صفحة جزء
باب الاستثناء

1654 حدثني أبو الربيع العتكي وأبو كامل الجحدري فضيل بن حسين واللفظ لأبي الربيع قالا حدثنا حماد وهو ابن زيد حدثنا أيوب عن محمد عن أبي هريرة قال كان لسليمان ستون امرأة فقال لأطوفن عليهن الليلة فتحمل كل واحدة منهن فتلد كل واحدة منهن غلاما فارسا يقاتل في سبيل الله فلم تحمل منهن إلا واحدة فولدت نصف إنسان فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لو كان استثنى لولدت كل واحدة منهن غلاما فارسا يقاتل في سبيل الله
باب الاستثناء في اليمين وغيرها

ذكر في الباب حديث سليمان بن داود عليه السلام ، وفيه فوائد : منها : أنه يستحب للإنسان إذا قال سأفعل كذا أن يقول : إن شاء الله تعالى لقوله تعالى : ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله ولهذا الحديث . ومنها : أنه إذا حلف وقال متصلا بيمينه : إن شاء الله تعالى ، لم يحنث بفعله المحلوف عليه ، وأن الاستثناء يمنع انعقاد اليمين لقوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث : لو قال : إن شاء الله لم يحنث ، وكان دركا لحاجته ، ويشترط لصحة هذا الاستثناء شرطان : أحدهما : أن يقوله متصلا باليمين ، والثاني : أن يكون نوى قبل فراغ اليمين أن يقول : إن شاء الله تعالى .

قال القاضي : أجمع المسلمون على أن قوله إن شاء الله يمنع انعقاد اليمين بشرط كونه متصلا ، قال : ولو جاز منفصلا - كما روي عن بعض السلف - لم يحنث أحد قط في يمين ، ولم يحتج إلى كفارة ، قال : واختلفوا في الاتصال فقال مالك والأوزاعي والشافعي والجمهور : هو أن يكون قوله إن شاء الله ، متصلا باليمين من غير سكوت بينهما ولا تضر سكتة النفس ، وعن طاوس والحسن وجماعة من التابعين أن له الاستثناء ما لم يقم من مجلسه ، وقال قتادة : ما لم يقم أو يتكلم ، وقال عطاء : قدر حلبة ناقة ، وقال سعيد بن جبير : بعد أربعة أشهر ، وعن ابن عباس : له الاستثناء أبدا متى تذكره ، وتأول بعضهم هذا المنقول عن هؤلاء على أن مرادهم أنه يستحب له قول إن شاء الله تبركا ، قال تعالى : واذكر ربك إذا نسيت ولم يريدوا به حل اليمين ومنع الحنث .

أما إذا استثنى في الطلاق والعتق وغير ذلك سوى اليمين بالله تعالى ، أو لزيد في ذمتي ألف درهم إن شاء الله ، أو إن شفي مريضي فلله علي صوم شهر إن شاء الله أو ما أشبه ذلك ، فمذهب الشافعي والكوفيين وأبي ثور وغيرهم صحة الاستثناء في جميع الأشياء ، كما أجمعوا عليها في اليمين بالله تعالى ، فلا يحنث في طلاق ولا عتق ، ولا ينعقد ظهاره ولا نذره ، ولا إقراره ولا غير ذلك ، مما يتصل به قوله إن شاء الله ، وقال مالك والأوزاعي : لا يصح الاستثناء في شيء من ذلك إلا اليمين بالله تعالى .

[ ص: 282 ] وقوله صلى الله عليه وسلم : ( ولو قال : إن شاء الله لم يحنث ) فيه إشارة إلى أن الاستثناء يكون بالقول ، ولا تكفي فيه النية ، وبهذا قال الشافعي وأبو حنيفة ومالك وأحمد والعلماء كافة إلا ما حكي عن بعض المالكية أن قياس قول مالك صحة الاستثناء بالنية من غير لفظ .

قوله صلى الله عليه وسلم : ( فقال له صاحبه : قل إن شاء الله ) قد يحتج به من يقول بجواز انفصال الاستثناء . وأجاب الجمهور عنه بأنه يحتمل أن يكون صاحبه قال له ذلك وهو بعد في أثناء اليمين ، أو أن الذي جرى منه ليس بيمين ، فإنه ليس في الحديث تصريح بيمين . والله أعلم .

قوله صلى الله عليه وسلم : ( لأطوفن ) وفي بعض النسخ ( لأطيفن الليلة ) هما لغتان فصيحتان طاف بالشيء وأطاف به : إذا دار حوله ، وتكرر عليه ، فهو طائف ومطيف ، وهو هنا كناية عن الجماع .

قوله صلى الله عليه وسلم : ( كان لسليمان ستون امرأة ) وفي رواية : ( سبعون ) وفي رواية : ( تسعون ) وفي غير صحيح مسلم ( تسع وتسعون ) وفي رواية ( مائة ) . هذا كله ليس بمتعارض لأنه ليس في ذكر القليل نفي الكثير ، وقد سبق بيان هذا مرات ، وهو من مفهوم العدد ، ولا يعمل به عند جماهير الأصوليين ، وفي هذا بيان ما خص به الأنبياء صلوات الله تعالى وسلامه عليهم من القوة على إطاقة هذا في ليلة واحدة ، وكان نبينا صلى الله عليه وسلم يطوف على إحدى عشرة امرأة له في الساعة الواحدة ، كما ثبت في الصحيح ، وهذا كله من زيادة القوة ، والله أعلم .

قوله : ( فتحمل كل واحدة منهن فتلد كل واحدة منهن غلاما فارسا يقاتل في سبيل الله ) هذا قاله على سبيل التمني للخير ، وقصد به الآخرة والجهاد في سبيل الله تعالى لا لغرض الدنيا .

قوله صلى الله عليه وسلم : ( فلم تحمل منهن إلا واحدة فولدت نصف إنسان ) وفي رواية : ( جاءت بشق غلام ) قيل هو الجسد الذي ذكره الله تعالى أنه ألقي على كرسيه .

قوله صلى الله عليه وسلم : ( لو كان استثنى لولدت كل واحدة منهن غلاما فارسا يقاتل في سبيل الله [ ص: 283 ] تعالى ) هذا محمول على أن النبي صلى الله عليه وسلم أوحي إليه بذلك في حق سليمان ، لا أن كل من فعل هذا يحصل له هذا .

قوله صلى الله عليه وسلم : ( فقال له صاحبه أو الملك قل : إن شاء الله فلم يقل ونسي ) قيل : المراد بصاحبه الملك ، وهو الظاهر من لفظه ، وقيل : القرين ، وقيل : صاحب له آدمي . وقوله : ( نسي ) ضبطه بعض الأئمة بضم النون وتشديد السين وهو ظاهر حسن . والله أعلم .

قوله صلى الله عليه وسلم : ( وكان دركا له في حاجته ) هو بفتح الراء اسم من الإدراك ، أي : لحاقا ، قال الله تعالى : لا تخاف دركا .

قوله صلى الله عليه وسلم : ( وايم الذي نفس محمد بيده لو قال : إن شاء الله لجاهدوا في سبيل الله ) فيه جواز اليمين بهذا اللفظ وهو ( ايم الله وايمن الله ) واختلف العلماء في ذلك ، فقال مالك وأبو حنيفة : هو يمين ، وقال أصحابنا : إن نوى به اليمين فهو يمين ، وإلا فلا .

قوله صلى الله عليه وسلم : ( لو قال إن شاء الله لجاهدوا ) فيه جواز قول ( لو ولولا ) قال القاضي عياض : هذا يستدل به على جواز قول : ( لو ولولا ) قال : وقد جاء في القرآن كثيرا ، وفي كلام الصحابة [ ص: 284 ] والسلف ، وترجم البخاري على هذا باب ما يجوز من اللو ، وأدخل فيه قول لوط صلى الله عليه وسلم لو أن لي بكم قوة وقول النبي صلى الله عليه وسلم : لو كنت راجما بغير بينة لرجمت هذه . و لو مد لي الشهر لواصلت . و لولا حدثان قومك بالكفر لأتممت البيت على قواعد إبراهيم . و لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار وأمثال هذا ، قال : والذي يتفهم من ترجمة البخاري وما ذكره في الباب من القرآن والآثار أنه يجوز استعمال لو ولولا فيما يكون للاستقبال مما امتنع من فعله لامتناع غيره ، وهو من باب الممتنع من فعله لوجود غيره ، وهو من باب لولا ; لأنه لم يدخل في الباب سوى ما هو للاستقبال ، أو ما هو حق صحيح متيقن كحديث : لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار دون الماضي والمنقضي ، أو ما فيه اعتراض على الغيب والقدر السابق ، وقد ثبت في الحديث الآخر في صحيح مسلم قوله صلى الله عليه وسلم : وإن أصابك شيء فلا تقل : لو أني فعلت كذا لكان كذا ولكن قل : قدر الله وما شاء فعل قال القاضي : قال بعض العلماء : هذا إذا قاله على جهة الحتم والقطع بالغيب أنه لو كان كذا لكان كذا ، من غير ذكر مشيئة الله تعالى . والنظر إلى سابق قدره وخفي علمه علينا ، فأما من قاله على التسليم ورد الأمر إلى المشيئة فلا كراهة فيه . قال القاضي : وأشار بعضهم إلى أن ( لولا ) بخلاف ( لو ) قال القاضي : والذي عندي أنهما سواء إذا استعملتا فيما لم يحط به الإنسان علما ، ولا هو داخل تحت مقدور قائلهما مما هو تحكم على الغيب واعتراض على القدر ، كما نبه عليه في الحديث ومثل قول المنافقين : لو أطاعونا ما قتلوا . لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا . و لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا فرد الله تعالى عليهم باطلهم فقال : فادرءوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين فمثل هذا هو المنهي عنه .

وأما هذا الحديث الذي نحن فيه فإنما أخبر عن حقيقة أعلمه الله تعالى بها ، وهو نحو قوله صلى الله عليه وسلم : لولا بنو إسرائيل لم يخنز اللحم ، ولولا حواء لم تخن امرأة زوجها فلا معارضة بين هذا وبين حديث النهي عن ( لو ) وقد قال الله تعالى : قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم و ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وكذلك ما جاء من ( لولا ) كقوله تعالى : لولا كتاب من الله سبق لمسكم و ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا و فلولا أنه كان من المسبحين للبث في بطنه لأن الله تعالى مخبر في كل ذلك عما مضى أو يأتي عن علم خبرا قطعيا ، وكل ما يكون من لو ولولا مما يخبر به الإنسان عن علة امتناعه من فعله مما يكون فعله في قدرته ، فلا كراهة فيه ; لأنه إخبار حقيقة عن امتناع شيء لسبب شيء وحصول شيء لامتناع شيء ، وتأتي لو غالبا لبيان السبب [ ص: 285 ] الموجب أو النافي ، فلا كراهة في كل ما كان من هذا ، إلا أن يكون كاذبا في ذلك كقول المنافقين : لو نعلم قتالا لاتبعناكم . والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية