صفحة جزء
[ ص: 151 ] ذكر وفاته وترجمته ، رحمه الله .

هو هشام بن عبد الملك بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس ، أبو الوليد القرشي الأموي الدمشقي ، أمير المؤمنين . وأمه أم هشام بنت هشام بن إسماعيل المخزومي وكانت داره بدمشق عند باب الخواصين وبعضها اليوم مدرسة نور الدين الشهيد التي يقال لها : النورية الكبيرة . وتعرف بدار القبابين يعني الذين يبيعون القباب . وهي الخيام ، والله أعلم . وقد بويع له بالخلافة بعد أخيه يزيد بن عبد الملك بعهد منه إليه ، وذلك يوم الجمعة لأربع بقين من شعبان سنة خمس ومائة ، وكان له من العمر يومئذ أربع وثلاثون سنة ، وكان جميلا أبيض أحول ، يخضب بالسواد ، وهو الرابع من ولد عبد الملك لصلبه الذين ولوا الخلافة ، وقد كان عبد الملك رأى في المنام كأنه بال في المحراب أربع مرات ، فدس إلى سعيد بن المسيب من سأله عنها ، ففسرها له بأنه يلي الخلافة من ولده أربعة ، فوقع ذلك ، فكان هشام آخرهم ، وكان في خلافته حازم الرأي ، جماعا للأموال يبخل ، وكان ذكيا مدبرا ، له بصر بالأمور جليلها وحقيرها ، وكان فيه حلم وأناة ، شتم مرة رجلا من الأشراف ، فقال : أتشتمني وأنت خليفة الله في الأرض ؟ فاستحيا وقال : اقتص مني بدلها . أو قال : بمثلها . فقال : إذن أكون سفيها مثلك . قال : فخذ عوضا منها . قال : لا أفعل . قال : فاتركها لله . [ ص: 152 ] قال : هي لله ، ثم لك . فقال هشام عند ذلك : والله لا أعود إلى مثلها .

وقال الأصمعي : أسمع رجل هشاما كلاما ، فقال له : أتقول لي مثل هذا وأنا خليفتك ؟

وغضب مرة على رجل ، فقال له : اسكت وإلا ضربتك سوطا .

وكان علي بن الحسين قد اقترض من مروان بن الحكم مالا ; أربعة آلاف دينار ، فلم يتعرض له أحد من بني مروان حتى استخلف هشام فقال : ما فعل حقنا قبلك ؟ قال : موفور مشكور . فقال : هو لك .

وكان هشام من أكره الناس لسفك الدماء ، ولقد دخل عليه من مقتل زيد بن علي وابنه يحيى أمر شديد ، وقال : وددت أني افتديتهما بجميع ما أملك .

وقال المدائني عن رجل من غني ، عن بشر مولى هشام قال : أتي هشام برجل عنده قيان وخمر وبربط . فقال : اكسرو الطنبور على رأسه [ ص: 153 ] وقرنه . فبكى الشيخ . قال بشر : فضربه ، فقلت له وأنا أعزيه : عليك بالصبر .

فقال : أتراني أبكي للضرب ، إنما أبكي لاحتقاره البربط حتى سماه طنبورا .

قال : وأغلظ لهشام رجل يوما في الكلام فقال : ليس لك أن تقول هذا لإمامك .

قال : وتفقد أحد ولده يوم الجمعة ، فبعث إليه : ما لك لم تشهد الجمعة ؟ فقال : إن بغلتي عجزت عني . فبعث إليه : أما كان يمكنك المشي . ومنعه أن يركب سنة .

وذكر المدائني أن رجلا أهدى إلى هشام طيرين ، فأوردهما السفير إلى هشام وهو جالس على سرير في وسط داره ، فقال له : أرسلهما في الدار . فأرسلهما ، ثم قال : جائزتي يا أمير المؤمنين . فقال : ويحك ! وما جائزتك على هدية طيرين ؟ خذ أحدهما . فجعل الرجل يسعى خلف أحدهما ، فقال : ويحك ! ما لك ؟ فقال : أختار أجودهما . قال : وتختار أيضا الجيد وتترك الرديء ؟ ثم أمر له بأربعين أو خمسين درهما .

وذكر المدائني ، عن قحذم كاتب يوسف بن عمر قال : بعثني يوسف إلى هشام بياقوتة حمراء ولؤلؤة كانتا لرائقة جارية خالد بن عبد الله القسري [ ص: 154 ] مشترى الياقوتة ثلاثة وسبعون ألف دينار . قال : فدخلت عليه وهو على سرير فوقه فرش لم أر رأس هشام من علو تلك الفرش ، فأوردتها له ، فقال : كم زنتهما ؟ فقلت : إن مثل هذه لا مثل لها . فسكت .

قالوا : ورأى قوما يفرطون الزيتون ، فقال : القطوه لقطا ، ولا تنفضوه نفضا ، فتفقأ عيونه وتنكسر غصونه .

وكان يقول : ثلاثة لا يضعن الشريف ; تعاهد الصنيعة ، وإصلاح المعيشة ، وطلب الحق وإن قل .

وقال أبو بكر الخرائطي : يقال : إن هشاما لم يقل من الشعر سوى هذا البيت :


إذا أنت لم تعص الهوى قادك الهوى إلى كل ما فيه عليك مقال

وقد روي له شعر غير هذا .

وقال المدائني ، عن وسنان الأعرجي حدثني ابن أبي نحيلة ، عن عقال بن شبة قال : دخلت على هشام وعليه قباء فنك أخضر ، فوجهني إلى [ ص: 155 ] خراسان 72 ، ثم جعل يوصيني وأنا أنظر إلى القباء ، ففطن ، فقال : ما لك ؟ قلت : رأيت عليك قباء فنك أخضر قبل أن تلي الخلافة ، فجعلت أتأمل هذا ; أهو ذاك أم غيره ؟ قال : هو والله الذي لا إله غيره ذاك ، ما لي قباء غيره ، وأما ما ترون من جمعي لهذا المال وصونه فإنه لكم . قال عقال : وكان هشام محشوا عقلا .

وقال عبد الله بن علي عم السفاح : جمعت دواوين بني أمية فلم أر أصلح للعامة والسلطان من ديوان هشام .

وقال المدائني ، عن غسان بن عبد الحميد : لم يكن أحد من بني مروان أشد نظرا في أمر أصحابه ودواوينه ، ولا أشد مبالغة في الفحص عنهم من هشام .

وهو الذي قتل غيلان القدري ولما أحضر بين يديه قال له : ويحك ! قل ما عندك ، إن كان حقا اتبعناه ، وإن كان باطلا رجعت عنه . فناظره ميمون بن مهران فقال لميمون : أشاء الله أن يعصى ؟ فقال له ميمون : أيعصى الله كارها ؟ فسكت غيلان ، فقيده حينئذ هشام وقتله .

[ ص: 156 ] وقال الأصمعي ، عن أبي الزناد ، عن منذر بن أبي ثور قال : أصبنا في خزائن هشام اثني عشر ألف قميص ، كلها قد أثر بها .

وشكى هشام إلى أبيه ثلاثا ; إحداها أنه يهاب الصعود على المنبر ، والثانية ، قلة تناول الطعام ، والثالثة ، أن عنده في القصر مائة جارية لا يكاد يصل إلى واحدة منهن . فكتب إليه أبوه : أما صعودك على المنبر فإذا علوت فوقه فارم ببصرك إلى مؤخر الناس فإنه أهون عليك ، وأما قلة الطعام فمر الطباخ فليكثر الألوان ، فلعلك أن تتناول من كل لون لقمة ، وعليك بكل بيضاء بضة ذات جمال وحسن .

وقال أبو عبد الله الشافعي : لما بنى هشام بن عبد الملك الرصافة قال : أحب أن أخلو بها يوما لا يأتيني فيه خبر غم . فما انتصف النهار حتى أتته ريشة دم من بعض الثغور فقال : ولا يوما واحدا ؟ ورويت هذه الحكاية من وجه آخر ، وأنه لم يمكث بعد ذلك إلا شهرا واحدا .

وقال سفيان بن عيينة : كان هشام لا يكتب إليه بكتاب فيه ذكر الموت .

وقال أبو بكر بن أبي خيثمة : ثنا إبراهيم بن المنذر الحزامي ، ثنا حسين بن [ ص: 157 ] زيد ، عن شهاب بن عبد ربه ، عن عمر بن علي قال : مشيت مع محمد بن علي - يعني ابن الحسين بن علي بن أبي طالب - إلى داره عند الحمام ، فقلت له : إنه قد طال ملك هشام وسلطانه ، وقد قرب من العشرين سنة ، وقد زعم الناس أن سليمان سأل ربه ملكا لا ينبغي لأحد من بعده ، فزعم الناس أنها العشرون . فقال : ما أدري ما أحاديث الناس ، ولكن أبي حدثني ، عن أبيه ، عن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لن يعمر الله ملكا في أمة نبي مضى قبله ما بلغ ذلك النبي من العمر في أمته فإن الله عمر نبيه صلى الله عليه وسلم ثلاث عشرة سنة بمكة وعشرا بالمدينة .

وقال أبو بكر بن أبي خيثمة : ليس حديث فيه توقيت غير هذا ، قرأه يحيى بن معين على كتابي فقال : من حدثك به ؟ فقلت : إبراهيم . فتلهف ؟ أن لا يكون سمعه . وقد رواه ابن جرير في " تاريخه " عن أحمد بن زهير ، عن إبراهيم بن المنذر الحزامي .

وروى مسلم بن إبراهيم ، ثنا القاسم بن الفضل ، حدثني عياذ بن المغراء العتكي ، عن عاصم بن المنذر بن الزبير ، عن عبد الله بن الزبير ، أنه سمع عليا يقول : هلاك ملك بني أمية على يد رجل أحول . يعني هشاما .

وروى أبو بكر بن أبي الدنيا ، عن عمر بن أبي معاذ النميري عن أبيه ، [ ص: 158 ] عن عمرو بن كليع ، عن سالم كاتب هشام بن عبد الملك قال : خرج علينا يوما هشام وعليه كآبة ، وقد ظهر عليه الحزن ، فاستدعى الأبرش بن الوليد فجاءه ، فقال : يا أمير المؤمنين ، ما لي أراك هكذا ؟ فقال : ما لي لا أكون وقد زعم أهل العلم بالنجوم أني أموت إلى ثلاث وثلاثين من يومي هذا . قال : فكتبنا ذلك ، فلما كان آخر ليلة من ذلك جاءني رسوله في الليل يقول : أحضر معك دواء للذبحة ، وكانت قد أصابته قبل ذلك فاستعمل منه فعوفي ، فذهبت إليه ومعي ذلك الدواء ، فتناوله وهو في وجع شديد ، واستمر فيه عامة الليل ، ثم قال : يا سالم اذهب إلى منزلك فقد وجدت خفة ، وذر الدواء عندي . فذهبت ، فما هو إلا أن وصلت إلى منزلي حتى سمعت الصياح عليه ، فإذا هو قد مات .

وذكر غيره أن هشاما نظر إلى أولاده وهم يبكون حوله ، فقال : جاد لكم هشام بالدنيا وجدتم عليه بالبكاء ، وترك لكم ما جمع ، وتركتم عليه ما كسب ، ما أعظم منقلب هشام إن لم يغفر الله له .

ولما مات جاءت الخزنة فختموا على حواصله ، وأرادوا تسخين الماء ، فلم يقدروا له على قمقم ، حتى استعاروا له . وكان نقش خاتمه : الحكم للحكم الحكيم .

وكانت وفاته بالرصافة يوم الأربعاء لست بقين من ربيع الآخر سنة خمس وعشرين ومائة ، وهو ابن بضع وخمسين سنة ، وقيل : إنه جاوز الستين . وصلى [ ص: 159 ] عليه الوليد بن يزيد بن عبد الملك الذي ولي الخلافة بعده ، وكانت خلافة هشام تسع عشرة سنة وسبعة أشهر وأحد عشر يوما . وقيل : وثمانية أشهر وأيام . فالله أعلم .

وقال ابن أبي فديك : ثنا عبد الملك بن زيد ، عن مصعب عن الزهري ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبيه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ترفع زينة الدنيا سنة خمس وعشرين ومائة قال ابن أبي فديك : زينتها نور الإسلام وبهجته . وقال غيره : يعني الرجال . والله أعلم .

قلت : لما مات هشام تولى ملك بني أمية واضطرب أمرهم جدا ، وإن كان قد تأخرت أيامهم بعده نحوا من سبع سنين ، ولكن في اختلاف وهيج ، وما زالوا حتى خرجت عليهم بنو العباس فاستلبوهم نعمتهم وملكهم ، وقتلوا منهم خلقا ، وسلبوهم الخلافة ، كما سيأتي إن شاء الله تعالى ذلك مبسوطا مقررا في مواضعه .

التالي السابق


الخدمات العلمية