صفحة جزء
[ ص: 377 ] عبد الملك بن مروان والد الخلفاء الأمويين

وهو عبد الملك بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية ، أبو الوليد الأموي أمير المؤمنين ، وأمه عائشة بنت معاوية بن المغيرة بن أبي العاص بن أمية .

سمع عثمان بن عفان ، وشهد الدار مع أبيه ، وله عشر سنين ، وهو أول من سار بالناس في بلاد الروم سنة ثنتين وأربعين ، وكان أميرا على أهل المدينة وله ست عشرة سنة ، ولاه إياها معاوية ، وكان يجالس الفقهاء والعلماء والعباد والصلحاء .

وروى الحديث عن أبيه ، وجابر ، وأبي سعيد الخدري ، وأبي هريرة ، وابن عمر ، ومعاوية ، وأم سلمة ، وبريرة مولاة عائشة .

وروى عنه جماعة منهم : خالد بن معدان ، وعروة ، والزهري ، وعمرو بن الحارث ، ورجاء بن حيوة ، وجرير بن عثمان .

ذكر عن محمد بن سيرين أن أباه كان قد سماه القاسم ، فكان يكنى بأبي القاسم ، فلما بلغه النهي عن التكني بأبي القاسم ، غير اسمه ; فسماه عبد الملك .

[ ص: 378 ] قال ابن أبي خيثمة ، عن مصعب بن الزبير وكان أول من سمي في الإسلام بعبد الملك .

قال ابن أبي خيثمة : وأول من سمي في الإسلام بأحمد ، والد الخليل بن أحمد العروضي .

وبويع له بالخلافة في سنة خمس وستين في حياة أبيه ، في خلافة ابن الزبير ، وبقي على الشام ومصر مدة سبع سنين ، وابن الزبير على باقي البلاد ثم ، استقل بالخلافة على سائر البلاد والأقاليم ، بعد مقتل ابن الزبير ، وذلك في سنة ثلاث وسبعين إلى هذه السنة ، كما ذكرنا ذلك .

وكان مولده ومولد يزيد بن معاوية في سنة ست وعشرين ، وقد كان عبد الملك قبل الخلافة من العباد الزهاد الفقهاء ، الملازمين للمسجد ، التالين للقرآن ، وكان ربعة من الرجال أقرب إلى القصر .

وكانت أسنانه مشبكة بالذهب ، وكان أفوه مفتوح الفم ، فربما غفل فينفتح فمه فيدخل فيه الذباب ; ولهذا كان يقال له : أبو الذبان ، وكان أبيض ربعة ليس بالنحيف ولا البادن ، مقرون الحاجبين ، أشهل كبير العينين ، دقيق الأنف ، مشرق الوجه ، أبيض الرأس واللحية ، حسن الوجه ، لم يخضب ، [ ص: 379 ] ويقال : إنه خضب بعد ذلك .

وقد قال نافع : لقد رأيت المدينة وما فيها شاب أشد تشميرا ، ولا أفقه ولا أقرأ لكتاب الله من عبد الملك بن مروان .

وقال الأعمش عن أبي الزناد : كان فقهاء المدينة أربعة : سعيد بن المسيب ، وعروة ، وقبيصة بن ذؤيب ، وعبد الملك بن مروان ; قبل أن يدخل في الإمارة .

وعن ابن عمر أنه قال : ولد الناس أبناء ، وولد مروان أبا - يعني عبد الملك - ورآه يوما وقد ذكر اختلاف الناس ، فقال : لو كان هذا الغلام اجتمع الناس عليه . وقال عبد الملك : كنت أجالس بريرة قبل أن ألي هذا الأمر ، فكانت تقول : يا عبد الملك إن فيك خصالا ، وإنك لجدير أن تلي أمر هذه الأمة ، فاحذر الدماء ; فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إن الرجل ليدفع عن باب الجنة أن ينظر إليها على محجمة من دم يريقه من مسلم بغير حق .

[ ص: 380 ] وقد أثنى عليه قبل الولاية معاوية وعمرو بن العاص في قصة طويلة .

وقال سعيد بن داود الزنبري ، عن مالك ، عن يحيى بن سعيد قال : كان أول من صلى ما بين الظهر والعصر عبد الملك بن مروان وفتيان معه ، فقال سعيد بن المسيب : ليست العبادة بكثرة الصلاة والصوم ، إنما العبادة التفكر في أمر الله ، والورع عن محارم الله .

وقال الشعبي : ما جالست أحدا إلا وجدت لي الفضل عليه إلا عبد الملك بن مروان ; فإني ما ذاكرته حديثا إلا زادني فيه ، ولا شعرا إلا زادني فيه .

وذكر خليفة بن خياط ، أن معاوية كتب إلى مروان ، وهو نائبه على المدينة سنة خمسين : أن ابعث ابنك عبد الملك على بعث المدينة إلى بلاد المغرب مع معاوية بن خديج . فذكر من كفايته وغنائه ومجاهدته في تلك البلاد شيئا كثيرا ، ولم يزل عبد الملك مقيما بالمدينة حتى كانت وقعة الحرة ، واستولى ابن [ ص: 381 ] الزبير على بلاد الحجاز ، وأجلى بني أمية من هنالك ، فقدم مع أبيه الشام ، ثم لما صارت الإمارة مع أبيه وبايعه أهل الشام كما تقدم ، أقام في الإمارة تسعة أشهر ، ثم عهد إليه بالإمارة من بعده ، فاستقل عبد الملك بالخلافة في مستهل رمضان أو ربيع الأول من سنة خمس وستين ، واجتمع الناس عليه بعد مقتل ابن الزبير سنة ثلاث وسبعين في جمادى الأولى إلى هذه السنة .

وقال ثعلب عن ابن الأعرابي : لما سلم على عبد الملك بالخلافة كان في حجره مصحف ، فأطبقه ، وقال : هذا فراق بيني وبينك .

وقال أبو الطفيل : صنع لعبد الملك مجلس توسع فيه ، وقد كان بني له فيه قبة قبل ذلك فدخله ، وقال : لقد كان ابن حنتمة الأحوزي - يعني عمر بن الخطاب - يرى أن هذا عليه حرام .

وقيل : إنه لما وضع المصحف من حجره قال : هذا آخر العهد منك . وكان عبد الملك له إقدام على سفك الدماء ، وكان عماله على مذهبه ; منهم الحجاج والمهلب ، وغيرهم ، وكان حازما فهما فطنا ، سائسا لأمور الدنيا ، [ ص: 382 ] لا يكل أمر دنياه إلى غيره ، وأمه عائشة بنت معاوية بن المغيرة بن أبي العاص ، وأبوها معاوية هو الذي جدع أنف حمزة عم النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد .

وقال سعيد بن عبد العزيز : لما خرج عبد الملك إلى العراق لقتال مصعب بن الزبير ، خرج معه يزيد بن الأسود الجرشي ، فلما التقوا قال : اللهم احجز بين هذين الجبلين ، وول الأمر أحبهما إليك . فظفر عبد الملك ، وقد ذكرنا كيفية قتله مصعبا ، ودخوله الكوفة ، ووضعه رأس مصعب بين يديه ، وقد كان من أعز الناس عليه ، وأحبهم إليه .

وقال سعيد بن عبد العزيز : لما بويع لعبد الملك بالخلافة ، كتب إليه عبد الله بن عمر بن الخطاب : بسم الله الرحمن الرحيم ، من عبد الله بن عمر إلى عبد الله عبد الملك أمير المؤمنين ، سلام عليك ، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو ، أما بعد : فإنك راع ، وكل راع مسئول عن رعيته الله لا إله إلا هو ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه ومن أصدق من الله حديثا ؟ لا أحد ، والسلام .

وبعث به مع سالم ، فوجدوا عليه ; إذ قدم اسمه على اسم أمير المؤمنين ، ثم نظروا في كتبه إلى معاوية فوجدوها كذلك ، فاحتملوا ذلك منه .

[ ص: 383 ] وقال الواقدي : حدثني ابن أبي سبرة ، عن أبي موسى الحناط ، عن ابن كعب قال : سمعت عبد الملك بن مروان يقول : يا أهل المدينة ، إن أحق الناس أن يلزم الأمر الأول لأنتم ، وقد سالت علينا أحاديث من قبل هذا المشرق ولا نعرفها ، ولا نعرف منها إلا قراءة القرآن ، فالزموا ما في مصحفكم الذي جمعكم عليه الإمام المظلوم ، وعليكم بالفرائض التي جمعكم عليها إمامكم المظلوم رحمه الله ، فإنه قد استشار في ذلك زيد بن ثابت ، ونعم المشير كان للإسلام رحمه الله ، فأحكما ما أحكما وأسقطا ما شذ عنهما .

وقال ابن جريج عن أبيه : حج علينا عبد الملك سنة خمس وسبعين بعد مقتل ابن الزبير بعامين ، فخطبنا فقال : أما بعد ، فإنه كان من قبلي من الخلفاء يأكلون من المال ، ويؤكلون ، وإني والله لا أداوي أدواء هذه الأمة إلا بالسيف ، ولست بالخليفة المستضعف - يعني عثمان - ولا الخليفة المداهن - يعني معاوية - ولا الخليفة المأبون - يعني يزيد بن معاوية - أيها الناس ، إنا نحتمل منكم كل اللغوبة ما لم يكن عقد راية ، أو وثوب على منبر .

هذا عمرو بن سعيد ، حقه حقه ، وقرابته قرابته ، قال برأسه هكذا ، فقلنا [ ص: 384 ] بسيفنا هكذا ، وإن الجامعة التي خلعها من عنقه عندي ، وقد أعطيت الله عهدا أن لا أضعها في رأس أحد إلا أخرجها الصعداء ، فليبلغ الشاهد الغائب .

وقال الأصمعي : ثنا عباد بن سلم بن عثمان بن زياد ، عن أبيه عن جده ، قال : ركب عبد الملك بن مروان بكرا ، فأنشأ قائده يقول :


يا أيها البكر الذي أراكا عليك سهل الأرض في ممشاكا     ويحك هل تعلم من علاكا
خليفة الله الذي امتطاكا     لم يحب بكرا مثل ما حباكا

فلما سمعه عبد الملك قال : إيها يا هناه ، قد أمرت لك بعشرة آلاف .

وقال الأصمعي : خطب عبد الملك فحصر فقال : إن اللسان بضعة من الإنسان ، وإنا نسكت حصرا ، ولا ننطق هذرا ، ونحن أمراء الكلام ، فينا رسخت عروقه ، وعلينا تدلت أغصانه ، وبعد مقامنا هذا مقام ، وبعد عينا هذا مقال ، وبعد يومنا هذا أيام ، يعرف فيها فصل الخطاب ، وموضع الصواب .

قال الأصمعي : قيل لعبد الملك : أسرع إليك الشيب . فقال : وكيف لا وأنا أعرض عقلي على الناس في كل جمعة مرة أو مرتين !

[ ص: 385 ] وقال غيره : قيل لعبد الملك : أسرع إليك الشيب . فقال : شيبني كثرة ارتقاء المنبر ، ومخافة اللحن . ولحن رجل عند عبد الملك ، فقال له آخر : زد ألف . فقال له عبد الملك : وأنت فزد ألفا .

وقال الزهري : سمعت عبد الملك يقول في خطبته : إن العلم سيقبض قبضا سريعا ، فمن كان عنده علم فليظهره ، غير غال فيه ولا جاف عنه .

وروى ابن أبي الدنيا ، أن عبد الملك كان يقول لمن يسايره في سفره إذا رفعت له شجرة : سبحوا بنا حتى نأتي تلك الشجرة ، وكبروا بنا حتى نأتي تلك الحجر ، ونحو ذلك .

وروى البيهقي أن عبد الملك وقع منه فلس في بئر قذرة ، فاكترى عليه بثلاثة عشر دينارا حتى أخرجه منها ، فقيل له في ذلك ، فقال : إنه كان عليه اسم الله عز وجل .

وقال غير واحد : كان عبد الملك إذا جلس للقضاء بين الناس ، يقوم السيافون على رأسه بالسيوف ، فينشد - وقال بعضهم : يأمر من ينشد [ ص: 386 ] فيقول :


إنا إذا نالت دواعي الهوى     وأنصت السامع للقائل
واصطرع الناس بألبابهم     نقضي بحكم عادل فاصل
لا نجعل الباطل حقا ولا     نلط دون الحق بالباطل
نخاف أن تسفه أحلامنا     فنخمل الدهر مع الخامل

وقال الأعمش : أخبرني محمد بن الزبير ، أن أنس بن مالك كتب إلى عبد الملك يشكو الحجاج ، ويقول في كتابه : لو أن رجلا خدم عيسى ليلة واحدة ، أو خدمه فعرفته النصارى لنزل عندهم ، ولعرفوا له ذلك ، ولو أن رجلا خدم موسى أو رآه فعرفته اليهود فذكر نحوه ، وإني خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه ، وإن الحجاج قد أضر بي وفعل وفعل . قال : فأخبرني من شهد عبد الملك يقرأ الكتاب وهو يبكي ، وبلغ به الغضب ما شاء الله ، ثم كتب إلى الحجاج بكتاب غليظ ، فجاء إلى الحجاج ، فقرأه فتغير وجهه ، ثم قال إلى [ ص: 387 ] حامل الكتاب : انطلق بنا إليه نترضاه .

وقال أبو بكر بن دريد : كتب عبد الملك إلى الحجاج في أيام ابن الأشعث : إنك أعز ما تكون بالله أحوج ما تكون إليه ، وإذا عززت بالله فاعف له ، فإنك به تعز وإليه ترجع .

قال بعضهم : سأل رجل من عبد الملك أن يخلو به ، فأمر من عنده بالانصراف ، فلما تهيأ الرجل ليتكلم ، قال له عبد الملك : إياك أن تمدحني ; فإني أعلم بنفسي منك ، أو تكذبني ; فإنه لا رأي لكذوب ، أو تسعى إلي بأحد ، وإن شئت أقلتك . فقال الرجل : أقلني . فأقاله .

وكذا كان يقول للرسول إذا قدم عليه من الآفاق : اعفني من أربع ، وقل ما شئت ; لا تطرني ، ولا تجبني فيما لا أسألك عنه ، ولا تكذبني ، ولا تحملني على الرعية ; فإنهم إلى رأفتي ومعدلتي أحوج .

وقال الأصمعي ، عن أبيه ، قال : أتي عبد الملك برجل كان مع بعض من خرج عليه ، فقال : اضربوا عنقه . فقال : يا أمير المؤمنين ، ما كان هذا جزائي [ ص: 388 ] منك! فقال : وما جزاؤك؟ فقال : والله ما خرجت مع فلان إلا بالنظر لك ، وذلك أني رجل مشئوم ، ما كنت مع رجل قط إلا غلب وهزم ، وقد بان لك صحة ما ادعيت ، وكنت عليك خيرا من مائة ألف معك . فضحك وخلى سبيله .

وقيل لعبد الملك : أي الرجال أفضل؟ قال : من تواضع عن رفعة ، وزهد عن قدرة ، وترك النصرة عن قوة .

وقال أيضا : لا طمأنينة قبل الخبرة ، فإن الطمأنينة قبل الخبرة ضد الحزم .

وقال : خير المال ما أفاد حمدا ودفع ذما ، ولا يقولن أحدكم : ابدأ بمن تعول ، فإن الخلق كلهم عيال الله . وينبغي أن يحمل هذا على غير ما ثبت به الحديث .

وقال المدائني : قال عبد الملك لمؤدب أولاده - وهو إسماعيل بن عبيد الله بن أبي المهاجر - : علمهم الصدق كما تعلمهم القرآن ، وجنبهم السفلة ; فإنهم [ ص: 389 ] أسوأ الناس رعة ، وأقلهم أدبا ، وجنبهم الحشم ; فإنهم لهم مفسدة ، وأحف شعورهم ، تغلظ رقابهم ، وأطعمهم اللحم يقووا ، وعلمهم الشعر يمجدوا وينجدوا ، ومرهم أن يستاكوا عرضا ، ويمصوا الماء مصا ، ولا يعبوا عبا ، وإذا احتجت أن تتناولهم بأدب ; فليكن ذلك في سر لا يعلم بهم أحد من الغاشية ، فيهونوا عليهم .

وقال الهيثم بن عدي : أذن عبد الملك للناس في الدخول عليه إذنا خاصا ، فدخل شيخ رث الهيئة لم يأبه له الحرس ، فألقى بين يدي عبد الملك صحيفة ، وخرج فلم يدر أين ذهب ، وإذا فيها :

بسم الله الرحمن الرحيم ، يا أيها الإنسان إن الله قد جعلك بينه وبين عباده ; فاحكم بينهم بالحق ، ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب ( ص : 26 ) ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم يوم يقوم الناس لرب العالمين ( المطففين : 4 - 6 ) . ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود وما نؤخره إلا لأجل معدود ( هود : 103 ، 104 ) إن الذي أنت فيه لو بقي لغيرك ما وصل إليك ، فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا ( النمل : 52 ) [ ص: 390 ] وإني أحذرك يوم ينادي المنادي احشروا الذين ظلموا وأزواجهم ( الصافات : 22 ) ، أن لعنة الله على الظالمين ( الأعراف : 44 ) قال : فتغير وجه عبد الملك فدخل دار حرمه ، ولم تزل الكآبة في وجهه بعد ذلك أياما .

وكتب زر بن حبيش إلى عبد الملك كتابا ، وفي آخره : ولا يطمعك يا أمير المؤمنين في طول البقاء ما يظهر لك من صحتك ، فأنت أعلم بنفسك ، واذكر ما تكلم به الأولون :


إذا الرجال ولدت أولادها     وبليت من كبر أجسادها
وجعلت أسقامها تعتادها     تلك زروع قد دنا حصادها

فلما قرأه عبد الملك بكى حتى بل طرف ثوبه ، ثم قال : صدق زر ، ولو كتب إلينا بغير هذا كان أرفق .

وسمع عبد الملك جماعة من أصحابه يذكرون سيرة عمر بن الخطاب ، فقال : إيها عن ذكر عمر ؛ فإنه إزراء على الولاة ، مفسدة للرعية .

وقال إبراهيم بن هشام بن يحيى الغساني عن أبيه ، عن جده ، قال : كان [ ص: 391 ] عبد الملك يجلس في حلقة أم الدرداء في مؤخر المسجد بدمشق ، فقالت له : بلغني أنك شربت الطلاء بعد العبادة والنسك . فقال : إي والله ، والدماء أيضا قد شربتها ، ثم جاءه غلام كان قد بعثه في حاجة ، فقال : ما حبسك ، لعنك الله ؟ فقالت أم الدرداء : لا تفعل يا أمير المؤمنين ، فإني سمعت أبا الدرداء يقول : سمعت رسول الله صلى اله عليه وسلم يقول : لا يدخل الجنة لعان .

وقال أبو بكر بن أبي الدنيا : ثنا الحسين بن عبد الرحمن ، قال : قيل لسعيد بن المسيب : إن عبد الملك بن مروان قال : قد صرت لا أفرح بالحسنة أعملها ، ولا أحزن على السيئة أرتكبها . فقال سعيد : الآن تكامل موت قلبه .

وقال الأصمعي عن أبيه قال : خطب عبد الملك يوما خطبة بليغة ، ثم قطعها وبكى بكاء شديدا ، ثم قال : يا رب إن ذنوبي عظيمة ، وإن قليل عفوك أعظم منها ، اللهم فامح بقليل عفوك عظيم ذنوبي . قال : فبلغ ذلك الحسن فبكى ، وقال : لو كان كلام يكتب بالذهب لكتب هذا الكلام . وقد روي عن غير واحد نحو ذلك .

وقال أبو مسهر الدمشقي : وضع سماط عبد الملك يوما بين يديه [ ص: 392 ] فقال لحاجبه : ائذن لخالد بن عبد الله بن خالد بن أسيد . فقال : مات يا أمير المؤمنين . قال : فأمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد . قال : مات . قال : فلخالد بن يزيد بن معاوية . قال : مات . قال : فلفلان وفلان لأقوام قد ماتوا - وهو يعلم ذلك - فبكى ، وأمر برفع السماط ، وأنشأ يقول :


ذهبت لداتي وانقضت أيامهم     وغيرت بعدهم ولست بخالد

وقيل : إنه لما احتضر دخل عليه ابنه الوليد فبكى ، فقال له عبد الملك : ما هذا ؟ أتحن حنين الجارية والأمة ؟ إذا أنا مت فشمر واتزر والبس جلد النمر ، وضع الأمور عند أقرانها ، واحذر قريشا ، ثم قال له : يا وليد ، اتق الله فيما أستخلفك فيه ، واحفظ وصيتي ، وانظر إلى أخي معاوية فصل رحمه ، واحفظني فيه ، وانظر إلى أخي محمد فأقره على الجزيرة ، ولا تعزله عنها ، وانظر ابن عمنا علي بن عبد الله بن عباس فإنه قد انقطع إلينا بمودته ونصيحته ، وله نسب وحق ، فصل رحمه واعرف حقه ، وانظر الحجاج بن يوسف فأكرمه ; فإنه هو الذي مهد لكم البلاد ، وقهر الأعداء ، وأخلص لكم الملك ، وشتت الخوارج ، وأنهاك وإخوتك عن الفرقة ، وكونوا أولاد أم واحدة ، وكونوا في [ ص: 393 ] الحرب أحرارا ، وللمعروف منارا ; فإن الحرب لم تدن منية قبل وقتها ، وإن المعروف يشيد ذكر صاحبه ، ويميل القلوب بالمحبة ، ويذلل الألسنة بالذكر الجميل ، ولله در القائل :


إن الأمور إذا اجتمعن فرامها     بالكسر ذو حنق وبطش باليد
عزت فلم تكسر وإن هي بددت     فالكسر والتوهين للمتبدد

ثم قال : إذا أنا مت فادع الناس إلى بيعتك ، فمن أبى فالسيف ، وعليك بالإحسان إلى إخوانك فأكرمهن ، وأحبهن إلي فاطمة - وكان قد أعطاها قرطي مارية والدرة اليتيمة - ثم قال : اللهم احفظني فيها ، فتزوجها عمر بن عبد العزيز وهو ابن عمها .

ولما احتضر سمع غسالا يغسل الثياب ، فقال : ما هذا ؟ فقالوا : غسال . فقال : يا ليتني كنت غسالا ، أكسب ما أعيش به يوما بيوم ، ولم أل الخلافة ، ثم تمثل فقال :

[ ص: 394 ]

لعمري لقد عمرت في الملك برهة     ودانت لي الدنيا بوقع البواتر
وأعطيت جم المال والحكم والنهى     ودان قماقيم الملوك الجبابر
فأضحى الذي قد كان مما يسرني     كحلم مضى في المزمنات الغوابر
فيا ليتني لم أعن بالملك ليلة     ولم أسع في لذات عيش نواضر
وكنت كذي طمرين عاش ببلغة     من العيش حتى زار ضيق المقابر

وقد أنشد هذه الأبيات معاوية بن أبي سفيان عند موته .

وقال أبو مسهر : قيل لعبد الملك في مرض موته : كيف تجدك ؟ فقال : أجدني كما قال الله تعالى ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم الآية .

وقال سعيد بن عبد العزيز : لما احتضر عبد الملك أمر بفتح الأبواب من [ ص: 395 ] قصره ، فسمع قصارا ، فقال : ما هذا ؟ قالوا : قصار . فقال : يا ليتني كنت قصارا . فلما بلغ سعيد بن المسيب قوله ، قال : الحمد لله الذي جعلهم يفرون إلينا ولا نفر إليهم .

وقال غيره : لما حضره الموت جعل يندم ويضرب بيده على رأسه ، ويقول : وددت أني أكسب قوتي يوما بيوم ، واشتغلت بطاعة الله .

وقال غيره : لما حضرته الوفاة دعا بنيه فوصاهم ، ثم قال : الحمد لله الذي لا ينسى أحدا من خلقه صغيرا أو كبيرا ، ثم ينشد :


فهل من خالد إما هلكنا     وهل بالموت يا للناس عار

ويروى أنه قال : ارفعوني ، فرفعوه حتى شم الهواء ، وقال : يا دنيا ، ما أطيبك ! إن طويلك لقصير ، وإن كثيرك لحقير ، وإن كنا بك لفي غرور . ثم تمثل بهذين البيتين ، ويروى أن معاوية قالهما في هذه الحال :

[ ص: 396 ]

إن تناقش يكن نقاشك يا رب     عذابا لا طوق لي بالعذاب
أو تجاوز فأنت رب صفوح     عن مسيء ذنوبه كالتراب

قالوا : وكانت وفاته بدمشق يوم الجمعة . وقيل : يوم الأربعاء . وقيل : الخميس في النصف من شوال . وقيل : لخمس مضين منه سنة ست وثمانين ، وصلى عليه ابنه الوليد ولي عهده من بعده ، وكان عمره يوم مات ستين سنة ، قاله : أبو معشر ، وصححه الواقدي . وقيل : ثلاثا وستين سنة ، قاله المدائني . وقيل : ثمان وخمسين . ودفن بباب الجابية الصغير .

قال ابن جرير : ذكر أولاده وأزواجه : منهم الوليد ، وسليمان ، ومروان الأكبر - درج - وعائشة ، وأمهم ولادة بنت العباس بن جزء بن الحارث بن زهير بن جذيمة بن رواحة بن ربيعة بن مازن بن الحارث بن قطيعة بن عبس بن بغيض .

ويزيد ، ومروان الأصغر ، ومعاوية - درج - وأم كلثوم ، وأمهم عاتكة بنت يزيد بن معاوية بن أبي سفيان . وهشام ، وأمه أم هشام عائشة - فيما قاله [ ص: 397 ] المدائني - بنت هشام بن إسماعيل المخزومي . وأبو بكر ، واسمه بكار ، وأمه عائشة بنت موسى بن طلحة بن عبيد الله التيمي ، والحكم - درج - وأمه أم أيوب بنت عمرو بن عثمان بن عفان الأموي ، وفاطمة ، وأمها المغيرة بنت المغيرة بن خالد بن العاص بن هشام بن المغيرة المخزومي . وعبد الله ، ومسلمة ، والمنذر ، وعنبسة ، ومحمد ، وسعد الخير ، والحجاج لأمهات أولاد شتى .

فكان جملة أولاده تسعة عشر ; ذكورا وإناثا ، وكانت مدة خلافته إحدى وعشرين سنة منها تسع سنين مشاركالابن الزبير ، وثلاث عشرة سنة وثلاثة أشهر ونصف مستقلا بالخلافة وحده .

وكان قاضيه أبو إدريس الخولاني ، وكاتبه روح بن زنباع ، وحاجبه يوسف مولاه ، وصاحب بيت المال والخاتم قبيصة بن ذؤيب ، وعلى شرطته أبو الزعيزعة ، وقد ذكرنا عماله فيما مضى .

قال المدائني : وكان له زوجات أخر شقراء بنت سلمة بن حلبس الطائي ، وابنة لعلي بن أبي طالب ، وأم أبيها بنت عبد الله بن جعفر .

التالي السابق


الخدمات العلمية