صفحة جزء
ذكر خروج إبراهيم بن عبد الله بن حسن بالبصرة وكيفية مقتله

كان إبراهيم قد نزل في بني ضبيعة من البصرة ، في دار الحارث بن عيسى ، وكان لا يرى بالنهار ، وكان قدومه إليها بعد أن طاف بلادا كثيرة جدا ، وجرت عليه وعلى أخيه خطوب شديدة هائلة ، وانعقد أسباب هلاكهما في أوقات متعددة ، ثم كان آخر ما استقر أمره بالبصرة في سنة ثلاث [ ص: 373 ] وأربعين ومائة ، بعد منصرف الحجيج .

وقيل : إن أول قدومه إليها كان في مستهل رمضان ، سنة خمس وأربعين ومائة ، بعثه أخوه إليها بعد ظهوره بالمدينة النبوية . قاله الواقدي . قال : وكان يدعو في السر إلى أخيه ، فلما قتل أخوه أظهر الدعوة إلى نفسه ومخالفة المنصور في شوال من هذه السنة . والمشهور أنه قدمها قبل ذلك وأنه أظهر الدعوة في حياة أخيه ، كما قدمنا . والله أعلم .

ولما دخل البصرة أول قدومه إليها نزل عند يحيى بن زياد بن حسان النبطي ، وكان مختفيا عنده هذه المدة كلها ، حتى ظهر في هذه السنة ، وكان أول ظهوره في دار أبي فروة ، وكان أول من بايعه نميلة بن مرة ، وعفو الله بن سفيان ، وعبد الواحد بن زياد ، وعمرو بن سلمة الهجيمي ، وعبيد الله بن يحيى بن حضين الرقاشي ، وندبوا الناس إليه ، فاستجاب له خلق كثير ، فتحول إلى دار أبي مروان في وسط البصرة ، واستفحل أمره ، وبايعه فئام من الناس ، وتفاقم الخطب به ، وبلغ خبره إلى أبي جعفر المنصور ، فازداد غما إلى غمه بأخيه محمد; وذلك لأنه ظهر قبل مقتل أخيه ، كما ذكرنا وإنما كان السبب في تعجيله الظهور بالبصرة كتاب أخيه إليه بذلك ، فامتثل أمره ، ودعا إلى نفسه ، فانتظم أمره بالبصرة ، وكان نائبها للمنصور سفيان بن معاوية ، وكان ممالئا لإبراهيم في الباطن ويبلغه أخباره ، فلا يكترث لها ، ويكذب [ ص: 374 ] بما يخبر به منها ويود أن لو صح أمر إبراهيم ، وقد أمده المنصور بأميرين من أهل خراسان معهما ألفا فارس وراجل ، فأنزلهما عنده ليتقوى بهما على محاربة إبراهيم ، وتحول المنصور من بغداد - وكان قد شرع في عمارتها - إلى الكوفة وجعل كلما اتهم رجلا من أهل الكوفة في أمر إبراهيم ، بعث إليه من يقتله في الليل في منزله ، وكان الفرافصة العجلي قد هم بالوثوب بالكوفة ، فلم يمكنه ذلك لمكان المنصور بها ، وجعل الناس يقصدون البصرة من كل فج عميق لمبايعة إبراهيم ، ويفدون إليها جماعات وفرادى ، وجعل المنصور يرصد لهم المسالح ، فيقتلونهم في الطرقات ، ويأتونه برءوسهم فيصلبها بالكوفة ليتعظ بها الناس ، وأرسل المنصور إلى حرب الراوندي - وكان مرابطا بالجزيرة في ألفي فارس لقتال الخوارج - يستدعيه إلى الكوفة ، فأقبل بمن معه ، فلما اجتاز ببلدة بها أنصار لإبراهيم ، فقالوا له : لا ندعك تجتاز; لأنك إنما طلبك ليحارب إبراهيم . فقال : ويحكم! دعوني . فأبوا فقاتلهم ، فقتل منهم خمسمائة ، وأرسل برءوسهم إلى المنصور ، فقال : هذا أول الفتح . ولما كانت ليلة الاثنين مستهل رمضان من هذه السنة ، خرج إبراهيم في الليل إلى مقبرة بني يشكر في بضعة عشر فارسا ، وقدم في هذه الليلة أبو حماد الأبرص في ألفي فارس مدادا لسفيان بن معاوية ، فأنزلهم الأمير [ ص: 375 ] في القصر ، ومال إبراهيم وأصحابه ومن التف عليه وصار إليه إلى دواب أولئك العسكر وأسلحتهم ، فأخذوها جميعا ، فكان هذا أول ما أصاب ، وما أصبح الصباح إلا وقد استظهر جدا ، فصلى بالناس صلاة الصبح في المسجد الجامع ، والتفت الخلائق عليه ما بين ناظر وناصر ، وتحصن سفيان بن معاوية نائب الخليفة بقصر الإمارة ، وجلس عنده الجنود ، فحاصرهم إبراهيم بمن معه ، فطلب سفيان بن معاوية الأمان ، فأعطاه الأمان ، ودخل إبراهيم قصر الإمارة ، فبسطت له حصير ليجلس عليها في مقدم إيوان القصر ، فهبت الريح ، فقلبت الحصير ظهرا لبطن ، فتطير الناس بذلك ، فقال : إنا لا نتطير . وجلس على ظهر الحصير ، وأمر بحبس سفيان بن معاوية مقيدا ، وأراد بذلك أن يبرئ ساحته عند أبي جعفر المنصور ، واستحوذ على ما كان في بيت المال ، فإذا فيه ستمائة ألف ، وقيل : ألفا ألف . فقوي بذلك جدا .

وكان بالبصرة جعفر ومحمد ابنا سليمان بن علي ، وهما ابنا عم الخليفة المنصور ، فركبا في ستمائة فارس ، فأرسل إليهما إبراهيم المضاء بن القاسم في ثمانية عشر فارسا وثلاثين راجلا ، فهزم بهؤلاء ستمائة فارس ، وأمن من بقي منهم ، وبعث إبراهيم إلى أهل الأهواز ، فبايعوا له وأطاعوه ، وأرسل إلى نائبها مائتي فارس عليهم المغيرة ، فخرج إليه محمد بن الحصين نائب البلاد في أربعة آلاف ، فهزمه المغيرة ، واستحوذ على البلاد ، وبعث إبراهيم إلى بلاد فارس فأخذها ، وكذلك واسط والمدائن والسواد ، واستفحل أمره جدا ، ولكن لما جاءه نعي أخيه محمد انكسر جدا ، وصلى بالناس يوم العيد وهو مكسور ، [ ص: 376 ] فقال بعضهم : والله لقد رأيت الموت في وجهه وهو يخطب الناس ، فنعى إلى الناس أخاه محمدا ، فازداد الناس حنقا على المنصور ، وأصبح فعسكر بالناس ، واستناب على البصرة نميلة ، وخلف ابنه حسنا معه .

ولما بلغ المنصور خبره تحير في أمره ، وجعل يتأسف على ما فرق من جنده في الممالك ، وكان قد بعث مع ابنه المهدي ثلاثين ألفا إلى الري ، وبعث محمد بن الأشعث إلى إفريقية في أربعين ألفا ، والباقون مع عيسى بن موسى بالحجاز ، ولم يبق معه في معسكره سوى ألفي فارس فكان يأمر بالنيران الكثيرة ، فتوقد ليلا ، فيحسب الناظر أن هناك جنودا كثيرة ، ثم كتب المنصور إلى عيسى بن موسى وهو بالحجاز بعد قتل محمد بن عبد الله بن حسن : إذا قرأت كتابي هذا ، فأقبل من فورك ، ودع كل ما أنت فيه . فلم ينشب أن أقبل إليه ، فقال له : اذهب إلى إبراهيم بالبصرة ولا يهولنك كثرة من معه ، فإنهما جملا بني هاشم المقتولان جميعا ، فابسط يدك ، وثق بما عندك ، وستذكر ما أقول لك ، فكان الأمر كما قال المنصور .

وكتب المنصور إلى ابنه المهدي أن يوجه خازم بن خزيمة في أربعة آلاف إلى الأهواز ، فذهب إليها ، فأخرج منها نائب إبراهيم - وهو المغيرة - وأباحها ثلاثة أيام ، ورجع المغيرة إلى البصرة ، وكذلك بعث إلى كل كورة من هذه الكور التي خلعت يردونهم إلى الطاعة . قالوا : ولزم المنصور موضع مصلاه ، فلا يبرح فيه ليلا ولا نهارا في بذلة ثياب عليه قد اتسخت ، فلم يزل مقيما هناك [ ص: 377 ] بضعا وخمسين يوما ، حتى فتح الله عليه ، وقد قيل له في غبون ذلك : يا أمير المؤمنين ، إن نساءك قد خبثت أنفسهن لغيبتك عنهن . فانتهر القائل ، وقال : ويحك! ليست هذه أيام نساء حتى أرى رأس إبراهيم بين يدي أو يحمل رأسي إليه . وقال بعضهم : دخلت على المنصور وهو مهموم من كثرة ما وقع من الشرور والفتوق والخروق وهو لا يستطيع أن يتابع الكلام من شدة كربه وهمه ، وهو مع ذلك قد أعد لكل أمر ما يسد خلله ، وقد خرجت عن يده البصرة والأهواز وأرض فارس وواسط والمدائن وأرض السواد ، وفي الكوفة عنده مائة ألف سيف مغمدة ، تنتظر به صيحة واحدة ، فيثبون عليه مع إبراهيم ، وهو مع ذلك يعرك النوائب ويمرسها ، ولم تقعد به نفسه ، وهو كما قال الشاعر :


نفس عصام سودت عصاما وعلمته الكر والإقداما     فصيرته ملكا هماما

وأقبل إبراهيم قاصدا من البصرة إلى الكوفة في مائة ألف مقاتل ، فأرسل إليه المنصور عيسى بن موسى في خمسة عشر ألفا ، وعلى مقدمته حميد بن قحطبة في ثلاثة آلاف ، وجاء إبراهيم فنزل في باخمرا في جحافل عظيمة ، فقال له بعض الأمراء : إنك قد اقتربت من المنصور ، فلو أنك سرت إليه بطائفة من جيشك هذا لأخذت بقفاه; فإنه ليس عنده من الجيوش أحد يردون عنه . فقال آخرون منهم : إن الأولى أن نناجز هؤلاء الذين بإزائنا ، ثم هو في قبضتنا . فثناهم [ ص: 378 ] ذلك عن الرأي الأول ، ولو فعلوه لتم لهم الأمر ، ثم قال بعضهم : خندق حول الجيش . فقال آخرون : إن هذا الجيش لا يحتاج إلى خندق حوله . فترك ذلك ، ثم أشار بعضهم بأن يبيت جيش عيسى بن موسى ، فقال إبراهيم : إنى لا أرى ذلك . فتركه ، ثم أشار آخرون بأن يجعل جيشه كراديس ، فإن غلب كردوس ثبت الآخر ، فقال آخرون : إن الأولى أن نقاتل صفوفا; لقوله تعالى : إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص [ الصف : 4 ] .

وأقبل الجيشان ، فتصافوا في باخمرا ، وهي على ستة عشر فرسخا من الكوفة فاقتتلوا بها قتالا شديدا ، فانهزم حميد بن قحطبة بمن معه من المقدمة ، فجعل عيسى يناشدهم الله في الرجوع والكرة ، فلا يلوي عليه أحد ، وثبت عيسى بن موسى في مائة رجل من أهله ، فقيل له : لو تنحيت من مكانك هذا لئلا يحطمك جيش إبراهيم . فقال : والله لا أزول عنه حتى يفتح الله لي أو أقتل هاهنا . وكان المنصور قد تقدم إليه بما أخبره به بعض المنجمين; أن الناس يكون لهم جولة مع عيسى بن موسى ، ثم يقومون إليه وتكون العاقبة له ، فاستمر المنهزمون ذاهبين فانتهوا إلى نهر بين جبلين ، فلم يمكنهم خوضه فكروا راجعين بأجمعهم ، فكان أول راجع حميد بن قحطبة الذي كان أول من انهزم ، ثم اجتلدوا هم وأصحاب إبراهيم ، فاقتتلوا قتالا شديدا ، وقتل من كلا الفريقين خلق كثير ، ثم انهزم أصحاب إبراهيم ، وثبت هو في خمسمائة ، وقيل : في أربعمائة . وقيل : في سبعين رجلا . واستظهر عيسى بن موسى وأصحابه ، وقتل إبراهيم في جملة من قتل ، واختلط رأسه مع رءوس أصحابه ، فجعل حميد [ ص: 379 ] يأتي بالرءوس فيعرضها على عيسى بن موسى حتى عرفوا رأس إبراهيم ، فبعثوه مع البشير إلى المنصور ، وكان نيبخت المنجم قد دخل قبل مجيء البشير على المنصور فقال له : يا أمير المؤمنين ، أبشر فإن إبراهيم مقتول . فلم يصدقه ، فقال : يا أمير المؤمنين ، إن لم تصدقني فاحبسني ، فإن لم يكن الأمر كما ذكرت لك فاقتلني . فبينا هو عنده إذ جاء البشير بهزيمة إبراهيم ، ولما جيء بالرأس تمثل المنصور ببيت معقر بن حمار البارقي :


فألقت عصاها واستقر بها النوى     كما قر عينا بالإياب المسافر

ويقال : إن المنصور لما نظر إلى الرأس بكى حتى جعلت دموعه تسقط على الرأس ، وقال : والله لقد كنت لهذا كارها ، ولكنك ابتليت بي وابتليت بك . ثم أمر بالرأس ، فنصب للناس بالسوق . وأقطع نيبخت المنجم ألفي جريب .

وذكر صالح مولى المنصور قال : لما جيء برأس إبراهيم جلس المنصور مجلسا عاما ، وجعل الناس يدخلون عليه فيهنئونه ، وينالون من إبراهيم ، [ ص: 380 ] ويقبحون الكلام فيه ابتغاء مرضاة المنصور ، والمنصور واجم متغير اللون لا يتكلم ، حتى دخل جعفر بن حنظلة البهراني ، فوقف فسلم ، ثم قال : أعظم الله أجرك يا أمير المؤمنين في ابن عمك ، وغفر له ما فرط من حقك . قال : فاصفر لون المنصور ، وأقبل عليه ، وقال : أبا خالد ، مرحبا وأهلا ، هاهنا؟! فعلم الناس أن ذلك قد وقع منه فجعل كل من جاء يقول كما قال جعفر بن حنظلة .

قال أبو نعيم الفضل بن دكين : كان ذلك في ليلة الثلاثاء لخمس بقين من ذي القعدة من هذه السنة . يعني سنة خمس وأربعين ومائة .

التالي السابق


الخدمات العلمية