صفحة جزء
[ ص: 216 ] ثم دخلت سنة ثمان وعشرين ومائة

فيها كان مقتل الحارث بن سريج ، وكان سبب ذلك أن يزيد بن الوليد الناقص كان قد كتب إليه كتاب أمان حتى خرج من بلاد الترك وصار إلى بلاد المسلمين ، ورجع عن موالاة المشركين إلى نصرة الإسلام وأهله . وأنه وقع بينه وبين نصر بن سيار نائب خراسان وحشة ومنافسات كثيرة يطول شرحها ، فلما صارت الخلافة إلى مروان بن محمد استوحش الحارث بن سريج من ذلك ، وتولى ابن هبيرة نيابة العراق وجاءت البيعة لمروان ، فامتنع الحارث من قبولها وتكلم في مروان وجاءه سلم بن أحوز أمير الشرطة ، وجماعة من رءوس الأجناد والأمراء ، وطلبوا منه أن يكف لسانه ويده ، وأن لا يفرق جماعة المسلمين ، فأبى وبرز ناحية عن الناس ، ودعا نصر بن سيار إلى ما هو عليه من الدعوة إلى الكتاب والسنة ، فامتنع نصر من موافقته ، واستمر هو على خروجه على الإسلام ، وأمر الجهم بن صفوان مولى بني راسب ، ويكنى بأبي محرز - وهو الذي تنسب إليه الفرقة الجهمية - أن يقرأ كتابا فيه سيرة الحارث على الناس ، وكان الحارث يقول : أنا صاحب الرايات السود . فبعث إليه نصر يقول : إن كنت ذاك فلعمري إنكم الذين تخربون سور دمشق وتزيلون بني أمية فخذ مني خمسمائة رأس ومائتي بعير وما شئت من الأموال ، وإن كنت غيره فقد أهلكت عشيرتك . فبعث إليهالحارث يقول : لعمري إن هذا لكائن . فقال له [ ص: 217 ] نصر : فابدأ بالكرماني أولا ، ثم سر إلى الري وأنا في طاعتك إذا وصلتها . ثم تناظر نصر والحارث ورضيا أن يحكم بينهما مقاتل بن حيان ، والجهم بن صفوان فحكما أن يعزل نصر ويكون الأمر شورى ، فامتنع نصر من قبول ذلك ، ولزم الجهم بن صفوان وغيره قراءة سيرة الحارث على الناس في المجامع والطرق ، فاستجاب له خلق كثير ، وجمع غفير ، فعند ذلك انتدب لقتاله جماعات من الجيوش عن أمر نصر بن سيار ، فقصدوه فحاجف دونه أصحابه ، فقتل منهم طائفة كثيرة منهم الجهم بن صفوان ، طعنه رجل في فيه فقتله ، ويقال : بل أسر الجهم فأوقف بين يدي سلم بن أحوز فأمر بقتله ، فقال : إن لي أمانا من ابنك . فقال : ما كان له أن يؤمنك ، ولو فعل ما أمنتك ، ولو ملأت هذه الملاءة كواكب ، وأنزلت إلي عيسى ابن مريم ما نجوت ، والله لو كنت في بطني لشققت بطني حتى أقتلك . وأمر عبد ربه بن سيسن فقتله ، ثم اتفق الحارث بن سريج ، والكرماني على نصر ومخالفته ، والدعوة إلى الكتاب والسنة ، واتباع أئمة الهدى ، وتحريم المنكرات ، إلى غير ذلك مما جاءت به الشريعة ، ثم اختلفا فيما بينهما ، واقتتلا قتالا شديدا ، فغلب الكرماني وانهزم أصحاب الحارث وكان راكبا على بغل ، فتحول عنه إلى فرس ، فحرنت أن تمشي ، وهرب عنه أصحابه ، ولم يبق معه منهم سوى مائة ، فأدركه أصحاب الكرماني فقتلوه تحت شجرة زيتون ، وقيل : تحت شجرة غبيراء . وذلك يوم الأحد لست بقين من رجب من هذه السنة ، وقتل معه مائة من أصحابه ، [ ص: 218 ] واحتاط الكرماني على حواصله وأمواله ، وأخذ أموال من خرج معه أيضا ، وأمر بصلب الحارث بلا رأس على باب مدينة مرو ، ولما بلغ نصر بن سيار مقتل الحارث قال في ذلك :


‌يا مدخل الذل على قومه بعدا وسحقا لك من هالك     شؤمك أردى مضرا كلها
وغض من قومك بالحارك     ما كانت الأزد وأشياعها
تطمع في عمرو ولا مالك     ولا بني سعد إذا ألجموا
كل طمر لونه حالك

وقد أجابه عباد بن الحارث بن سريج فيما قال :


ألا يا نصر قد برح الخفاء     وقد طال التمني والرجاء
وأصبحت المزون بأرض مرو     تقضي في الحكومة ما تشاء
يجوز قضاؤها في كل حكم     على مضر وإن جار القضاء
وحمير في مجالسها قعود     ترقرق في رقابهم الدماء
فإن مضر بذا رضيت وذلت     فطال لها المذلة والشقاء
وإن هي أعتبت فيها وإلا     فحل على عساكرها العفاء

وفي هذه السنة بعث إبراهيم بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس أبا [ ص: 219 ] مسلم الخراساني إلى خراسان ، وكتب معه كتابا إلى شيعتهم بها : إن هذا أبو مسلم فاسمعوا له وأطيعوا ، وقد وليته على ما غلب عليه من أرض خراسان . فلما قدم أبو مسلم خراسان ، وقرأ على أصحابه هذا الكتاب ، لم يلتفتوا إليه ، ولم يعملوا به ، وأعرضوا عنه ، ونبذوه وراء ظهورهم ، فرجع إلى إبراهيم بن محمد أيام الموسم ، فاشتكاهم إليه ، وأخبره بما قابلوه به من المخالفة ، فقال له : يا عبد الرحمن إنك رجل منا أهل البيت ارجع إليهم وعليك بهذا الحي من اليمن فالزمهم وانزل بين أظهرهم ، فإن الله لا يتم هذا الأمر إلا بهم . ثم حذره من بقية الأحياء ، وقال له : إن استطعت أن لا تدع بتلك البلاد لسانا عربيا فافعل ، ومن بلغ من أبنائهم خمسة أشبار واتهمته فاقتله ، وعليك بهذا الشيخ فلا تعصه . يعني سليمان بن كثير ، وسيأتي ما كان من أمر أبي مسلم الخراساني فيما بعد ، إن شاء الله تعالى .

وفي هذه السنة قتل الضحاك بن قيس الخارجي في قول أبي مخنف وكان سبب ذلك أن الضحاك حاصر عبد الله بن عمر بن عبد العزيز بواسط ووافقه على محاصرته منصور بن جمهور ، فكتب عبد الله بن عمر بن عبد العزيز إليه أنه لا فائدة لك في محاصرتي ، ولكن عليك بمروان بن محمد فسر إليه ، فإن قتلته اتبعتك . فاصطلحا على مخالفة مروان بن محمد ، وترحل الضحاك عنه ، وسار قاصدا إلى قتال مروان بن محمد أمير المؤمنين ، فلما اجتاز الضحاك بالموصل كاتبه أهلها ، فمال إليهم فدخلها ، وقتل [ ص: 220 ] نائبها ، واستحوذ عليها ، وبلغ ذلك مروان وهو محاصر حمص ، مشغول بأهلها وعدم مبايعتهم إياه ، فكتب إلى ابنه عبد الله بن مروان - وهو نائبه على الجزيرة - يأمره أن يقاتل الضحاك بالموصل فسار الضحاك إلى عبد الله بن مروان وكان الضحاك قد التف عليه مائة ألف وعشرون ألفا ، فحاصروا نصيبين ، وسار مروان في طلبه ، فالتقيا هنالك ، فاقتتلا قتالا شديدا جدا ، فاقتحم الضحاك عن فرسه ، وترجل معه جماعة من كبراء الأمراء ، فاقتتلوا قتالا شديدا ، فقتل الضحاك في المعركة ، وحجز الليل بين الفريقين ، وفقد أصحاب الضحاك الضحاك وشكوا في أمره ، حتى أخبرهم من شاهده قد قتل ، فبكوا عليه وناحوا ، وجاء الخبر إلى مروان فبعث إلى المعركة بالمشاعل ومن يعرف مكانه بين القتلى ، فلما وجدوه جاءوا به إلى مروان وهو مقتول ، وفي رأسه ووجهه نحو من عشرين ضربة ، فأمر برأسه ، فطيف به في مدائن الجزيرة .

واستخلف الضحاك من بعده على جيشه رجلا يقال له : الخيبري . فالتف عليه بقية جيش الضحاك والتف مع الخيبري سليمان بن هشام بن عبد الملك وأهل بيته ومواليه ، والجيش الذي كانوا قد بايعوه في السنة الماضية على الخلافة ، وخلعوا مروان بن محمد عن الخلافة لأجله ، فلما أصبحوا اقتتلوا مع مروان فحمل الخيبري في أربعمائة من شجعان أصحابه على مروان وهو في القلب ، فكر منهزما ، واتبعوه حتى أخرجوه من الجيش ، ودخلوا عسكره ، وجلس [ ص: 221 ] الخيبري على فرشه ، هذا وميمنة مروان ثابتة ، وعليها ابنه عبد الله وميسرته أيضا ثابتة ، وعليها إسحاق بن مسلم العقيلي . ولما رأى عبيد العسكر قلة من مع الخيبري وأن الميمنة والميسرة من جيشهم باقيتان طمعوا فيه ، فأقبلوا إليه بعمد الخيام ، فقتلوه بها ، وبلغ مقتله مروان وقد سار عن الجيش نحوا من خمسة أميال أو ستة ، فرجع مسرورا ، وانهزم أصحاب الخيبري وقد ولوا عليهم شيبان فقاتلهم مروان بعد ذلك بالكراديس ، فهزمهم .

وفيها بعث مروان الحمار على إمرة العراق يزيد بن عمر بن هبيرة ليقاتل من بها من الخوارج .

وفي هذه السنة حج بالناس عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز وهو نائب المدينة ومكة والطائف ، وأمير العراق يزيد بن عمر بن هبيرة ، وأمير خراسان نصر بن سيار .

التالي السابق


الخدمات العلمية