صفحة جزء
باب من تجب عليه الجمعة

1055 حدثنا أحمد بن صالح حدثنا ابن وهب أخبرني عمرو عن عبيد الله بن أبي جعفر أن محمد بن جعفر حدثه عن عروة بن الزبير عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت كان الناس ينتابون الجمعة من منازلهم ومن العوالي
210 - باب من تجب عليه الجمعة

فثبت بحديثي الباب أن الجمعة واجبة على من كان خارج المصر والبلد كما كانت واجبة على كل من سمع النداء من أهل البلد . وأشار بهذا الباب إلى الرد على الكوفيين فإنهم لم يوجبوا الجمعة على من كان خارج المصر .

( ينتابون الجمعة ) يفتعلون من النوبة ، أي يحضرونها نوبا ، والانتياب افتعال من النوبة ، وفي رواية يتناوبون ( من منازلهم ) القريبة من المدينة ( ومن العوالي ) جمع عالية : مواضع وقرى شرقي المدينة وأدناها من المدينة على أربعة أميال أو ثلاثة وأبعدها ثمانية . قاله القسطلاني . وفي لسان العرب : والعوالي هي أماكن بأعلى أراضي المدينة وأدناها من المدينة على أربعة أميال وأبعدها من جهة نجد ثمانية . انتهى .

وفي كتاب المراسيل لأبي داود قال مالك : العوالي على ثلاثة أميال من المدينة . وأخرج أبو داود في المراسيل من طريق أحمد بن عمرو بن السرح عن ابن وهب عن يونس بن يزيد الأيلي عن ابن شهاب قال " بلغنا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جمع أهل العوالي في مسجده يوم الجمعة . انتهى . قال القرطبي وصاحب التوضيح في حديث عائشة رد لقول الكوفيين إن الجمعة لا تجب على من كان خارج المصر ، لأن عائشة أخبرت عنهم بفعل دائم أنهم كانوا يتناوبون الجمعة فدل على لزومها عليهم . انتهى .

فإن قلت : لو كان حضور أهل العوالي واجبا إلى المدينة ما تناوبوا ولكانوا يحضرون جميعا .

قلت : ليس المراد من قولها ينتابون أن بعض أهل العوالي كانوا يأتون مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - وبعضهم يجمعون في منازلهم ، بل المراد من كان حاضرا في منازلهم حضروا المدينة يوم الجمعة ، لأن فيهم من يتفرق إلى حوائجه من سفر أو عمل ولم يصل [ ص: 283 ] إلى منزله يوم الجمعة ، ومنهم من كان من أصحاب الأعذار لا يستطيع الحضور إلى المدينة ، فكيف يحضرون جميعا . نعم لما وصلوا هؤلاء إلى منازلهم وزالت عنهم الأعذار كانوا يحضرون المسجد ، ومنهم من كان حضر المدينة في الجمعة الأولى لعله غاب للعلة المذكورة في الجمعة الآخرة ولم يصل إلى المدينة .

والحاصل أن بعض هؤلاء يحضرون المدينة في الجمعة الأولى مثلا ، ثم من هؤلاء الحاضرين من يغيب في الجمعة الأخرى ، فصدقت عائشة - رضي الله عنها - في قولها إنهم كانوا ينتابون ، فانتيابهم لأجل هذا لا لعدم المبالاة في حضور الصلاة ، لأن في الرواية المذكورة عن الزهري " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جمع أهل العوالي في مسجده يوم الجمعة " وهذه الرواية مبينة للمراد .

والحديث فيه دليل على لزوم حضور المسجد الجامع لصلاة الجمعة لمن كان على مسافة ثلاثة أميال فما دونها ولا يحسن له التجميع في غيره ، فمن جمع في غيره من غير عذر شرعي فقد خالف السنة وأثم لكن لا تبطل صلاته لأنه ما ورد فيه أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - وما جاء فيه وعيد وأما من كان على أكثر مسافة منها فيجوز له أن يجمع حيث شاء مع الجماعة .

ويؤيده ما أخرجه عن ابن عمر قال " إن أهل قباء كانوا يجمعون مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الجمعة " وسنده حسن . وأخرج الترمذي عن رجل من أهل قباء عن أبيه وكان من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - قال " أمرنا النبي - صلى الله عليه وسلم - أن نشهد الجمعة من قباء " انتهى . وفيه رجل مجهول . وقباء موضع بقرب المدينة من جهة الجنوب نحو ميلين .

وأخرج عبد الرزاق عن معمر عن ثابت قال : كان أنس يكون في أرضه وبينه وبين البصرة ثلاثة أميال فيشهد الجمعة بالبصرة . وأخرج أبو داود في المراسيل من طريق محمد بن سلمة المرادي عن ابن وهب عن ابن لهيعة أن بكير بن الأشج حدثه " أنه كان بالمدينة تسعة مساجد مع مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تسمع أهلها تأذين بلال على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيصلون في مساجدهم " . ولفظ البيهقي في المعرفة : أنبأني أبو عبد الله عن أبي الوليد حدثنا إبراهيم بن علي حدثنا يحيى بن يحيى أخبرنا ابن لهيعة عن بكير بن الأشج قال حدثني أشياخنا " أنهم كانوا يصلون في تسعة مساجد في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهم يسمعون أذان بلال ، فإذا كان يوم الجمعة حضروا كلهم مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " .

وقال أبو بكر بن المنذر : روينا عن ابن عمر أنه كان يقول " لا جمعة إلا في المسجد الأكبر الذي فيه الإمام " انتهى كلام البيهقي . وقال [ ص: 284 ] الحافظ في التلخيص : وروى البيهقي أن أهل ذي الحليفة كانوا يجمعون بالمدينة ، قال : ولم ينقل أنه أذن لأحد في إقامة الجمعة في شيء من مساجد المدينة ولا في القرى التي بقربها . انتهى . قال الأثرم لأحمد بن حنبل : أجمع جمعتين في مصر قال : لا أعلم أحدا فعله . وقال ابن المنذر : لم يختلف الناس أن الجمعة لم تكن تصلى في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وفي عهد الخلفاء الراشدين إلا في مسجد واحد أبين البيان بأن الجمعة خلاف سائر الصلوات ، وأنها لا تصلى إلا في مكان واحد .

وذكر الخطيب في تاريخ بغداد أن أول جمعة أحدثت في الإسلام في بلد مع قيام الجمعة القديمة في أيام المعتصم في دار الخلافة من غير بناء مسجد لإقامة الجمعة ، وسبب ذلك خشية الخلفاء على أنفسهم في المسجد العام ، وذلك في سنة ثمانين ومائتين ، ثم بني في أيام المكتفي مسجد فجمعوا فيه .

وذكر ابن عساكر في مقدمة تاريخ دمشق أن عمر كتب إلى أبي موسى وإلى عمرو بن العاص وإلى سعد بن أبي وقاص أن يتخذ مسجدا جامعا للقبائل فإذا كان يوم الجمعة انضموا إلى المسجد الجامع فشهدوا الجمعة . وقال ابن المنذر : لا أعلم أحدا قال بتعداد الجمعة غير عطاء . انتهى كلام الحافظ .

قال الخازن في تفسيره : ولا تنعقد إلا في موضع واحد من البلد ، وبه قال الشافعي ومالك وأبو يوسف . وقال أحمد : تصح بموضعين إذا كثر الناس وضاق الجامع . وفي رحمة الأمة : والراجح من مذهب الشافعي أن البلد إذا كبر وعسر اجتماع أهله في موضع واحد جاز إقامة جمعة أخرى ، بل يجوز التعدد بحسب الحاجة . وقال داود : الجمعة كسائر الصلوات يجوز لأهل البلد أن يصلوها في مساجدهم . انتهى .

وأنت عرفت أن الجمعة في بلد واحد أو قرية واحدة في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم الخلفاء لم تكن تصلى إلا في المسجد الجامع ولم يحفظ عن السلف خلاف ذلك ، إلا ما روي عن عطاء بن أبي رباح وداود إمام الظاهرية ، وقولهما هذا خلاف السنة الثابتة ، فلا يحتج بقولهما . هذا ملخص من غاية المقصود والمطالب الرفيعة في المسائل النفيسة ، كلاهما لأخينا الأعظم أبي الطيب أدام الله مجده . وحديث عائشة هذا أخرجه البخاري ومسلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية