صفحة جزء
[ ص: 631 ] ثم دخلت سنة ثمان وتسعين

ففي هذه السنة جهز سليمان بن عبد الملك أمير المؤمنين أخاه مسلمة بن عبد الملك لغزو القسطنطينية وراء الجيش الذين هم بها ، فسار إليها ومعه جيش عظيم ، ثم التف عليه ذلك الجيش الذين هم هناك ، وقد أمر كل رجل من الجيش أن يحمل معه على ظهر فرسه مدين من طعام ، فلما وصل إليها جمعوا ذلك ، فإذا هو أمثال الجبال فقال لهم مسلمة : اتركوا هذا الطعام وكلوا مما تجدونه في بلادهم ، وازرعوا في أماكن الزرع واستغلوه ، وابنوا لكم بيوتا من خشب ، فإنا لا نرجع عن هذه البلد حتى نفتحها إن شاء الله .

وقد داخل مسلمة رجل من النصارى يقال له : إليون . وواطأه في الباطن ليأخذ له بلاد الروم ، فظهر منه نصح في بادئ الأمر ، ثم إنه توفي ملك القسطنطينية فدخل إليون في رسالة من مسلمة ، وقد خافته الروم خوفا شديدا ، فلما دخل إليهم إليون قالوا له : رده عنا ونحن نملكك علينا . فخرج فأعمل الحيلة في الغدر والمكر ، ولم يزل قبحه الله حتى أحرق ذلك الطعام الذي للمسلمين ، وذلك لأنه قال لمسلمة : إنهم ما داموا يرون هذا الطعام عندك يظنون أنك تطاولهم في القتال ، فلو أحرقته لتحققوا منك العزم ، وسلموا لك البلد سريعا ، فأمر مسلمة [ ص: 632 ] بالطعام فأحرق ، ثم انشمر إليون في السفن وأخذ ما أمكنه من أمتعة الجيش في الليل ، وأصبح وهو بالبلد محاربا للمسلمين ، وأظهر العداوة الأكيدة ، وتحصن بالبلد ، واجتمعت عليه الروم ، وضاق الحال على المسلمين ، حتى أكلوا كل شيء إلا التراب ، فلم يزل ذلك دأبهم حتى جاءتهم وفاة سليمان بن عبد الملك وتولية عمر بن عبد العزيز ، على ما سيأتي ، فكروا راجعين إلى الشام وقد جهدوا جهدا شديدا ، لكن لم يرجع مسلمة حتى بنى مسجدا بالقسطنطينية شديد البناء محكما ، رحب الفناء ، شاهقا في السماء .

وقال الواقدي : لما ولي سليمان بن عبد الملك أراد الإقامة ببيت المقدس ، ثم أرسل العساكر إلى القسطنطينية فأشار عليه موسى بن نصير بأن يفتح ما دونها من المدن والرساتيق والحصون ، حتى يبلغ المدينة فلا يأتيها إلا وقد هدمت حصونها ووهنت قوتها ، فإذا فعلت ذلك لم يبق بينك وبينها مانع ، فيعطوا بأيديهم ويسلموا لك البلد ، ثم استشار أخاه مسلمة فأشار عليه بأن يدع ما دونها من البلاد ويفتحها عنوة ، فمتى ما فتحت فإن باقي ما دونها من البلاد والحصون بيدك . فقال سليمان : هذا هو الرأي . ثم أخذ في تجهيز الجيوش من الشام والجزيرة فجهز في البر مائة وعشرين ألفا ، وفي البحر مائة وعشرين ألفا من المقاتلة وأخرج لهم الأعطية وأنفق فيهم الأموال الكثيرة وأعلمهم بغزو القسطنطينية والإقامة عليها إلى أن يفتحوها ، ثم سار سليمان من بيت المقدس فدخل دمشق وقد اجتمعت له العساكر فأمر عليهم أخاه مسلمة ، ثم قال : [ ص: 633 ] سيروا على بركة الله ، وعليكم بتقوى الله والصبر والتناصح والتناصف . ثم سار سليمان حتى نزل مرج دابق فاجتمع إليه الناس أيضا من المطوعة المحتسبين أجورهم على الله ، فاجتمع له جند عظيم لم ير مثله ، ثم أمر مسلمة أن يرحل بالجيوش وأخذ معه إليون الرومي المرعشي ، ثم ساروا حتى نزلوا على القسطنطينية فحاصرها إلى أن برح بهم ، وعرض أهلها الجزية على مسلمة ، فأبى إلا أن يفتحها عنوة ، قالوا : فابعث إلينا إليون نشاوره . فأرسله إليهم ، فقالوا له : رد هذه العساكر عنا ونحن نعطيك ونملكك علينا . فرجع إلى مسلمة ، فقال له : قد أجابوا إلى فتحها غير أنهم لا يفتحونها ما لم تنح عنهم . فقال مسلمة : إني أخشى غدرك ، فحلف له أن يدفع إليه مفاتيحها وما فيها ، فلما تنحى عنهم أخذوا في ترميم ما تهدم من أسوارها واستعدوا للحصار . وغدر إليون بالمسلمين ، قبحه الله .

قال ابن جرير وفي هذه السنة أخذ سليمان بن عبد الملك العهد لولده أيوب أن يكون الخليفة من بعده ، وذلك بعد موت أخيه مروان بن عبد الملك بن مروان ، فعدل عن ولاية أخيه يزيد إلى ولاية ولده أيوب ، وتربص بأخيه الدوائر فمات أيوب في حياة أبيه ، فبايع سليمان لابن عمه عمر بن عبد العزيز أن يكون الخليفة من بعده ، ولنعم ما فعل . وفيها فتحت مدينة الصقالبة . قال [ ص: 634 ] الواقدي : وقد أغارت البرجان على جيش مسلمة وهو في قلة من الناس ، في هذه السنة . فبعث إليه سليمان جيشا فقاتل البرجان حتى هزمهم الله عز وجل .

وفي هذه السنة غزا يزيد بن المهلب دهستان من أرض الصين فحاصرها وقاتل عندها قتالا شديدا ، ولم يزل حتى تسلمها ، وقتل من الترك الذين بها أربعة آلاف صبرا ، وأخذ منها من الأموال والأثاث والأمتعة ما لا يحد ولا يوصف كثرة وقيمة وحسنا ، ثم سار منها إلى جرجان فاستجاش صاحبها بالديلم ، فقدموا لنجدته فقاتلهم يزيد بن المهلب وقاتلوه ، فحمل محمد بن عبد الرحمن بن أبي سبرة الجعفي وكان فارسا شجاعا باهرا على ملك الديلم فقتله وهزمهم الله عز وجل ، ولقد بارز ابن أبي سبرة هذا يوما بعض فرسان الترك ، فضربه التركي بالسيف على البيضة فنشب فيها ، وضربه ابن أبي سبرة فقتله ، ثم أقبل إلى المسلمين وسيفه يقطر دما وسيف التركي ناشب في خوذته ، فنظر إليه يزيد بن المهلب ، فقال : ما رأيت منظرا أحسن من هذا ، من هذا الرجل؟ قالوا : ابن أبي سبرة . فقال : نعم الرجل لولا انهماكه في الشراب . ثم صمم يزيد بن المهلب على محاصرة جرجان وما زال يضيق على صاحبها حتى صالحه على سبعمائة ألف درهم وأربعمائة ألف دينار ، ومائتي ألف ثوب ، وأربعمائة حمار موقرة زعفرانا ، وأربعمائة رجل ، على رأس كل رجل ترس ، [ ص: 635 ] على الترس طيلسان ، وجام من فضة ، وسرقة من حرير .

وهذه المدينة كان سعيد بن العاص قد افتتحها صلحا على أن يؤدوا الخراج في كل سنة ، فكانوا يحملون في كل سنة مائة ألف ، وفي سنة مائتي ألف ، وفي بعض السنين ثلاثمائة ألف ، ويمنعون ذلك في بعض السنين ، ثم امتنعوا جملة وكفروا ، فغزاهم يزيد بن المهلب وردها صلحا على ما كانت عليه في زمن سعيد بن العاص . قالوا : وأصاب يزيد بن المهلب من جرجان أموالا كثيرة جدا ، فكان من جملتها تاج فيه جواهر نفيسة ، فقال : أترون أحدا يزهد في هذا؟ قالوا : لا . فدعا بمحمد بن واسع وكان في الجيش مغازيا فعرض عليه أخذ التاج ، فقال : لا حاجة لي فيه . فقال : أقسمت عليك لتأخذنه . فأخذه وخرج به من عنده ، فأمر يزيد رجلا أن يتبعه فينظر ماذا يصنع بالتاج؟ فمر بسائل ، فطلب منه شيئا ، فأعطاه التاج بكماله وانصرف . فبعث يزيد إلى ذلك السائل فأخذ منه التاج وعوضه عنه مالا كثيرا .

وقال علي بن محمد المدائني : قال أبو بكر الهذلي : كان شهر بن حوشب على خزائن يزيد بن المهلب فرفعوا إليه أنه أخذ خريطة فيها مائة دينار ، فسأله عنها فقال : نعم . وأحضرها ، فقال له يزيد : هي لك . ثم استدعى [ ص: 436 ] الذي وشى به فشتمه .

فقال في ذلك القطامي الكلبي ، ويقال : إنها لسنان بن مكمل النميري :


لقد باع شهر دينه بخريطة فمن يأمن القراء بعدك يا شهر     أخذت به شيئا طفيفا وبعته
من ابن جونبوذ ان هذا هو الغدر

وقال مرة النخعي :


يا ابن المهلب ما أردت إلى     امرئ لولاك كان كصالح القراء

قال ابن جرير ويقال : إن يزيد بن المهلب كان في غزوة جرجان في مائة ألف وعشرين ألفا ، منهم ستون ألفا من جيش الشام أثابهم الله ، وقد تمهدت تلك البلاد بفتح جرجان وسلكت الطرق ، وكانت قبل ذلك مخوفة جدا ، ثم عزم يزيد على المسير إلى طبرستان وقدم بين يديه سرية هي أربعة آلاف من سراة الناس ، فلما التقوا اقتتلوا قتالا شديدا ، وقتل من المسلمين في المعركة أربعة آلاف فإنا لله وإنا إليه راجعون . ثم عزم يزيد على فتح البلاد لا محالة ، وما زال حتى صالحه صاحبها وهو الإصبهبذ بمال كثير; سبعمائة ألف في كل عام ، وغير ذلك من المتاع والرقيق .

[ ص: 637 ] وممن توفي فيها من الأعيان :

عبيد الله بن عبد الله بن عتبة

كان إماما حجة ، وكان مؤدب عمر بن عبد العزيز ، وله روايات كثيرة عن جماعات من الصحابة .

أبو الحفص النخعي

عبد الله بن محمد ابن الحنفية

وقد ذكرنا تراجمهم في " التكميل " . والله سبحانه وتعالى أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية