صفحة جزء
[ ص: 638 ] ثم دخلت سنة تسع وتسعين

فيها كانت وفاة سليمان بن عبد الملك ، أمير المؤمنين ، يوم الجمعة لعشر مضين وقيل : بقين من صفر منها ، عن خمس وأربعين سنة . وقيل : عن ثلاث وأربعين . وقيل : إنه لم يجاوز الأربعين . وكانت خلافته سنتين وثمانية أشهر ، وزعم أبو أحمد الحاكم أنه توفي يوم الجمعة لثلاث عشرة بقيت من رمضان منها ، وأنه استكمل في خلافته ثلاث سنين وثلاثة أشهر وخمسة أيام ، وله من العمر تسع وثلاثون سنة . والصحيح قول الجمهور ، وهو القول الأول . والله أعلم .

وهو سليمان بن عبد الملك بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس القرشي الأموي أبو أيوب .

كان مولده بالمدينة في بني جزيلة ، ونشأ بالشام عند أبيه ، وروى الحديث عن أبيه ، عن جده ، عن عائشة أم المؤمنين في قصة الإفك ، رواه ابن عساكر ، من طريق ابنه عبد الواحد بن سليمان عنه . وروى عن عبد الرحمن بن هنيدة أنه [ ص: 639 ] صحب عبد الله بن عمر إلى الغابة ، قال : فسكت ، فقال لي ابن عمر : ما لك؟ فقلت : كنت أتمنى ، فهل تتمنى يا أبا عبد الرحمن؟ فقال : لو أن لي أحدا هذا ذهبا أعلم عدده وأخرج زكاته ما كرهت ذلك ، أو قال : ما خشيت أن يضرني . رواه محمد بن يحيى الذهلي ، عن أبي صالح ، عن الليث ، عن عبد الرحمن بن خالد بن مسافر ، عن الزهري عنه .

قال الحافظ ابن عساكر : وكانت داره بدمشق موضع ميضأة جيرون الآن في تلك الساحة جميعها ، وبنى دارا كبيرة مما يلي باب الصغير موضع الدرب المعروف بدرب محرز وجعلها دار الإمارة وعمل فيها قبة صفراء تشبيها بالقبة الخضراء . قال : وكان فصيحا مؤثرا للعدل محبا للغزو ، وقد أنفذ الجيش لحصار القسطنطينية حتى صالحوهم على بناء الجامع بها .

وقد روى أبو بكر الصولي ، أن عبد الملك جمع بنيه الوليد وسليمان ومسلمة بين يديه ، فاستقرأهم القرآن فأجادوا القراءة ، ثم استنشدهم الشعر فأجادوا ، غير أنهم لم يكملوا أو يحكموا شعر الأعشى ، فلامهم على ذلك ثم قال : لينشدني كل رجل منكم أرق بيت قالته العرب ولا يفحش ، هات يا وليد : فقال الوليد :


ما مركب وركوب الخيل يعجبني كمركب بين دملوج وخلخال

فقال عبد الملك : وهل يكون من الشعر أرفث من هذا؟ هات [ ص: 640 ] يا سليمان ، فقال :


حبذا رجعها يديها إليها     في يدى درعها تحل الإزارا

فقال : لم تصب ، هات يا مسلمة ، فأنشده قول امرئ القيس :


وما ذرفت عيناك إلا لتضربي     بسهميك في أعشار قلب مقتل

فقال : كذب امرؤ القيس ولم يصب ، إذا ذرفت عيناها بالوجد فما بقي إلا اللقاء ، وإنما ينبغي للعاشق أن يقتضي منها الجفاء ويكسوها المودة . ثم قال : أنا مؤجلكم في هذا البيت ثلاثة أيام ، فمن أتاني به فله حكمه أي مهما طلب أعطيته فنهضوا من عنده ، فبينما سليمان في موكب إذا هو بأعرابي يسوق إبله وهو يقول :


لو حز بالسيف رأسي في مودتها     لمال يهوي سريعا نحوها رأسي

فأمر سليمان بالأعرابي فاعتقل ، ثم جاء إلى أبيه فقال : قد جئتك بما سألت . فقال : هات . فأنشده البيت ، فقال : أحسنت ، وأنى لك هذا؟ فأخبره خبر الأعرابي ، فقال : سل حاجتك ولا تنس صاحبك . فقال : يا أمير المؤمنين ، إنك قد عهدت بالأمر من بعدك للوليد ، وإني أحب أن أكون ولي العهد من بعده . فأجابه إلى ذلك ، وبعثه على الحج في سنة إحدى وثمانين ، وأطلق له مائة ألف درهم ، فأعطاها سليمان لذلك الأعرابي الذي قال ذلك البيت من الشعر ، فلما مات أبوه سنة ست وثمانين ، وصارت الخلافة إلى أخيهالوليد ، كان بين [ ص: 641 ] يديه كالوزير والمشير ، وكان هو المستحث على عمارة جامع دمشق فلما توفي أخوه الوليد يوم السبت للنصف من جمادى الآخرة سنة ست وتسعين ، وكان سليمان بالرملة ، فلما أقبل تلقاه الأمراء ووجوه الناس ، وقيل : إنهم ساروا إليه إلى بيت المقدس فبايعوه هناك . وعزم على الإقامة بالقدس ، وأتته الوفود إلى بيت المقدس فلم يروا وفادة ، فكان يجلس في قبة في صحن المسجد مما يلي الصخرة من جهة الشمال ، وتجلس أكابر الناس على الكراسي وتقسم فيهم الأموال ، ثم عزم على المجيء إلى دمشق فدخلها وكمل عمارة الجامع .

وفي أيامه جددت المقصورة ، واتخذ ابن عمه عمر بن عبد العزيز مستشارا ووزيرا ، وقال له : إنا قد ولينا ما ترى ، وليس لنا علم بتدبيره ، فما رأيت من مصلحة العامة فمر به فليكتب . وكان من ذلك عزل نواب الحجاج ، وإخراج أهل السجون منها ، وإطلاق الأسراء وبذل الأعطية بالعراق ورد الصلاة إلى ميقاتها الأول ، بعد ما كان من كان قبله يؤخرونها إلى آخر وقتها ، مع أمور حسنة كان يسمعها من عمر بن عبد العزيز ، رحمهما الله .

وأمر بغزو القسطنطينية فبعث إليها من أهل الشام والجزيرة والموصل في البر نحوا من مائة ألف وعشرين ألف مقاتل ، وبعث من أهل مصر وإفريقية ألف مركب في البحر ، عليهم عمر بن هبيرة ، وعلى جماعة الناس كلهم أخوه مسلمة ومعه ابنه داود بن سليمان بن عبد الملك ، في جماعة من أهل بيته ، [ ص: 642 ] وذلك كله عن مشورة موسى بن نصير ، حين قدم عليه من بلاد المغرب . والصحيح أنه قدم في أيام أخيه الوليد . والله أعلم .

قال ابن أبي الدنيا حدثني محمد بن إسماعيل بن إبراهيم الكوفي ، عن جابر بن عون الأسدي ، قال : أول كلام تكلم به سليمان بن عبد الملك حين ولي الخلافة أن قال :

الحمد لله الذي ما شاء صنع ، وما شاء رفع ، وما شاء وضع ، ومن شاء أعطى ، ومن شاء منع ، إن الدنيا دار غرور ، ومنزل باطل ، وزينة تقلب ، تضحك باكيا ، وتبكي ضاحكا ، وتخيف آمنا ، وتؤمن خائفا ، تفقر مثريها ، وتثري فقيرها ، ميالة لاعبة بأهلها ، يا عباد الله ، اتخذوا كتاب الله إماما وارضوا به حكما واجعلوه لكم قائدا فإنه ناسخ لما قبله ولن ينسخه كتاب بعده اعلموا عباد الله أن هذا القرآن يجلو كيد الشيطان وضغائنه كما يجلو ضوء الصبح إذا تنفس إدبار الليل إذا عسعس .

وقال يحيى بن معين ، عن حجاج بن محمد ، عن أبي معشر ، عن محمد بن قيس قال : سمعت سليمان بن عبد الملك يقول في خطبته : فضل القرآن على سائر الكلام كفضل الله على خلقه .

وقال حماد بن زيد عن يزيد بن حازم قال : كان سليمان بن عبد الملك يخطبنا كل جمعة لا يدع أن يقول في خطبته : وإنما أهل الدنيا [ ص: 643 ] على رحيل ، لم تمض بهم نية ، ولم تطمئن لهم دار حتى يأتي أمر وعد الله وهم على ذلك كذلك لا يدوم نعيمها ، ولا تؤمن فجائعها ، ولا يتقى من شر أهلها ثم يتلو : أفرأيت إن متعناهم سنين ثم جاءهم ما كانوا يوعدون ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون [ الشعراء : 205 207 ] .

وروى الأصمعي أن نقش خاتمه : آمنت بالله مخلصا .

وقال أبو مسهر ، عن أبي مسلم سلمة بن العيار الفزاري قال : قال محمد بن سيرين : يرحم الله سليمان بن عبد الملك ، افتتح خلافته بخير ، وختمها بخير; افتتحها بإحيائه الصلاة لمواقيتها ، وختمها باستخلافه عمر بن عبد العزيز

قد أجمع علماء السير والتواريخ أنه حج بالناس في سنة سبع وتسعين وهو خليفة .

قال الهيثم بن عدي قال الشعبي : حج سليمان بن عبد الملك ، فلما [ ص: 644 ] رأى الناس بالموسم ، قال لعمر بن عبد العزيز : ألا ترى هذا الخلق الذي لا يحصي عددهم إلا الله ، ولا يسع رزقهم غيره . فقال : يا أمير المؤمنين ، هؤلاء رعيتك اليوم وهم غدا خصماؤك . فبكى سليمان بكاء شديدا ثم قال : بالله أستعين .

وقال ابن أبي الدنيا ثنا إسحاق بن إسماعيل ، ثنا جرير عن عطاء بن السائب قال : كان عمر بن عبد العزيز في سفر مع سليمان بن عبد الملك ، فأصابتهم السماء برعد وبرق وظلمة وريح شديدة ، حتى فزعوا لذلك ، وجعل عمر بن عبد العزيز يضحك فقال له سليمان : ما أضحكك يا عمر؟ أما ترى ما نحن فيه؟ فقال له : يا أمير المؤمنين هذه آثار رحمته فيه شدائد ما ترى ، فكيف بآثار سخطه وغضبه؟!

ومن كلامه الحسن ، رحمه الله ، قوله : الصمت منام العقل والنطق يقظته ولا يتم هذا إلا بهذا .

ودخل عليه رجل فكلمه ، فأعجبه منطقه ، ثم فتشه فلم يحمد عقله ، فقال : فضل منطق الرجل على عقله خدعة ، وفضل عقله على منطقه هجنة ، وخير ذلك ما أشبه بعضه بعضا . وقال : العاقل أحرص على إقامة [ ص: 645 ] لسانه منه على طلب معاشه . وقال أيضا : إن من تكلم فأحسن قادر على أن يسكت فيحسن ، وليس كل من سكت فأحسن قادرا على أن يتكلم فيحسن .

ومن شعره يتسلى عن صديق له مات :


وهون وجدي في شراحيل أنني     متى شئت لاقيت امرءا مات صاحبه

ومن شعره أيضا :


ومن شيمتي أن لا أفارق صاحبي     وإن ملني إلا سألت له رشدا
وإن دام لي بالود دمت ولم أكن     كآخر لا يرعى ذماما ولا عهدا

وسمع سليمان ليلة صوت غناء في معسكره ، فلم يزل يفحص حتى أتى بهم ، فقال سليمان : إن الفرس ليصهل فتستودق له الرمكة ، وإن الجمل ليخطر فتضبع له الناقة ، وإن التيس لينب ، فكشرت له العنز ، وإن الرجل ليتغنى فتشتاق له المرأة ، ثم أمر بهم ليخصوهم . فيقال : إن عمر بن [ ص: 646 ] عبد العزيز قال : يا أمير المؤمنين ، إنها مثلة . فتركهم .

وفي رواية : أنه خصى أحدهم ثم سأل عن أصل الغناء فقيل : إنه بالمدينة . فكتب إلى عامله بها وهو أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم يأمره أن يخصي من عنده من المغنين المخنثين .

وقال الشافعي : دخل أعرابي على سليمان ، فدعاه إلى أكل الفالوذج ، وقال له : إن أكلها يزيد في الدماغ . فقال الأعرابي : لو كان هذا صحيحا لكان ينبغي أن يكون رأس أمير المؤمنين مثل رأس البغل .

وذكروا أن سليمان كان نهما في الأكل ، وقد نقلوا عنه أشياء في ذلك غريبة; فمن ذلك أنه اصطبح في بعض الأيام بأربعين دجاجة مشوية ، وأربع وثمانين كلوة بشحمها ، وثمانين جردقة ، ثم أكل مع الناس على العادة في السماط العام .

[ ص: 647 ] ودخل ذات يوم بستانا له قد أمر قيمه أن يحبس ثماره ، وقطفت له ومعه أصحابه ، فأكل القوم ، واستمر هو يأكل أكلا ذريعا من تلك الفواكه ، ثم استدعى بشاة مشوية فأكلها ، ثم أقبل على الفاكهة ، ثم أتي بدجاجتين فأكلهما ، ثم عاد إلى الفاكهة ، ثم أتي بقعب يقعد فيه الرجل مملوءا بسويق وسمن وسكر ، فأكله ، ثم عاد إلى دار الخلافة ، وأتي بالسماط ، فما فقد من أكله شيئا .

وقد روي أنه عرضت له حمى أدته إلى الموت . وقد قيل : إن سبب مرضه كان من أكل أربعمائة بيضة ، وسلتين من تين . فالله أعلم .

وذكر الفضل بن المهلب وغيره ، أنه لبس في يوم جمعة حلة صفراء ، ثم نزعها ولبس بدلها حلة خضراء ، واعتم بعمامة خضراء ، وجلس على فراش أخضر ، وقد بسط ما حوله بالخضرة ، ثم نظر في المرآة فأعجبه حسنه ، وشمر عن ذراعيه وقال : أنا الخليفة الشاب .

[ ص: 648 ] وقيل : إنه كان ينظر في المرآة من فرقه إلى قدمه ويقول : أنا الملك الشاب .

وفي رواية أنه كان ينظر فيها ويقول : كان محمد نبيا صلى الله عليه وسلم ، وكان أبو بكر صديقا ، وكان عمر فاروقا ، وكان عثمان حييا ، وكان علي شجاعا ، وكان معاوية حليما ، وكان يزيد صبورا ، وكان عبد الملك سائسا ، وكان الوليد جبارا ، وأنا الملك الشاب .

قالوا : فما دار عليه شهر وفي رواية : جمعة حتى مات .

قالوا : ولما حم شرع يتوضأ ، فدعا بجارية ، فصبت عليه ماء الوضوء ، ثم أنشدته :


أنت نعم المتاع لو كنت تبقى     غير أن لا بقاء للإنسان
ليس فيما علمته فيك عيب     كان في الناس غير أنك فان

قالوا : فصاح بها وقال : عزتني في نفسي . وصرفها ثم أمر خاله الوليد [ ص: 649 ] بن القعقاع العنسي أن يصب عليه وقال :


قرب وضوءك يا وليد فإنما     هذي الحياة تعلة ومتاع

فقال الوليد :


فاعمل لنفسك في حياتك صالحا     فالدهر فيه فرقة وجماع

ويروى أن الجارية لما جاءته بالطست ، جعلت تضطرب من الحمى فقال : أين فلانة؟ فقالت : محمومة . قال : ففلانة؟ قالت : محمومة . وكان بمرج دابق من أرض قنسرين فأمر خاله فوضأه ، ثم خرج يصلي بالناس ، فأخذته بحة في الخطبة ، ثم نزل وقد أصابته الحمى ، فاستمر فيها حتى مات في الجمعة المقبلة .

