صفحة جزء
[ ص: 405 ] ثم دخلت سنة سبع وثمانين

ففيها عزل الوليد بن عبد الملك هشام بن إسماعيل عن إمرة المدينة ، وولى عليها ابن عمه وزوج أخته - فاطمة بنت عبد الملك - عمر بن عبد العزيز فدخلها في ثلاثين بعيرا في ربيع الأول منها ، فنزل دار مروان وجاء الناس للسلام عليه - وعمره إذ ذاك خمس وعشرون سنة - فلما صلى الظهر دعا عشرة من فقهاء المدينة وهم : عروة بن الزبير ، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة ، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام ، وأبو بكر بن سليمان بن أبي خيثمة ، وسليمان بن يسار ، والقاسم بن محمد ، وسالم بن عبد الله بن عمر ، وأخوه عبيد الله بن عبد الله بن عمر ، وعبد الله بن عامر بن ربيعة ، وخارجة بن زيد بن ثابت ، فدخلوا عليه فجلسوا ، فحمد الله ، وأثنى عليه بما هو أهله ، ثم قال : إني إنما دعوتكم لأمر تؤجرون عليه ، وتكونون فيه أعوانا على الحق ، إني لا أريد أن أقطع أمرا إلا برأيكم ، أو برأي من حضر منكم ، فإن رأيتم أحدا يتعدى ، أو بلغكم عن عامل لي ظلامة ، فأحرج على من بلغه [ ص: 406 ] ذلك إلا أبلغني ، فخرجوا من عنده يجزونه خيرا ، وافترقوا على ذلك .

وكتب الوليد إلى عمر بن عبد العزيز بأن يوقف هشام بن إسماعيل للناس عند دار مروان ، وكان سيئ الرأي فيه ; لأنه أساء إلى الناس بالمدينة في مدة ولايته عليهم ، وكانت نحوا من أربع سنين ، ولا سيما إلى سعيد بن المسيب ، وإلى علي بن الحسين وأهل بيته ، فلما أوقف للناس قال هشام : ما أخاف إلا من سعيد وعلي بن الحسين . فقال سعيد بن المسيب لابنه ومواليه : لا يعرض منكم أحد لهذا الرجل ، فإني تركت ذلك لله وللرحم ، وأما كلامه فلا أكلمه أبدا . وأما علي بن الحسين فإنه مر به وهو موقوف عند دار مروان فلم يتعرض له ، وكان قد تقدم إلى خاصته أن لا يعرض له أحد منهم ، فلما اجتاز به علي بن الحسين وتجاوزه ، ناداه هشام بن إسماعيل فقال : " الله أعلم حيث يجعل رسالاته " .

وفي هذه السنة غزا مسلمة بن عبد الملك بلاد الروم فقتل منهم خلقا كثيرا ، وفتح حصونا كثيرة ، وغنم غنائم جمة ، ويقال : إن الذي غزا بلاد الروم في هذه السنة هشام بن عبد الملك ، ففتح حصن بولق ، وحصن الأخرم ، وبحيرة الفرسان ، وحصن بولس وقميقم ، وقتل من المستعربة نحوا من ألف ، وسبى ذراريهم ، وفيها غزا قتيبة بن مسلم بلاد الترك ، وصالحه ملكهم نيزك على [ ص: 407 ] مال جزيل ، وعلى أن يطلق كل من ببلاده من أسارى المسلمين .

وفيها غزا قتيبة بيكند فاجتمع له من الأتراك عندها بشر كثير وجم غفير ، وهي من أعمال بخارى فلما نزل بأرضهم استنجدوا عليه بأهل الصغد ومن حولهم من الأتراك ، فأتوهم في جمع عظيم ، فأخذوا على قتيبة الطرق والمضايق ، فتواقف هو وهم قريبا من شهرين ، وهو لا يقدر أن يبعث إليهم رسولا ، ولا يأتيه من جهتهم رسول ، وأبطأ خبره على الحجاج حتى خاف عليه ، وأشفق على من معه من المسلمين من كثرة الأعداء من الترك ، فأمر الناس بالدعاء لهم في المساجد ، وكتب بذلك إلى الأمصار .

وقد كان قتيبة ومن معه من المسلمين يقتتلون مع الترك في كل يوم ، وكان لقتيبة عين من العجم يقال له : تندر ، فأعطاه أهل بخارى مالا جزيلا على أن يأتي قتيبة فيخذله عنهم ، فجاء إليه فقال له : أخلني ، فأخلاه ، فلم يبق عنده سوى رجل يقال له : ضرار بن حصين ، فقال له تندر : هذا عامل يقدم عليك سريعا بعزل الحجاج ، فلو انصرفت بالناس إلى مرو . فقال قتيبة لمولاه سياه : اضرب عنقه ، فقتله ، ثم قال قتيبة لضرار : لم يبق أحد سمع هذا غيري وغيرك ، وإني أعطي الله عهدا إن ظهر هذا الخبر حتى ينقضي حربنا لألحقنك به ، فاملك عليك لسانك ، فإن انتشار هذا يفت في أعضاد الناس ، ثم نهض قتيبة فحرض الناس على الحرب ، ووقف على أصحاب الرايات يحرضهم ، فاقتتل الناس قتالا شديدا ، وأنزل الله على المسلمين الصبر ، فما انتصف النهار [ ص: 408 ] حتى أنزل الله عليهم النصر ، فهزمت الترك هزيمة عظيمة ، واتبعهم المسلمون يقتلون فيهم ، ويأسرون ما شاءوا ، واعتصم من بقي منهم بالمدينة ، فأمر قتيبة الفعلة بهدمها ، فسألوه الصلح على مال عظيم فصالحهم ، وجعل عليهم رجلا من أهله ، وعنده طائفة من الجيش ، ثم سار راجعا ، فلما كان منهم على خمس مراحل نقضوا العهد ، وقتلوا الأمير ، وجدعوا أنوف من كان معه ، فرجع إليهم وحاصرها شهرا ، وأمر النقابين والفعلة فعلقوا سورها على الخشب ، وهو يريد أن يضرم النار فيها ، فسقط السور ، فقتل من الفعلة أربعين نفسا ، فسألوه الصلح فأبى ، ولم يزل حتى افتتحها ، فقتل المقاتلة ، وسبى الذرية وغنم الأموال .

وكان الذي ألب على المسلمين رجل أعور منهم ، فأسر فقال : أنا أفتدي نفسي بخمسة أثواب صينية ، قيمتها ألف ألف ، فأشار الأمراء على قتيبة بقبول ذلك منه ، فقال قتيبة : لا والله لا أروع بك مسلما مرة ثانية ، وأمر به فضربت عنقه ، وقد غنم المسلمون من بيكند شيئا كثيرا من آنية الذهب والفضة والأصنام من الذهب ، وكان فيها صنم سبك فخرج منه مائة ألف وخمسون ألف دينار من الذهب ، ووجدوا في خزائن الملك أموالا كثيرة وسلاحا كثيرا وعددا متنوعة ، وجواهر نفيسة ، وأخذوا من السبي شيئا كثيرا ، فكتب قتيبة إلى الحجاج في أن يعطي ذلك للجند ، فأذن له فتمول المسلمون مالا كثيرا جدا ، وصارت لهم [ ص: 409 ] أسلحة وعدد ، وتقووا على الأعداء قوة عظيمة ، ولله الحمد والمنة .

وقد حج بالناس في هذه السنة عمر بن عبد العزيز نائب المدينة ، وقاضيه بها أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم ، وعلى العراق والمشرق بكماله الحجاج بن يوسف الثقفي ، ونائبه على البصرة الجراح بن عبد الله الحكمي ، وقاضيه بها عبد الله بن أذينة ، وعامله على الحرب بالكوفة زياد بن جرير بن عبد الله البجلي ، وقاضيه بها أبو بكر بن أبي موسى الأشعري ، ونائبه على خراسان وأعمالها قتيبة بن مسلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية