صفحة جزء
[ ص: 130 ] ثم دخلت سنة أربع وعشرين ومائة

فيها غزا سليمان بن هشام بن عبد الملك بلاد الروم فلقي ملك الروم أليون فسلم سليمان وغنم .

وفيها قدم جماعة من دعاة بني العباس من بلاد خراسان قاصدين إلى مكة ، فمروا بالكوفة فبلغهم أن في السجن جماعة من الأمراء من نواب خالد بن عبد الله القسري قد حبسهم يوسف بن عمر فاجتمعوا بهم في السجن ، فدعوهم إلى البيعة لبني العباس وإذا عندهم من ذلك جانب كبير ، فقبلوا منهم ، ووجدوا عندهم في السجن أبا مسلم الخراساني وهو إذ ذاك غلام يخدم عيسى بن معقل العجلي وكان محبوسا ، فأعجبهم شهامته وقوته واستجابته مع مولاه إلى هذا الأمر ، فاشتراه بكير بن ماهان منه بأربعمائة درهم ، وخرجوا به معهم ، فاستندبوه لهذا الأمر ، فكانوا لا يوجهونه إلى مكان [ ص: 131 ] إلا ذهب ، ونتج ما يوجهونه إليه ، ثم كان من أمره ما سنذكره فيما بعد إن شاء الله تعالى .

قال الواقدي : ومات في هذه السنة محمد بن علي بن عبد الله بن عباس . وهو الذي يدعو إليه دعاة بني العباس فقام مقامه ولده أبو العباس السفاح والصحيح أنه إنما توفي في التي بعدها .

قال الواقدي ، وأبو معشر : وحج بالناس فيها محمد بن هشام بن إسماعيل . قال أبو جعفر بن جرير : حج بالناس فيها عبد العزيز بن الحجاج بن عبد الملك ومعه امرأته أم سلمة بنت هشام بن عبد الملك . وكان نائب الحجاز والطائف وهو محمد بن هشام بن إسماعيل يقف على بابها ، ويهدي إليها الألطاف والتحف ، ويعتذر إليها من التقصير ، وهي لا تلتفت إلى ذلك . ونواب البلاد هم المذكورون في التي قبلها .

وفيها توفي القاسم بن أبي بزة

أبو عبد الله المكي القارئ ، مولى عبد الله بن السائب
تابعي جليل ، روى عن أبي الطفيل عامر بن واثلة ، وعنه جماعة ، ووثقه الأئمة .

توفي في هذه السنة على الصحيح ، وقيل : بعدها بسنة . وقيل : سنة أربع عشرة . وقيل : سنة خمس عشرة . فالله أعلم .

[ ص: 132 ] الزهري

محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب بن عبد الله بن الحارث بن زهرة بن كلاب بن مرة ، أبو بكر القرشي الزهري أحد الأعلام ، من أئمة الإسلام ، تابعي جليل ، سمع غير واحد من الصحابة ، وروى عنه غير واحد من التابعين وغيرهم .

روى الحافظ ابن عساكر عن الزهري قال : أصاب أهل المدينة جهد شديد ، فارتحلت إلى دمشق ، وكان عندي عيال كثيرة ، فجئت جامعها ، فجلست في أعظم حلقة ، فإذا رجل قد خرج من عند أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان فقال : إنه قد نزل بأمير المؤمنين مسألة ، وكان قد سمع من سعيد بن المسيب فيها شيئا - وقد شذ عنه - في أمهات الأولاد يرويه عن عمر بن الخطاب . فقلت : إني أحفظ عن سعيد بن المسيب ، عن عمر بن الخطاب فأخذني فأدخلني على عبد الملك . فسألني : ممن أنت ؟ فانتسبت له ، وذكرت له حاجتي وعيالي ، فسألني : هل تحفظ القرآن ؟ قلت : نعم ، والفرائض والسنن . فسألني عن ذلك كله فأجبته ، فقضى ديني ، وأمر لي بجائزة ، وقال لي : اطلب العلم ، فإني أرى لك عينا حافظة وقلبا ذكيا . قال : فرجعت إلى المدينة أطلب العلم وأتتبعه ، فبلغني أن امرأة بقباء رأت رؤيا عجيبة ، فأتيتها فسألتها عن ذلك ، فقالت : إن بعلي مات وترك لنا خادما وداجنا ونخيلات ; نشرب من لبنها ، [ ص: 133 ] ونأكل من ثمرها ، فبينما أنا بين النائمة واليقظى رأيت كأن ابني الكبير - وكان مشتدا - قد أقبل ، فأخذ الشفرة ، فذبح ولد الداجن ، وقال : إن هذا يضيق علينا اللبن . تم نصب القدر ، وقطعه ووضعه فيه ، ثم أخذ الشفرة فذبح بها أخاه - وأخوه صغير كما قد جاء - ثم استيقظت مذعورة ، فدخل ولدي الكبير فقال : أين اللبن ؟ فقلت : شربه ولد الداجن . فقال : إنه قد ضيق علينا اللبن . ثم أخذ الشفرة فذبحه وقطعه في القدر ، فبقيت مشفقة خائفة مما رأيت ، فأخذت ولدي الصغير فغيبته في بعض بيوت الجيران ، ثم أقبلت إلى المنزل وأنا مشفقة جدا مما رأيت ، فأخذتني عيني فنمت ، فرأيت في المنام قائلا يقول : ما لك مغتمة ؟ فقلت : إني رأيت مناما ، فأنا أحذر منه . فقال : يا رؤيا ، يا رؤيا . فأقبلت امرأة حسناء جميلة ، فقال : ما أردت إلى هذه المرأة الصالحة ؟ قالت : ما أردت إلا خيرا . ثم قال : يا أحلام ، يا أحلام . فأقبلت امرأة دونها في الحسن والجمال ، فقال : ما أردت إلى هذه المرأة الصالحة ؟ فقالت : ما أردت إلا خيرا . ثم قال : يا أضغاث ، يا أضغاث . فأقبلت امرأة سوداء شعثة ، فقال : ما أردت إلى هذه المرأة الصالحة ؟ فقالت : إنها امرأة صالحة ، فأحببت أن أغمها ساعة . ثم استيقظت ، فجاء ابني فوضع الطعام ، وقال : أين أخي ؟ فقلت له : درج إلى بيوت الجيران . فذهب وراءه ، فكأنما هدي إليه ، فأقبل به يقبله ، ثم وضعه وجلسنا جميعا ، فأكلنا من ذلك الطعام .

ولد الزهري في سنة ثمان وخمسين في آخر خلافة معاوية وكان قصيرا قليل اللحية ، له شعرات طوال ، خفيف العارضين .

قالوا : وقد قرأ القرآن في نحو من ثمانين يوما ، وجالس سعيد بن المسيب [ ص: 134 ] ثمان سنين أو عشر سنين ، تمس ركبته ركبته .

وكان يخدم عبيد الله بن عبد الله يستقي له الماء المالح ، ويدور على مشايخ الحديث ومعه ألواح يكتب عنهم الحديث ، ويكتب عنهم كل ما سمع منهم ، حتى صار من أعلم الناس أو أعلمهم في زمانه ، وقد احتاج أهل عصره إليه .

وقال عبد الرزاق : أخبرنا معمر عن الزهري قال : كنا نكره كتاب العلم حتى أكرهنا عليه هؤلاء الأمراء ، فرأينا أن لا نمنعه أحدا من المسلمين .

وقال ابن إسحاق كان الزهري يرجع من عند عروة فيقول لجارية عنده فيها لكنة : حدثنا عروة ثنا فلان . ويسرد عليها ما سمعه منه ، فتقول له الجارية : والله ما أدري ما تقول . فيقول لها : اسكتي لكاع ، فإني لا أريدك ، إنما أريد نفسي .

ثم وفد على عبد الملك بدمشق كما تقدم ، فأكرمه وقضى دينه ، وفرض له في بيت المال ، ثم كان بعد من أصحابه وجلسائه ، ثم كان كذلك عند أولاده من بعده الوليد ، وسليمان وكذلك عند عمر بن عبد العزيز ثم عند يزيد بن عبد الملك واستقضاه يزيد مع سليمان بن حبيب ثم كان حظيا عند هشام وحج معه ، وجعله معلم أولاده إلى أن توفي في هذه السنة ، قبل هشام بسنة .

[ ص: 135 ] وقال ابن وهب : سمعت الليث يقول : قال ابن شهاب : ما استودعت قلبي شيئا قط فنسيته .

قال : وكان يكره أكل التفاح وسؤر الفأر ، ويقول : إنه ينسي . وكان يشرب العسل ويقول : إنه يذكر .

وفيه يقول فائد بن أقرم :


ذر ذا وأثن على الكريم محمد واذكر فواضله على الأصحاب     وإذا يقال من الجواد بماله
قيل الجواد محمد بن شهاب     أهل المدائن يعرفون مكانه
وربيع ناديه على الأعراب     يشري وفاء جفانه ويمدها
بكسور أثباج وفتق لباب

وقال ابن مهدي : سمعت مالكا يقول : حدث الزهري يوما بحديث ، فلما قام أخذت بلجام دابته فاستفهمته ، فقال : تستفهمني ؟ ما استفهمت عالما قط ، ولا رددت على عالم قط . ثم جعل ابن مهدي يقول : فذيك الطوال ، وتلك المغازي .

وروى يعقوب بن سفيان ، عن هشام بن خالد السلامي عن الوليد بن [ ص: 136 ] مسلم ، عن سعيد - يعني ابن عبد العزيز - أن هشام بن عبد الملك سأل الزهري أن يكتب لبنيه شيئا من حديثه ، فأملى على كاتبه أربعمائة حديث ، ثم خرج على أهل الحديث فحدثهم بها ، ثم إن هشاما قال للزهري : إن ذلك الكتاب ضاع . فقال : لا عليك . فأملى عليهم تلك الأحاديث ، ثم أخرج هشام الكتاب الأول ، فإذا هو لم يغادر حرفا واحدا ، وإنما أراد هشام امتحان حفظه .

وقال عمر بن عبد العزيز : ما رأيت أحدا أحسن سوقا للحديث إذا حدث من الزهري .

وقال سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار : ما رأيت أحدا أنص للحديث من الزهري ولا أهون من الدينار والدرهم عنده ، وما الدراهم والدنانير عند الزهري إلا بمنزلة البعر .

قال عمرو بن دينار : ولقد جالست جابرا ، وابن عباس ، وابن عمر ، وابن الزبير فما رأيت أحدا أنسق للحديث من الزهري .

وقال الإمام أحمد : أحسن الناس حديثا وأجودهم إسنادا الزهري .

وقال النسائي : أحسن الأسانيد الزهري ، عن علي بن الحسين عن أبيه ، عن جده علي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .

[ ص: 137 ] وقال شعيب عن الزهري : مكثت خمسا وأربعين سنة أختلف من الحجاز إلى الشام ، ومن الشام إلى الحجاز فما كنت أسمع حديثا أستطرفه .

وقال الليث : ما رأيت عالما قط أجمع من ابن شهاب ولو سمعته يحدث في الترغيب والترهيب لقلت : ما يحسن غير هذا . وإن حدث عن الأنبياء وأهل الكتاب قلت : لا يحسن إلا هذا . وإن حدث عن الأعراب والأنساب قلت : لا يحسن إلا هذا . وإن حدث عن القرآن والسنة كان حديثه ، ثم يتلوه بدعاء جامع ، يقول : اللهم إني أسألك من كل خير أحاط به علمك ، في الدنيا والآخرة ، وأعوذ بك من كل شر أحاط به علمك ، في الدنيا والآخرة . قال الليث : وكان الزهري أسخى من رأيت ، كان يعطي كل من جاء وسأله ، حتى إذا لم يبق عنده شيء استسلف ، وكان يطعم الناس الثريد ويسقيهم العسل ، وكان يسمر على شراب العسل كما يسمر أهل الشراب على شرابهم ، ويقول : اسقونا وحدثونا . فإذا نعس أحدهم يقول له : ما أنت من سمار قريش . وكانت له قبة معصفرة ، وعليه ملحفة معصفرة ، وتحته بساط معصفر .

[ ص: 138 ] وقال الليث : قال يحيى بن سعيد : ما بقي عند أحد من العلم ما بقي عند ابن شهاب .

وقال عبد الرزاق : أنبأ معمر قال : قال عمر بن عبد العزيز : عليكم بابن شهاب فإنه ما بقي أحد أعلم بسنة ماضية منه . وكذا قال مكحول .

وقال أيوب : ما رأيت أحدا أعلم من الزهري . فقيل له : ولا الحسن ؟ فقال : ما رأيت أعلم من الزهري .

وقيل لمكحول : من أعلم من لقيت ؟ قال : الزهري . قيل : ثم من ؟ قال : الزهري . قيل : ثم من ؟ قال : الزهري .

وقال مالك : كان الزهري إذا دخل المدينة لم يحدث بها أحد حتى يخرج .

وقال عبد الرزاق عن ابن عيينة : محدثو أهل الحجاز ثلاثة الزهري ، ويحيى بن سعيد ، وابن جريج .

وقال علي بن المديني : الذين أفتوا أربعة الزهري ، والحكم ، وحماد [ ص: 139 ] وقتادة ، والزهري أفقههم عندي .

وقال الزهري : ثلاث إذا كن في القاضي فليس بقاض ، إذا كره اللوائم وأحب المحامد ، وكره العزل .

وقال أحمد بن صالح : كان يقال : فصحاء زمانهم الزهري ، وعمر بن عبد العزيز ، وموسى بن طلحة بن عبيد الله رحمهم الله .

وقال مالك عن الزهري أنه قال : إن هذا العلم الذي أدب الله به رسوله صلى الله عليه وسلم ، وأدب رسول الله به أمته أمانة الله إلى رسوله ليؤديه على ما أدي إليه ، فمن سمع علما فليجعله أمامه حجة فيما بينه وبين الله عز وجل .

وقال محمد بن الحسين ، عن يونس عن الزهري قال : الاعتصام بالسنة نجاة .

وقال الوليد عن الأوزاعي عن الزهري قال : أمروا أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم كما جاءت .

وقال محمد بن إسحاق عن الزهري : إن من غوائل العلم أن يترك العالم [ ص: 140 ] حتى يذهب علمه ، والنسيان ، والكذب ، وهو أشد الغوائل .

وقال أبو زرعة ، عن نعيم بن حماد ، عن محمد بن ثور ، عن معمر عن الزهري قال : القراءة على العالم والسماع عليه سواء إن شاء الله تعالى .

وقال عبد الرزاق ، عن معمر عن الزهري قال : إذا طال المجلس كان للشيطان فيه نصيب .

وقد قضى عنه هشام بن عبد الملك مرة ثمانين ألفا . وفي رواية : سبعة عشر ألفا . وفي رواية عشرين ألفا .

وقال الشافعي : عتب رجاء بن حيوة على الزهري في الإسراف ، وكان يستدين ، فقال له : لا آمن أن يحبس هؤلاء القوم أيديهم عنك فتكون قد حملت على أمانتك . قال : فوعده الزهري أن يقصر ، فمر به بعد ذلك وقد وضع الطعام ونصب موائد العسل ، فوقف به رجاء وقال : يا أبا بكر ما هذا بالذي فارقتنا عليه . فقال له الزهري : انزل فإن السخي لا تؤدبه التجارب .

وقد أنشد بعضهم في هذا المعنى :


له سحائب جود في أنامله     أمطارها الفضة البيضاء والذهب
يقول في العسر إن أيسرت ثانية     أقصرت عن بعض ما أعطي وما أهب
[ ص: 141 ] حتى إذا عاد أيام اليسار له     رأيت أمواله في الناس تنتهب

وقال الواقدي : ولد الزهري سنة ثمان وخمسين . وقدم في سنة أربع وعشرين ومائة إلى أمواله ليلة الثلاثاء بشغب وبدا فأقام بها ، فمرض هناك ومات ، وأوصى أن يدفن على قارعة الطريق ، وكانت وفاته لسبع عشرة من رمضان من هذه السنة ، وهو ابن خمس وسبعين سنة ، قالوا : وكان ثقة ، كثير الحديث والعلم والرواية ، فقيها جامعا .

وقال الحسين بن المتوكل العسقلاني : رأيت قبر الزهري بأدامى - وهي خلف شغب وبدا من فلسطين - مسنما مجصصا .

وقد وقف الأوزاعي يوما على قبره فقال : يا قبر كم فيك من علم وحلم .

وقال الزبير بن بكار توفي الزهري بأمواله بشغب ليلة الثلاثاء لسبع عشرة ليلة خلت من رمضان سنة أربع وعشرين ومائة ، عن ثنتين وسبعين سنة ، ودفن على قارعة الطريق ليدعو له المارة . وقيل : إنه توفي سنة ثلاث وعشرين ومائة . وقال أبو معشر : سنة خمس وعشرين ومائة . والصحيح [ ص: 142 ] الأول . والله أعلم .

وممن توفي في خلافة هشام بن عبد الملك ، كما أورده ابن عساكر :

بلال بن سعد بن تميم السكوني أبو عمرو ويقال : أبو زرعة إمام الجامع بدمشق أيام هشام وقاص أهل الشام ، كان أحد الزهاد الكبار والعباد الصوام القوام ، روى عن أبيه ، وكان أبوه له صحبة ، وعن جابر ، وابن عمر ، وأبي الدرداء وغيرهم ، وعنه جماعة منهم أبو عمرو الأوزاعي وكان الأوزاعي يكتب عنه ما يقوله من الفوائد العظيمة في قصصه ووعظه ، وقال : ما رأيت واعظا قط مثله . وقال أيضا : ما بلغني عن أحد من العبادة ما بلغني عنه ، كان يصلي في اليوم والليلة ألف ركعة .

وقال غيره ، وهو الأصمعي : كان إذا نعس في ليل الشتاء ألقى نفسه في ثيابه في البركة ، فعاتبه بعض أصحابه في ذلك ، فقال : إن ماء البركة أهون علي من صديد جهنم .

[ ص: 143 ] وقال آخر ، وهو الوليد بن مسلم : كان إذا كبر في المحراب سمعوا تكبيره من الأوزاع - قلت : وهي خارج باب الفراديس بمحلة سوق قميلة اليوم - قال : وكنا نتبين قراءته من عقبة الشيح عند دار الضيافة . يعني من عند دار الذهب داخل باب الفراديس .

وقال أحمد بن عبد الله العجلي : هو شامي تابعي ثقة .

وقال أبو زرعة الدمشقي : كان أحد العلماء ، قاصا حسن القصص .

وقد اتهمه رجاء بن حيوة بالقدر ، حين قال بلال يوما في وعظه : رب مسرور مغبون ، ورب مغبون لا يشعر ، فويل لمن له الويل ولا يشعر ، يأكل ويشرب ويضحك ، وقد حق عليه في قضاء الله أنه من أهل النار ، فيا ويل لك روحا ، ويا ويل لك جسدا ، فلتبك ولتبك عليك البواكي لطول الأمد .

وقد ساق ابن عساكر شيئا حسنا من كلامه في مواعظه البليغة ; فمن ذلك قوله : والله لكفى به ذنبا أن الله يزهدنا في الدنيا ، ونحن نرغب فيها ، [ ص: 144 ] زاهدكم راغب ، وعالمكم جاهل ، ومجتهدكم مقصر .

وقال أيضا : أخ لك كلما لقيك ذكرك بنصيبك من الله ، أو أخبرك بعيب فيك ، أحب إليك وخير لك من أخ كلما لقيك وضع في كفك دينارا .

وقال أيضا : لا تكن وليا لله في العلانية وعدوه في السر ، ولا تكن ذا وجهين وذا لسانين ، فتظهر للناس أنك تخشى الله ليحمدوك ، وقلبك فاجر .

وقال أيضا : أيها الناس ، إنكم لم تخلقوا للفناء ، وإنما خلقتم للبقاء ، تنقلون من دار إلى دار ، كما نقلتم من الأصلاب إلى الأرحام ، ومن الأرحام إلى الدنيا ، ومن الدنيا إلى القبور ، ومن القبور إلى الموقف ، ومن الموقف إلى الجنة أو النار .

وقال أيضا : عباد الرحمن ، إنكم تعملون في أيام قصار لأيام طوال ، وفي دار زوال لدار مقام ، ودار حزن ونصب لدار نعيم وخلد ، فمن لم يعمل على يقين فلا يتعن ، عباد الرحمن ، لو قد غفرت خطاياكم الماضية لكان فيما تستقبلون لكم شغل ، ولو عملتم بما تعملون لكنتم عباد الله حقا ، عباد الرحمن ، أما ما [ ص: 145 ] وكلكم الله به فتضيعونه ، وأما ما تكفل الله لكم به فتطلبونه ! ما هكذا نعت الله عباده الموقنين ، أذوو عقول في الدنيا وبله عما خلقتم له ؟ ! فكما ترجون رحمة الله بما تؤدون من طاعته ، فكذلك أشفقوا من عذابه بما تنتهكون من معاصيه ، عباد الرحمن ، هل جاءكم مخبر يخبركم أن شيئا من أعمالكم تقبل منكم ؟ أو شيئا من خطاياكم غفر لكم ؟ أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون [ المؤمنون : 115 ] والله لو عجل لكم الثواب في الدنيا لاستقللتم ما فرض عليكم ، أترغبون في طاعة الله لتعجيل دار مغمورة بالآفات ، ولا ترغبون وتنافسون في جنة أكلها دائم وظلها تلك عقبى الذين اتقوا وعقبى الكافرين النار [ الرعد : 35 ] ؟ !

وقال أيضا : الذكر ذكران ; ذكر الله باللسان حسن جميل ، وذكر الله عند ما أحل وحرم أفضل ، عباد الرحمن ، يقال لأحدنا : تحب أن تموت ؟ فيقول : لا . فيقال : لم ؟ فيقول : حتى أعمل . فيقال له : اعمل . فيقول : سوف . فلا يحب أن يموت ، ولا يحب أن يعمل ، وأحب شيء إليه أن يؤخر عمل الله عز وجل ، ولا يحب أن يؤخر عنه عرض دنياه ، عباد الرحمن ، إن العبد ليعمل الفريضة الواحدة من فرائض الله عز وجل ، وقد أضاع ما سواها ، فما يزال يمنيه الشيطان فيها ويزين له حتى ما يرى شيئا دون الجنة ، فقبل أن تعملوا أعمالكم فانظروا ماذا تريدون بها ، فإن كانت خالصة لله عز وجل فأمضوها ، وإن كانت لغير الله فلا تشقوا على أنفسكم ، فلا شيء لكم ، فإن الله لا يقبل [ ص: 146 ] من العمل إلا ما كان له خالصا ، فإنه قال : إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه [ فاطر : 10 ] .

وقال أيضا : إن الله ليس إلى عذابكم بسريع ; يقيل العثرة ، ويقبل المقبل ، ويدعو المدبر .

وقال أيضا : إذا رأيت الرجل لجوجا ، مماريا ، معجبا برأيه ، فقد تمت خسارته .

وقال الأوزاعي : خرج الناس بدمشق يستسقون ، فقام فيهم بلال بن سعد فقال : يا معشر من حضرتم ، ألستم مقرين بالإساءة ؟ قالوا : نعم . فقال : اللهم إنك قلت : ما على المحسنين من سبيل [ التوبة : 91 ] وقد أقررنا بالإساءة ، فاعف عنا واسقنا . قال : فسقوا يومهم ذلك .

وقال أيضا : سمعته يقول : لقد أدركت أقواما يشتدون بين الأعراض ، ويضحك بعضهم إلى بعض ، فإذا جنهم الليل كانوا رهبانا . وسمعته أيضا يقول : لا تنظر إلى صغر الذنب ، وانظر من عصيت . وسمعته يقول : من بادأك بالود فقد استرقك بالشكر .

[ ص: 147 ] وكان من دعائه : اللهم إني أعوذ بك من زيغ القلوب ، ومن تبعات الذنوب ، ومن مرديات الأعمال ، ومضلات الفتن .

الجعد بن درهم ،

هو أول من قال بخلق القرآن ، وهو الذي ينسب إليه مروان الجعدي وهو مروان الحمار آخر خلفاء بني أمية كان شيخه الجعد بن درهم أصله من حران ، ويقال : إنه من موالي بني مروان . سكن الجعد دمشق ، وكانت له بها دار بالقرب من القلانسيين إلى جانب الكنيسة ، ذكره ابن عساكر . قلت : وهي محلة بالقرب من الخواصين اليوم غربيها عند حمام القطانين الذي يقال له : حمام قلينس .

قال ابن عساكر وغيره : وقد أخذ بدعته عن بيان بن سمعان وأخذها بيان عن طالوت ابن أخت لبيد بن أعصم وزوج ابنته ، عن لبيد بن أعصم الساحر لعنه الله ، وأخذ عن الجعد الجهم بن صفوان الخزري . وقيل : الترمذي . وقد أقام ببلخ وكان يصلي مع مقاتل بن سليمان في مسجده [ ص: 148 ] ويتناظران ، حتى نفي إلى ترمذ ، ثم قتل الجهم بأصبهان وقيل : بمرو . قتله نائبها سلم بن أحوز رحمه الله ، وجزاه عن المسلمين خيرا ، وأخذ بشر المريسي عن الجهم وأخذ أحمد بن أبي دؤاد ، عن بشر وأما الجعد لعنه الله ، فإنه أقام بدمشق حتى أظهر القول بخلق القرآن ، فتطلبه بنو أمية فهرب منهم ، فسكن الكوفة فلقيه بها الجهم بن صفوان فتقلد هذا القول ، لعنهما الله ، ثم قتله خالد بن عبد الله القسري يوم عيد الأضحى بالكوفة وذلك أن خالدا خطب الناس ، فقال في خطبته تلك : أيها الناس ، ضحوا تقبل الله ضحاياكم ، فإني مضح بالجعد بن درهم إنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا ، ولم يكلم موسى تكليما ، تعالى الله عما يقول الجعد علوا كبيرا . ثم نزل فذبحه في أصل المنبر بيده ، أثابه الله تعالى وتقبل منه ، وذلك في أيام هشام بن عبد الملك وقد كان هشام طلبه بدمشق حين أظهر ما أظهر ، ثم إنه هرب بعد ذلك ، فكتب إلى نائبه خالد بن عبد الله القسري أن يقتله ، فقتله كما ذكرنا . وقد روى قصته مع خالد البخاري في " أفعال العباد " وابن أبي حاتم وغير واحد ممن صنف في السنة كالطبراني ، وابن أبي عاصم ، وعبد الله بن أحمد وذكره ابن عساكر في " التاريخ " .

وذكر أنه كان يتردد إلى وهب بن منبه وأنه كان كلما راح إلى وهب [ ص: 149 ] يغتسل ويقول : أجمع للعقل . وكان يسأل وهبا عن صفات الله ، عز وجل ، فقال له وهب يوما : ويلك يا جعد أقصر المسألة ، إني لأظنك من الهالكين ، لو لم يخبرنا الله في كتابه أن له يدا ما قلنا ذلك ، وأن له عينا ما قلنا ذلك . ثم لم يلبث الجعد أن صلب ، ثم قتل .

وذكر في ترجمته أنه قال للحجاج بن يوسف ويروى لعمران بن حطان :


ليث علي وفي الحروب نعامة     فتخاء تجفل من صفير الصافر
هلا برزت إلى غزالة في الوغى     بل كان قلبك في جناحي طائر



التالي السابق


الخدمات العلمية