صفحة جزء
[ ص: 406 ] ثم دخلت سنة سبع وأربعين ومائة

فيها أغار إسترخان الخوارزمي في جيش من الأتراك على ناحية أرمينية ، فدخلوا تفليس ، وقتلوا خلقا ، وأسروا كثيرا من المسلمين وأهل الذمة ، وممن قتل يومئذ حرب بن عبد الله الراوندي الذي تنسب إليه الحربية ببغداد ، وكان مقيما بالموصل في ألفين لمقابلة الخوارج ، فسيره المنصور لمساعدة المسلمين ببلاد أرمينية ، فكان في جيش جبرئيل بن يحيى ، فهزم جبرئيل ، وقتل حرب ، رحمه الله .

وفي هذه السنة كان مهلك عبد الله بن علي عم المنصور ، الذي أخذ الشام ، من أيدي بني أمية ، ثم كان عليها حتى مات السفاح ، فدعا إلى نفسه ، فبعث إليه المنصور أبا مسلم الخراساني ، فهزمه ، وهرب عبد الله إلى عند أخيه سليمان بن علي بالبصرة ، فاختفى عنده مدة ، ثم ظهر المنصور على أمره ، فاستدعاه وسجنه ، فلما كان في هذه السنة عزم المنصور على الحج ، فطلب ابن عمه عيسى بن موسى - وكان ولي العهد من بعد المنصور عن وصية السفاح - وسلم إليه عمه عبد الله بن علي ، وقال له : إن هذا عدوي وعدوك ، فاقتله في غيبتي عنك ولا تتوان . وسار المنصور إلى الحج ، وجعل يكتب إليه من الطريق يستحثه في ذلك ويقول له : ماذا صنعت فيما أوعزت إليك فيه؟ مرة بعد مرة . [ ص: 407 ] وأما عيسى بن موسى فإنه لما تسلم عمه حار في أمره ، وشاور بعض أهله ، فأشار بعضهم ممن له رأي أن المصلحة تقتضي أن لا تقتله وأخفه عندك ، وأظهر قتله; فإنا نخشى أن يطالبك به جهرة ، فتقول : قتلته . فيأمر بالقود ، فتدعي أنه أمرك بقتله في السر ، فتعجز عن إثبات ذلك فيقتلك به ، وإنما يريد المنصور قتله وقتلك ليستريح منكما معا . فتبصر عيسى بن موسى عند ذلك ، وأخفى عمه ، وأظهر أنه قتله ، فلما رجع المنصور من الحج أمر أهله أن يدخلوا عليه ، ويشفعوا في عبد الله بن علي ، فجاءوا كلهم فدخلوا عليه ، وشفعوا في عبد الله بن علي وألحوا في ذلك ، فأجابهم إليه ، واستدعى عيسى بن موسى وقال له : إن هؤلاء قد شفعوا علي في عبد الله بن علي ، وقد أجبتهم إلى ما طلبوا ، فسلمه إليهم . فقال عيسى : وأين عبد الله؟ ذاك قتلته منذ أمرتني . فقال المنصور : لم آمرك بذلك . وجحد أن يكون تقدم إليه منه أمر في ذلك ، فأحضر عيسى الكتب باستحثاثه في ذلك مرة بعد مرة ، فأنكر أن يكون أراد ذلك ، وصمم على الإنكار ، وصمم عيسى بن موسى أنه قد قتله ، فأمر المنصور عند ذلك بقتله قصاصا بعبد الله ، فخرج به بنو هاشم ليقتلوه ، فلما جاءوا بالسيف قال : ردوني إلى الخليفة . فردوه إليه ، فقال له : إن عمك حاضر ، ولم أقتله . فقال : هلم به . فأحضره ، فسقط في يد الخليفة ، وأمر بسجنه في دار جدرانها مبنية على ملح ، فلما كان من الليل أرسل على جدرانها الماء ، فسقط عليه البناء ، فهلك ، رحمه الله .

[ ص: 408 ] ثم إن المنصور خلع عيسى بن موسى عن ولاية العهد ، وقدم عليه ابنه المهدي ، فكان يجلسه فوق عيسى عن يمينه ، ثم كان بعد ذلك لا يلتفت إلى عيسى بن موسى ، ويهينه في الإذن والمشورة والدخول عليه والخروج من عنده ، بعد ما كان حظيا عنده قبل ذلك جدا ، ثم ما زال يقصيه ويبعده ويتهدده ويتوعده ، حتى خلع نفسه بنفسه وبايع لمحمد ابن المنصور ، وأعطاه المنصور على ذلك نحوا من اثنى عشر ألف ألف درهم ، وانصلح أمر عيسى بن موسى وبنيه عند المنصور ، وأقبل عليه بعدما كان قد أعرض عنه ، وكان قد جرت بينهما مكاتبات كثيرة جدا ، ومراوضات في تمهيد البيعة لابنه المهدي وخلع عيسى نفسه ، وأن العامة لا يعدلون بالمهدي أحدا ، وكذلك الأمراء والخواص ، ولم يزل به حتى أجاب إلى ذلك مكرها ، فعوضه عن ذلك ما ذكرنا ، وسارت بيعة المهدي في الآفاق شرقا وغربا ، وبعدا وقربا ، وفرح المنصور بذلك فرحا شديدا ، واستقرت الخلافة في ذريته إلى زماننا هذا ، فلم يكن خليفة من بني العباس إلا من سلالته ، ذلك تقدير العزيز العليم .

وفيها توفي عبيد الله بن عمر العمري ، وهاشم بن هاشم ، وهشام بن حسان صاحب الحسن البصري .

التالي السابق


الخدمات العلمية