ويقال : إنه أصابه ذات الجنب ، فمات بها ، رحمه الله .

وكان قد أقسم أنه لا يبرح دابقا حتى يرجع إليه الخبر بفتح القسطنطينية أو يموت قبل ذلك ، فمات قبل ذلك ، رحمه الله وأكرم مثواه .

[ ص: 650 ] قالوا : وجعل يلهج في مرضه ويقول :


إن بني صبية صغار     أفلح من كان له كبار

فيقول له عمر بن عبد العزيز : قد أفلح المؤمنون يا أمير المؤمنين . ثم يقول :

إن بني صبية صيفيون أفلح من كان له شتويون ويروى أن هذا آخر ما تكلم به ، والصحيح أن آخر ما تكلم به أن قال : أسألك منقلبا كريما . ثم قضى .

وروى ابن جرير ، عن رجاء بن حيوة وكان وزير صدق لبني أمية قال : استشارني سليمان بن عبد الملك وهو مريض أن يولي ابنا له صغيرا لم يبلغ الحلم ، فقلت : إن مما يحفظ الخليفة في قبره أن يولي على المسلمين من بعده الرجل الصالح ، ثم شاورني في ولاية ابنه داود ، فقلت له : إنه غائب عنك بالقسطنطينية ، ولا تدري أحي هو أم ميت؟ فقال : فمن ترى؟ فقلت : رأيك يا أمير المؤمنين . قال : كيف ترى في عمر بن عبد العزيز؟ فقلت : أعلمه والله خيرا فاضلا مسلما . فقال : هو والله على ذلك ، ولكن أتخوف إخوتي لا يرضون بذلك . فأشار رجاء أن يجعل يزيد بن عبد الملك ولي العهد من بعد عمر بن عبد العزيز [ ص: 651 ] ليرضي بذلك بني مروان ، فكتب :

بسم الله الرحمن الرحيم ، هذا كتاب من عبد الله سليمان أمير المؤمنين لعمر بن عبد العزيز ، إني قد وليتك الخلافة من بعدي ، ومن بعده يزيد بن عبد الملك ، فاسمعوا له وأطيعوا ، واتقوا الله ولا تختلفوا فيطمع فيكم .

وختم الكتاب وأرسل إلى كعب بن حامد العبسي صاحب الشرطة ، فقال له : اجمع أهل بيتي ، فمرهم فليبايعوا على ما في هذا الكتاب مختوما ، فمن أبى منهم فاضرب عنقه ، فاجتمعوا ودخل رجال منهم فسلموا على أمير المؤمنين ، فقال لهم : هذا الكتاب عهدي إليكم فاسمعوا له وأطيعوا وبايعوا من وليت فيه . فبايعوا رجلا رجلا .

قال رجاء : فلما تفرقوا جاءني عمر بن عبد العزيز فقال : أنشدك الله وحرمتي ومودتي إلا أعلمتني إن كان كتب لي ذلك حتى أستعفيه الآن قبل أن يأتي حال لا أقدر فيها على ما أقدر عليه الساعة! فقلت : والله لا أخبرك حرفا واحدا . قال : ولقيني هشام بن عبد الملك فقال : يا رجاء ، إن لي بك حرمة ومودة قديمة ، فأخبرني هذا الأمر ، فإن كان إلي علمت ، وإن كان إلى غيري تكلمت ، [ ص: 652 ] فما مثلي قصر به . فقلت : والله لا أخبرك حرفا واحدا مما أسر إلي .

قال رجاء : ودخلت على سليمان ، فإذا هو يموت ، فجعلت إذا أخذته السكرة من سكرات الموت أحرفه إلى القبلة ، فإذا أفاق يقول : لم يأن لذلك بعد يا رجاء . ففعلت ذلك مرتين ، فلما كانت الثالثة قال : من الآن يا رجاء إن كنت تريد شيئا ، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، قال : فحرفته إلى القبلة ومات ، فغطيته بقطيفة خضراء ، وأغلقت الباب عليه ، وأرسلت إلى كعب بن حامد ، فجمع الناس في مسجد دابق فقلت : بايعوا لمن في هذا الكتاب . فقالوا : قد بايعنا . فقلت : بايعوا ثانية . ففعلوا ، ثم قلت : قوموا إلى صاحبكم فقد مات . وقرأت الكتاب عليهم ، فلما انتهيت إلى ذكر عمر بن عبد العزيز ، تغيرت وجوه بني مروان ، فلما قرأت : وإن يزيد بن عبد الملك من بعده ، تراجعوا بعض الشيء ، ونادى هشام : لا نبايعه أبدا . فقلت : أضرب والله عنقك ، قم فبايع . ونهض الناس إلى عمر بن عبد العزيز وهو في مؤخر المسجد ، فلما تحقق ذلك قال : إنا لله وإنا إليه راجعون . ولم تحمله رجلاه حتى أخذوا بضبعيه ، فأصعدوه على المنبر ، فسكت حينا ، فقال رجاء بن حيوة : ألا تقومون إلى أمير المؤمنين فتبايعوه! فنهض القوم فبايعوه ، ثم قام إليه هشام فصعد المنبر ليبايع وهو يقول : إنا لله وإنا إليه راجعون . فقال عمر : نعم! إنا لله وإنا إليه راجعون ، الذي صرت أنا وأنت نتنازع هذا الأمر . ثم قام فخطب الناس خطبة [ ص: 653 ] بليغة وبايعوه ، فكان مما قال في خطبته : أيها الناس لست بمبتدع ولكني متبع ، وإن من حولكم من الأمصار والمدن إن هم أطاعوا كما أطعتم فأنا واليكم ، وإن هم أبوا فلست لكم بوال .

ثم نزل فشرعوا في جهاز سليمان .

قال الأوزاعي : فلم يفرغوا منه حتى دخل وقت المغرب ، فصلى عمر بالناس صلاة المغرب ثم صلى على سليمان ودفن بعد المغرب ، فلما انصرف عمر أتي بمراكب الخلافة فلم يركبها ، وركب دابته ، ثم سار مع الناس حتى أتوا دمشق فمالوا به نحو دار الخلافة فقال : لا أنزل إلا في منزلي حتى تفرغ دار أبي أيوب ، فاستحسن ذلك منه ، ثم استدعى بالكاتب ، فجعل يملي عليه نسخة الكتاب الذي يبايع عليه الأمصار قال رجاء : فما رأيت أفصح منه .

قال محمد بن إسحاق : وكان وفاة سليمان بن عبد الملك بدابق من أرض قنسرين يوم الجمعة لعشر ليال خلت من صفر سنة تسع وتسعين ، على رأس سنتين وتسعة أشهر وعشرين يوما من متوفى الوليد . وكذا قال الجمهور [ ص: 654 ] في تاريخ وفاته ، ومنهم من يقول : لعشر بقين من صفر . وقالوا : كانت ولايته سنتين وثمانية أشهر ، زاد بعضهم إلا خمسة أيام . والله أعلم .

وقول الحاكم أبي أحمد : إنه توفي يوم الجمعة لثلاث عشرة بقيت من رمضان سنة تسع وتسعين ، وكانت خلافته ثلاث سنين وثلاثة أشهر وخمسة أيام ، وتوفي وهو ابن تسع وثلاثين سنة . فقد حكاه ابن عساكر ، وهو غريب جدا وقد خالفه الجمهور في كل ما قاله ، وعندهم أنه جاوز الأربعين فقيل : بثلاث . وقيل : بخمس . والله أعلم .

قالوا : وكان طويلا جميلا أبيض نحيفا ، حسن الوجه ، مقرون الحاجبين ، وكان فصيحا بليغا يحسن العربية ، ويرجع إلى دين وخير ومحبة للحق وأهله ، واتباع القرآن والسنة ، وإظهار الشرائع الإسلامية ، رحمه الله .

وقد كان رحمه الله آلى على نفسه حين خرج من دمشق إلى مرج دابق ودابق قريبة من بلاد حلب وقد جهزت الجيوش إلى مدينة الروم العظمى المسماة بالقسطنطينية أن لا يرجع إلى دمشق حتى تفتح أو يموت . فمات هنالك كما ذكرنا فحصل له بهذه النية أجر الرباط [ ص: 655 ] في سبيل الله ، فهو ، إن شاء الله ، ممن يجرى له ثوابه إلى يوم القيامة ، رحمه الله .

وقد ذكر الحافظ ابن عساكر في ترجمة شراحيل بن عبيدة بن قيس العقيلي ما مضمونه ، أن مسلمة بن عبد الملك لما ضيق بمحاصرته على أهل القسطنطينية وتتبع المسالك ، واستحوذ على أكثر ما هنالك من الممالك ، كتب إليون ملك الروم إلى ملك البرجان يستنصره على مسلمة ، ويقول : إن هؤلاء القوم ليس لهم همة إلا في الدعوة إلى دينهم ، الأقرب منهم فالأقرب ، وإنهم متى فرغوا مني خلصوا إليك ، فمهما كنت صانعا حينئذ فاصنعه الآن . فعند ذلك شرع لعنه الله في المكر والخديعة ، فكتب إلى مسلمة يقول له : إن إليون كتب إلي يستنصرني عليك ، وأنا معك فمرني بما شئت فكتب إليه مسلمة : إني لا أريد منك رجالا ولا عددا ولكن أرسل إلي بالميرة ، فقد قل ما عندنا من الأزواد .

فكتب إليه : إني قد أرسلت إليك بسوق عظيمة إلى مكان كذا وكذا ، [ ص: 656 ] فأرسل من يتسلمها ويشتري منها .

فأذن مسلمة لمن شاء من الجيش أن يذهب إلى هناك فيشتري له ما يحتاج إليه ، فذهب خلق كثير فوجدوا هنالك سوقا هائلة ، فيها من أنواع البضائع والأمتعة والأطعمة ، فأقبلوا يشترون ، واشتغلوا بذلك ، ولا يشعرون بما أرصد لهم الخبيث من الكمائن بين تلك الجبال التي هنالك ، فخرجوا عليهم بغتة ، فقتلوا خلقا كثيرا من المسلمين وأسروا آخرين ، وما رجع إلى مسلمة إلا القليل منهم فإنا لله وإنا إليه راجعون .

فكتب مسلمة بذلك إلى أخيه سليمان يخبره بما وقع من ذلك ، فأرسل جيشا كثيفا صحبة شراحيل بن عبيدة هذا ، وأمرهم أن يعبروا خليج القسطنطينية أولا فيقاتلوا ملك البرجان ، ثم يعودوا إلى مسلمة فذهبوا إلى بلاد البرجان وقطعوا إليهم تلك الخلجان فاقتتلوا معهم قتالا شديدا ، فهزمهم المسلمون بإذن الله ، وقتلوا منهم مقتلة عظيمة ، وسبوا وأسروا خلقا كثيرا ، وخلصوا أسرى المسلمين ، ثم تحيزوا إلى مسلمة ، فكانوا عنده حتى استقدم الجميع عمر بن عبد العزيز; خوفا عليهم من غائلة الروم وبلادهم ، ومن ضيق العيش ، وقد كان لهم قبل ذلك هنالك مدة طويلة . أثابهم الله تعالى .

[ ص: 657 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية