليهم ، فقيل له الحذاء لذلك . هذا هو المشهور . وقال فهد بن حيان بالفاء : إنما كان يقول : أحذوا على هذا النحو فلقب بالحذاء . وخالد يعد في التابعين .

وأما الوليد بن مسلم بن شهاب العنبري البصري أبو بشر فروى عن جماعة من التابعين ، وربما اشتبه على بعض من لم يعرف الأسماء بالوليد بن مسلم الأموي مولاهم الدمشقي أبي العباس صاحب الأوزاعي ، ولا يشتبه ذلك على العلماء به فإنهما مفترقان في النسب إلى القبيلة والبلدة والكنية كما ذكرنا ، وفي الطبقة فإن الأول أقدم طبقة وهو في طبقة كبار شيوخ الثاني ، ويفترقان أيضا في الشهرة والعلم والجلالة ; فإن الثاني متميز لذلك كله .

قال العلماء : انتهى علم الشام إليه وإلى إسماعيل بن عياش ، وكان أجل من ابن عياش رحمهم الله أجمعين . والله أعلم .

وأما ( حمران ) فبضم الحاء المهملة وإسكان الميم وهو حمران بن أبان مولى عثمان بن عفان - رضي الله عنه - . كنية حمران أبو زيد كان من سبي عين التمر .

وأما معنى الحديث وما أشبهه فقد جمع فيه القاضي عياض - رحمه الله - كلاما حسنا جمع فيه نفائس ، فأنا أنقل كلامه مختصرا ثم أضم بعده إليه ما حضرني من زيادة . قال القاضي عياض - رحمه الله - اختلف الناس فيمن عصى الله تعالى من أهل الشهادتين فقالت المرجئة : لا تضره المعصية مع الإيمان ، وقالت الخوارج : تضره ويكفر بها ، وقالت المعتزلة يخلد في النار إذا كانت معصيته كبيرة ، ولا يوصف بأنه مؤمن ولا كافر ، ولكن يوصف بأنه فاسق .

وقالت الأشعرية : بل هو مؤمن وإن لم يغفر له وعذب فلا بد من إخراجه من النار وإدخاله الجنة . قال : وهذا الحديث حجة على الخوارج والمعتزلة .

وأما المرجئة فإن احتجت بظاهره قلنا : محمله على أنه غفر له ، أو أخرج من النار بالشفاعة ، ثم أدخل الجنة . فيكون معنى قوله - صلى الله عليه وسلم - : " دخل [ ص: 178 ] الجنة " أي دخلها بعد مجازاته بالعذاب . وهذا لا بد من تأويله لما جاء في ظواهر كثيرة من عذاب بعض العصاة فلا بد من تأويل هذا لئلا تتناقض نصوص الشريعة .

قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( وهو يعلم ) إشارة إلى الرد على من قال من غلاة المرجئة : إن مظهر الشهادتين يدخل الجنة وإن لم يعتقد ذلك بقلبه . وقد قيد ذلك في حديث آخر بقوله - صلى الله عليه وسلم - " غير شاك فيهما " . وهذا يؤكد ما قلناه .

قال القاضي : وقد يحتج به أيضا من يرى أن مجرد معرفة القلب نافعة دون النطق بالشهادتين لاقتصاره على العلم . ومذهب أهل السنة أن المعرفة مرتبطة بالشهادتين لا تنفع إحداهما ولا تنجي من النار دون الأخرى إلا لمن لم يقدر على الشهادتين لآفة بلسانه أو لم تمهله المدة ليقولها ، بل اخترمته المنية . ولا حجة لمخالف الجماعة بهذا اللفظ ; إذ قد ورد مفسرا في الحديث الآخر : " من قال لا إله إلا الله ومن شهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله " وقد جاء هذا الحديث وأمثاله كثيرة في ألفاظها اختلاف ، ولمعانيها عند أهل التحقيق ائتلاف ، فجاء هذا اللفظ في هذا الحديث .

وفي رواية معاذ عنه - صلى الله عليه وسلم - : من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة . وفي رواية عنه - صلى الله عليه وسلم - : من لقي الله لا يشرك به شيئا دخل الجنة وعنه - صلى الله عليه وسلم - : ما من عبد يشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله إلا حرمه الله على النار ونحوه في حديث عبادة بن الصامت وعتبان بن مالك وزاد في حديث عبادة على ما كان من عمل .

وفي حديث أبي هريرة لا يلقى الله تعالى بهما عبد غير شاك فيهما إلا دخل الجنة ، وإن زنى وإن سرق .

وفي حديث أنس : حرم الله على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله تعالى .

هذه الأحاديث كلها سردها مسلم - رحمه الله - في كتابه ، فحكى عن جماعة من السلف رحمهم الله منهم ابن المسيب أن هذا كان قبل نزول الفرائض والأمر والنهي ، وقال بعضهم هي مجملة تحتاج إلى شرح ، ومعناه : من قال الكلمة وأدى حقها وفريضتها . وهذا قول الحسن البصري . وقيل : إن ذلك لمن قالها عند الندم والتوبة . ومات على ذلك وهذا قول البخاري .

وهذه التأويلات إنما هي إذا حملت الأحاديث على ظاهرها . وأما إذا نزلت منازلها فلا يشكل تأويلها على ما بينه المحققون . فنقرر أولا أن مذهب أهل السنة بأجمعهم من السلف الصالح وأهل الحديث والفقهاء والمتكلمين على مذهبهم من الأشعريين أن أهل الذنوب في مشيئة الله تعالى . وأن كل من مات على الإيمان وتشهد مخلصا من قلبه بالشهادتين فإنه يدخل الجنة . فإن كان تائبا أو سليما من المعاصي دخل الجنة برحمة ربه وحرم على النار بالجملة . فإن حملنا اللفظين الواردين على هذا فيمن هذه صفته كان بينا .

وهذا معنى تأويلي الحسن والبخاري ، وإن كان هذا من المخلطين بتضييع ما أوجب الله تعالى عليه ، أو بفعل ما حرم عليه . فهو في المشيئة لا يقطع في أمره بتحريمه على النار ولا باستحقاقه الجنة لأول وهلة . بل يقطع بأنه لا بد من دخوله الجنة آخرا . وحاله قبل ذلك في خطر المشيئة . إن شاء الله تعالى عذبه بذنبه ، وإن شاء عفا عنه بفضله . ويمكن أن تستقل الأحاديث بنفسها ويجمع بينها فيكون المراد باستحقاق الجنة ما قدمناه من إجماع أهل السنة أنه لا بد من دخولها لكل موحد إما معجلا معافى ، وإما مؤخرا والمراد بتحريم النار تحريم الخلود خلافا للخوارج والمعتزلة في المسألتين . ويجوز في حديث : من [ ص: 179 ] كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة أن يكون خصوصا لمن كان هذا آخر نطقه وخاتمة لفظه ، وإن كان قبل مخلطا فيكون سببا لرحمة الله تعالى إياه ونجاته رأسا من النار ، وتحريمه عليها بخلاف من لم يكن ذلك آخر كلامه من الموحدين المخلطين . وكذلك ما ورد في حديث عبادة من مثل هذا ودخوله من أي أبواب الجنة شاء يكون خصوصا لمن قال ما ذكره النبي - صلى الله عليه وسلم - وقرن بالشهادتين حقيقة الإيمان والتوحيد الذي ورد في حديثه فيكون له من الأجر ما يرجح على سيئاته ، ويوجب له المغفرة والرحمة ودخول الجنة لأول وهلة إن شاء الله تعالى . والله أعلم .

هذا آخر كلام القاضي عياض - رحمه الله - وهو في نهاية الحسن .

وأما ما حكاه عن ابن المسيب وغيره فضعيف باطل وذلك لأن راوي أحد هذه الأحاديث أبو هريرة - رضي الله عنه - وهو متأخر الإسلام أسلم عام خيبر سنة سبع بالاتفاق ، وكانت أحكام الشريعة مستقرة وأكثر هذه الواجبات كانت فروضها مستقرة ، وكانت الصلاة والصيام والزكاة وغيرها من الأحكام قد تقرر فرضها ، وكذا الحج على قول من قال فرض سنة خمس أو ست ، وهما أرجح من قول من قال سنة تسع . والله أعلم . وذكر الشيخ أبو عمرو بن الصلاح - رحمه الله - تعالى تأويلا آخر في الظواهر الواردة بدخول الجنة بمجرد الشهادة فقال : يجوز أن يكون ذلك اقتصارا من بعض الرواة نشأ من تقصيره في الحفظ والضبط لا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بدلالة مجيئه تاما في رواية غيره . وقد تقدم نحو هذا التأويل قال : ويجوز أن يكون اختصارا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما خاطب به الكفار عبدة الأوثان الذين كان توحيدهم لله تعالى مصحوبا بسائر ما يتوقف عليه الإسلام ومستلزما له . والكافر إذا كان لا يقر بالوحدانية كالوثني والثنوي فقال : لا إله إلا الله ، وحاله الحال التي حكيناها ، حكم بإسلامه . ولا نقول والحالة هذه ما قاله بعض أصحابنا من أن من قال لا إله إلا الله يحكم بإسلامه ثم يجبر على قبول سائر الأحكام فإن حاصله راجع إلى أنه يجبر حينئذ على إتمام الإسلام ، ويجعل حكمه حكم المرتد إن لم يفعل من غير أن يحكم بإسلامه بذلك في نفس الأمر ، وفي أحكام الآخرة . ومن وصفناه مسلم في نفس الأمر وفي أحكام الآخرة . والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية