صفحة جزء
[ ص: 341 ] ثم دخلت سنة ثنتين وأربعين ومائة

فيها خلع عيينة بن موسى بن كعب نائب السند الخليفة ، فجهز إليه الخليفة العساكر صحبة عمر بن حفص بن أبي صفرة ، وولاه السند والهند ، فحاربه عمر بن حفص ، وقهره على الأرض ، وتسلمها منه .

وفيها نكث أصبهبذ طبرستان العهد الذي كان بينه وبين المسلمين ، وقتل طائفة ممن كان بطبرستان ، فجهز إليه الخليفة الجيوش صحبة خازم بن خزيمة ، وروح بن حاتم ، ومعهم مرزوق أبو الخصيب ، مولى المنصور ، فحاصروه مدة طويلة ، فلما أعياهم فتح الحصن الذي هو فيه احتالوا عليه ، وذلك أن أبا الخصيب قال لهم : اضربوني واحلقوا رأسي ولحيتي . ففعلوا ذلك ، فذهب إليه كأنه مغاضب للمسلمين ، فدخل الحصن ، ففرح به الأصبهبذ ، وأكرمه وقربه ، وجعل أبو الخصيب يظهر له من النصح والخدمة حتى خدعه ، وحظي عنده جدا ، وجعله من جملة من يتولى فتح الحصن وغلقه ، فلما تمكن عنده كاتب المسلمين وأعلمهم أن الليلة الفلانية في حرسه ، فاقتربوا من الباب حتى أفتحه لكم . فلما كانت تلك الليلة فتح للمسلمين الباب ، ودخلوا فقتلوا من فيه من المقاتلة وسبوا الذرية ، وامتص الأصبهبذ خاتما مسموما فمات . فكان ممن أسر يومئذ أم المنصور ابن المهدي ، وأم إبراهيم ابن المهدي ، وكانتا من بنات الملوك .

[ ص: 342 ] وفيها بنى المنصور لأهل البصرة قبلتهم التي يصلون عندها بالحمان ، وولي بناءه سلمة بن سعيد بن جابر نائب الفرات والأبلة . وصام المنصور شهر رمضان بالبصرة ، وصلى بالناس العيد في ذلك المصلى .

وفيها عزل المنصور نوفل بن الفرات عن إمرة مصر ، وولى عليها حميد بن قحطبة .

وحج بالناس في هذه السنة إسماعيل بن علي .

وفيها توفي سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس ، عم الخليفة ونائب البصرة ، كان ذلك يوم السبت لسبع بقين من جمادى الآخرة ، وهو ابن تسع وخمسين سنة ، وصلى عليه أخوه عبد الصمد .

روى عن أبيه وعكرمة وأبي بردة ابن أبي موسى . وعنه جماعة منهم; بنوه جعفر ومحمد وزينب ، والأصمعي . وكان قد شاب وهو ابن عشرين سنة ، وخضب لحيته من الشيب في ذلك السن ، وكان كريما جوادا ممدحا ، كان يعتق عشية عرفة في كل سنة مائة نسمة ، وبلغت صلاته لبني هاشم وسائر قريش والأنصار خمسة آلاف ألف .

واطلع يوما من قصره ، فرأى نسوة يغزلن في دار من دور البصرة ، فاتفق أن [ ص: 343 ] قالت إحداهن : ليت الأمير اطلع علينا; فأغنانا عن الغزل . فنهض فجعل يدور في قصره ، ويجمع من حلي نسائه من الذهب والجواهر وغير ذلك ما ملأ به منديلا ، ثم دلاه إليهن ، ونثره عليهن ، فماتت إحداهن من شدة الفرح .

وقد ولي الحج أيام السفاح ، وولي البصرة للمنصور ، وكان من خيار بني العباس ، وهو أخو إسماعيل ، وداود ، وصالح ، وعبد الصمد ، وعبد الله وعيسى ، ومحمد ، وهو عم السفاح والمنصور .

وممن توفي فيها خالد الحذاء ، وعاصم الأحول ، وعمرو بن عبيد القدري ، في قول ، وهو عمرو بن عبيد بن باب - ويقال : ابن كيسان - التميمي مولاهم ، أبو عثمان البصري ، من أبناء فارس ، شيخ القدرية والمعتزلة . روى الحديث عن الحسن البصري ، وعبيد الله بن أنس ، وأبي العالية ، وأبي قلابة ، وعنه الحمادان ، وسفيان بن عيينة ، والأعمش - وكان من أقرانه - وعبد الوارث بن سعيد ، وهارون بن موسى ، ويحيى القطان ، ويزيد بن زريع .

[ ص: 344 ] قال الإمام أحمد بن حنبل : ليس بأهل أن يحدث عنه . وقال علي ابن المديني ويحيى بن معين : ليس بشيء . وزاد ابن معين : وكان رجل سوء ، كان من الدهرية الذين يقولون : إنما الناس مثل الزرع . وقال الفلاس : متروك ، صاحب بدعة ، كان يحيى القطان يحدثنا عنه ثم تركه ، وكان ابن مهدي لا يحدث عنه . وقال أبو حاتم : متروك . وقال النسائي : ليس بثقة . وقال شعبة ، عن يونس بن عبيد : كان عمرو بن عبيد يكذب في الحديث . وقال حماد بن سلمة : قال لي حميد : لا تأخذ عنه ، فإنه كان يكذب على الحسن البصري . وكذا قال أيوب وعوف وابن عون . وقال أيوب : ما كنت أعد له عقلا . وقال مطر الوراق : والله لا أصدقه في شيء . وقال ابن المبارك : إنما تركوا حديثه لأنه كان يدعو إلى القدر . وقد ضعفه غير واحد من أئمة الجرح والتعديل ، وأثنى عليه آخرون في عبادته ، وزهده وتقشفه; قال الحسن البصري : هذا سيد شباب القرى ما لم يحدث . قالوا : [ ص: 345 ] فأحدث والله أشد الحدث . وقال ابن حبان : كان من أهل الورع والعبادة إلى أن أحدث ما أحدث ، واعتزل مجلس الحسن هو وجماعة معه فسموا المعتزلة ، وكان يشتم الصحابة ، ويكذب في الحديث وهما لا تعمدا . وقد روي عنه أنه قال : إن كانت : تبت يدا أبي لهب . في اللوح المحفوظ فما لله على ابن آدم حجة .

وروي له حديث ابن مسعود : حدثنا الصادق المصدوق : " إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوما " . حتى قال : " فيؤمر بأربع كلمات; رزقه وأجله وعمله ، وشقي أم سعيد " . إلى آخره ، فقال : لو سمعت الأعمش يرويه لكذبته ، ولو سمعته من زيد بن وهب لما أحببته ، ولو سمعته من ابن مسعود لما قبلته ، ولو سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم لرددته ، ولو سمعت الله يقول هذا لقلت : ما على هذا أخذت علينا الميثاق . وهذا من أقبح الكفر ، لعنه الله ، إن كان قال هذا .

وقد قال عبد الله بن المبارك ، رحمه الله :


أيها الطالب علما ايت حماد بن زيد [ ص: 346 ]     فخذ العلم بحلم
ثم قيده بقيد     وذر البدعة من آ
ثار عمرو بن عبيد

وقال ابن عدي : كان يغر الناس بتقشفه ، وهو مذموم ضعيف الحديث جدا ، معلن بالبدع . وقال الدارقطني : ضعيف الحديث . وقال الخطيب البغدادي : جالس الحسن واشتهر بصحبته ، ثم أزاله واصل بن عطاء عن مذهب أهل السنة ، وقال بالقدر ودعا إليه ، واعتزل أصحاب الحسن ، وكان له سمت وإظهار زهد . وقد قيل : إنه وواصل بن عطاء ولدا سنة ثمانين . وحكى البخاري أنه مات سنة ثنتين أو ثلاث وأربعين ومائة ، بطريق مكة . وكان حظيا عند أبي جعفر المنصور; لأنه كان يفد مع القراء ، فيعطيهم المنصور فيأخذون ، ولا يقبل عمرو منه شيئا ، فكان ذلك يعجب المنصور; لأن المنصور كان بخيلا ، وكان يقول :


كلكم يمشي رويد     كلكم يطلب صيد


غير عمرو بن عبيد

ولو تبصر المنصور لعلم أن كل واحد من أولئك القراء خير من ملء الأرض [ ص: 347 ] مثل عمرو بن عبيد ، والزهد لا يدل على صلاح ، فإن بعض الرهابين قد يكون عنده من الزهد ما لا يطيقه كثير من المسلمين في زمانه .

وقد روينا عن إسماعيل بن مسلمة القعنبي قال : رأيت الحسن ابن أبي جعفر في المنام بعد ما مات بعبادان ، فقال لي : أيوب ويونس وابن عون في الجنة . قلت : فعمرو بن عبيد؟ قال : في النار . ثم رآه مرة ثانية ، ويروى ثالثة ، ويقول له مثل هذا .

وقد رئيت له منامات قبيحة ، وقد طول شيخنا في " تهذيبه " ترجمته ، ولخصنا حاصلها في كتاب " التكميل " ، وإنما أشرنا هاهنا إلى نبذ من حاله; ليعرف فلا يغتر به . والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية