صفحة جزء
[ ص: 459 ] وهذه ترجمة أبي جعفر المنصور

هو عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس بن عبد المطلب بن هاشم ، أبو جعفر المنصور . وكان أكبر من أخيه أبي العباس السفاح ، وأمه أم ولد ، اسمها سلامة .

روى عن أبيه ، عن جده ، عن ابن عباس ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتختم في يمينه . أورده الحافظ ابن عساكر من طريق محمد بن إبراهيم السلمي عن المأمون ، عن الرشيد ، عن المهدي ، عن أبيه المنصور به .

بويع له بالخلافة بعد أخيه في ذي الحجة ، سنة ست وثلاثين ومائة ، وعمره يومئذ إحدى وأربعون سنة; لأنه ولد في سنة خمس وتسعين على المشهور في صفر منها بالحميمة ، وكانت خلافته ثنتين وعشرين سنة إلا أياما .

وكان أسمر اللون ، موفور اللمة ، خفيف اللحية ، رحب الجبهة ، أقنى الأنف بين القنا ، أعين كأن عينيه لسانان ناطقان ، تخالطه أبهة الملك ، وتقبله القلوب وتتبعه العيون يعرف الشرف في تواضعه ، والعتق في صورته ، واللب في مشيته . هكذا وصفه بعض من رآه .

[ ص: 460 ] وقد صح عن ابن عباس أنه قال : منا السفاح والمنصور والمهدي . وفي رواية : حتى يسلمها إلى عيسى ابن مريم ، عليه السلام . وقد روي مرفوعا ، ولا يصح رفعه .

وذكر الخطيب البغدادي أن أمه سلامة قالت : رأيت حين حملت به كأنه خرج مني أسد ، فزأر وأقعى على يديه ، فما بقي أسد حتى جاء فسجد له .

وقد رأى المنصور في صغره مناما غريبا ، فكان يقول : ينبغي أن يكتب في ألواح الذهب ، ويعلق في أعناق الصبيان . قال : رأيت كأني في المسجد الحرام ، وإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكعبة ، والناس مجتمعون حولها ، فخرج من عنده مناد فنادى : أين عبد الله؟ فقام أخي السفاح يتخطى الرجال حتى جاء باب الكعبة ، فأخذ بيده ، فأدخله إياها ، فما لبث أن خرج ومعه لواء أسود . ثم نودي : أين عبد الله؟ فقمت أنا وعمي عبد الله بن علي نستبق ، فسبقته إلى باب الكعبة ، فدخلتها ، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأبو بكر وعمر وبلال ، فعقد لي لواء ، وأوصاني بأمته ، وعممني عمامة كورها ثلاثة وعشرين كورا ، وقال : خذها إليك أبا الخلفاء إلى يوم القيامة .

وقد اتفق سجن المنصور في أيام بني أمية ، فاجتمع به في السجن نوبخت [ ص: 461 ] المنجم ، وتوسم فيه الرياسة ، فقال له : ممن تكون؟ فلما عرف نسبه وكنيته قال : أنت الخليفة الذي يلي الأرض . فقال له : ويحك! ماذا تقول؟ فقال : هو ما أقول لك ، فضع لي خطك في هذه الرقعة أن تعطيني شيئا إذا وليت . فكتب له ، فلما ولي أكرمه المنصور ، وأعطاه وأسلم نوبخت على يديه ، وكان قبل ذلك مجوسيا ، ثم كان من أخص أصحاب المنصور عنده .

وقد حج المنصور بالناس سنة أربعين ومائة ، أحرم من الحيرة ، وفي سنة أربع وأربعين ، وفي سنة سبع وأربعين ، وفي سنة ثنتين وخمسين ، ثم في هذه السنة التي كانت فيها وفاته . وبنى مدينة السلام بغداد ، والرافقة ، وقصر الخلد .

قال الربيع بن يونس الحاجب : سمعت المنصور يقول : الخلفاء أربعة; أبو بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلي ، والملوك أربعة; معاوية ، وعبد الملك بن مروان ، وهشام بن عبد الملك ، وأنا .

وقال مالك : قال لي المنصور : من أفضل الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقلت : أبو بكر ، وعمر . فقال : أصبت ، وذلك رأي أمير المؤمنين .

وعن إسماعيل الفهري قال : سمعت المنصور على منبر عرفة يوم عرفة يقول : أيها الناس ، إنما أنا سلطان الله في أرضه ، أسوسكم بتوفيقه ورشده ، وخازنه على ماله ، أقسمه بإرادته ، وأعطيه بإذنه ، وقد جعلني الله عليه [ ص: 462 ] قفلا ، إذا شاء أن يفتحني لإعطائكم وقسم أرزاقكم فتحني ، وإذا شاء أن يقفلني عليه أقفلني ، فارغبوا إلى الله أيها الناس ، وسلوه - في هذا اليوم الشريف الذي وهب لكم فيه من فضله ما أعلمكم به في كتابه ، إذ يقول : اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا [ المائدة : 3 ] . أن يوفقني للصواب ، ويسددني للرشاد ، ويلهمني الرأفة بكم ، والإحسان إليكم ، ويفتحني لإعطائكم ، وقسم أرزاقكم بالعدل عليكم ، فإنه سميع مجيب .

وقد خطب يوما ، فاعترضه رجل وهو يثني على الله عز وجل ، فقال : يا أمير المؤمنين ، اذكر من أنت ذاكره ، واتق الله فيما تأتيه وتذره . فسكت المنصور حتى انتهى كلام الرجل ، فقال : أعوذ بالله أن أكون ممن قال الله ، عز وجل ، فيه : وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم [ البقرة : 206 ] . أو أن أكون جبارا عصيا ، أيها الناس ، إن الموعظة علينا نزلت ، ومن عندنا بينت . ثم قال للرجل : ما أظنك في مقالتك هذه تريد وجه الله ، وإنما أردت أن يقال : وعظ أمير المؤمنين . أيها الناس ، لا يغرنكم هذا فتفعلوا كفعله . ثم أمر به فاحتفظ به ، وعاد إلى خطبته فأكملها ، ثم قال لمن هو عنده : اعرض عليه الدنيا فإن قبلها فأعلمني ، وإن ردها فأعلمني . فما زال به الرجل الذي هو عنده حتى أخذ المال والجواري ، وولاه الحسبة والمظالم ، وأدخله على الخليفة في بزة حسنة ، وثياب وشارة حسنة ، فقال له الخليفة : ويحك! إنك لو كنت محقا لما قبلت شيئا مما أرى ، ولكن أردت أن يقال عنك : إنك وعظت أمير المؤمنين ، وخرجت عليه . [ ص: 463 ] ثم أمر به فضربت عنقه .

وقد قال المنصور لابنه المهدي : إن الخليفة لا يصلحه إلا التقوى ، والسلطان لا يصلحه إلا الطاعة ، والرعية لا يصلحها إلا العدل ، وأولى الناس بالعفو أقدرهم على العقوبة ، وأنقص الناس عقلا من ظلم من هو دونه .

وقال أيضا : يا بني ، استدم النعمة بالشكر ، والقدرة بالعفو ، والطاعة بالتأليف ، والنصر بالتواضع والرحمة للناس ، ولا تنس نصيبك من الدنيا ونصيبك من رحمة الله .

وحضر عنده مبارك بن فضالة يوما ، وقد أمر برجل أن تضرب عنقه ، وأحضر النطع والسيف ، فقال له مبارك : سمعت الحسن يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا كان يوم القيامة نادى مناد : ليقم من أجره على الله . فلا يقوم إلا من عفا . فأمر بالعفو عن ذلك الرجل . ثم أخذ يعدد على جلسائه عظيم جرائمه وما كان صنعه .

وقال الأصمعي : أتي المنصور برجل ليعاقبه فقال : يا أمير المؤمنين ، الانتقام عدل ، والعفو فضل ، ونعيذ أمير المؤمنين بالله أن يرضى لنفسه بأوكس النصيبين ، دون أن يبلغ أرفع الدرجتين . قال : فعفا عنه .

[ ص: 464 ] قال الأصمعي : قال المنصور لرجل من أهل الشام : احمد الله يا أعرابي الذي رفع عنكم الطاعون بولايتنا . فقال : إن الله لا يجمع علينا حشفا وسوء كيل ; ولايتكم والطاعون . والحكايات في ذكر حلمه وعفوه كثيرة جدا .

ودخل بعض الزهاد على المنصور ، فقال : إن الله أعطاك الدنيا بأسرها ، فاشتر نفسك ببعضها ، واذكر ليلة تبيت في القبر لم تبت قبلها ليلة ، واذكر ليلة تمخض عن يوم لا ليلة بعده . قال : فأفحم المنصور قوله ، وأمر له بمال فقال : لو احتجت إلى مالك لما وعظتك .

وقد روي عن عمرو بن عبيد القدري أنه دخل على المنصور ، فأكرمه وعظمه وأدناه ، وسأله عن أهله وعياله ، ثم قال له ، عظني . فقرأ عليه أول سورة " الفجر " إلى قوله تعالى إن ربك لبالمرصاد [ الفجر : 14 ] . قال : فبكى المنصور بكاء شديدا حتى كأنه لم يسمع بهذه الآيات قبل تلك الساعة ثم قال : زدني . فقال : إن الله قد أعطاك الدنيا بأسرها ، فاشتر نفسك ببعضها ، وإن هذا الأمر كان لمن قبلك . ثم صار إليك ، ثم هو صائر لمن بعدك ، واذكر ليلة تسفر عن يوم القيامة . فبكى المنصور أشد من بكائه الأول حتى اختلف جفناه . فقال له سليمان بن مجالد : رفقا بأمير المؤمنين . فقال عمرو : وماذا على أمير المؤمنين أن [ ص: 465 ] يبكي من خشية الله عز وجل . ثم أمر له المنصور بعشرة آلاف درهم ، فقال : لا حاجة لي فيها . فقال المنصور : والله لتأخذنها . فقال : والله لا آخذنها . فقال له المهدي وهو جالس في سواده وسيفه ، إلى جنب أبيه : أيحلف أمير المؤمنين وتحلف أنت؟! فالتفت إلى المنصور ، فقال : ومن هذا؟ فقال : هذا ابني محمد المهدي ولي العهد من بعدي . فقال : أسميته اسما لم يستحقه بعمله هذا ، وألبسته لبوسا ما هو لبوس الأبرار ، ولقد مهدت له أمرا أمتع ما يكون به ، أشغل ما تكون عنه . ثم التفت إلى المهدي فقال : يابن أخي ، إذا حلف أبوك حلف عمك; لأن أباك أقدر على الكفارة من عمك . ثم قال المنصور : يا أبا عثمان ، هل من حاجة؟ قال : نعم . قال : وما هي؟ قال : لا تبعث إلي حتى آتيك . فقال : إذا والله لا نلتقي . فقال : عن حاجتي سألتني . فودعه وانصرف ، فلما ولى أبده بصره وهو يقول :


كلكم يمشي رويد كلكم يطلب صيد     غير عمرو بن عبيد

ويقال : إن عمرو بن عبيد أنشد المنصور قصيدة في موعظته إياه ، وهي قوله :


يا أيهذا الذي قد غره الأمل     ودون ما يأمل التنغيص والأجل
ألا ترى أنما الدنيا وزينتها     كمنزل الركب حلوا ثمت ارتحلوا
حتوفها رصد وعيشها نكد     وصفوها كدر وملكها دول
تظل تقرع بالروعات ساكنها     فما يسوغ له لين ولا جدل
[ ص: 466 ] كأنه للمنايا والردى غرض     تظل فيه بنات الدهر تنتضل
تديره ما أدارته دوائرها     منها المصيب ومنها المخطئ الزلل
والنفس هاربة والموت يطلبها     وكل عثرة رجل عندها جلل
والمرء يسعى بما يسعى لوارثه     والقبر وارث ما يسعى له الرجل

وقال ابن دريد ، عن الرياشي ، عن محمد بن سلام قال : رأت جارية للمنصور ثوبه مرقوعا فقالت : خليفة وقميصه مرقوع؟! فقال : ويحك! أما سمعت ما قال ابن هرمة :


قد يدرك الشرف الفتى ورداؤه     خلق وجيب قميصه مرقوع

ومن شعره لما عزم على قتل أبي مسلم الخراساني :


إذا كنت ذا رأي فكن ذا عزيمة     فإن فساد الرأي أن تترددا
ولا تمهل الأعداء يوما بقدرة     وبادرهم أن يملكوا مثلها غدا

ولما قتله ورآه طريحا بين يديه قال :


قد اكتنفتك خلات ثلاث     جلبن عليك محتوم الحمام
خلافك وامتناعك من يميني     وقودك للجماهير العظام

[ ص: 467 ] ومن شعره أيضا :


المرء يأمل أن يعي     ش وطول عمر قد يضره
تبلى بشاشته ويب     قى بعد حلو العيش مره
وتخونه الأيام حت     ى لا يرى شيئا يسره
كم شامت بي إن هلك     ت وقائل لله دره

قالوا : وكان المنصور في أول النهار يتصدى للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والولايات والعزل ، والنظر في المصالح العامة ، فإذا صلى الظهر دخل منزله ، واستراح من بعد ذلك إلى العصر ، فإذا صلاها جلس لأهل بيته ومصالحهم الخاصة ، فإذا صلى العشاء نظر في الكتب والرسائل الواردة من الآفاق ، وجلس عنده من يسامره إلى ثلث الليل ، ثم يقوم إلى أهله ، فينام في فراشه إلى الثلث الآخر ، فيقوم إلى وضوئه وصلاته حتى يتفجر الصباح ، ثم يخرج فيصلي بالناس ، ثم يدخل فيجلس في إيوانه .

وقد ولى بعض العمال على بلد ، فبلغه أنه قد تصدى للصيد ، وأعد لذلك الكلاب والبزاة ، فكتب إليه المنصور : ثكلتك أمك وعدمتك عشيرتك ، ويحك! إنا إنما استكفيناك أمور المسلمين ، ولم نستكفك أمور الوحوش ، فسلم ما كنت تلي من عملنا إلى فلان ، والحق بأهلك ملوما مدحورا .

وأتي يوما بخارجي قد هزم جيوش المنصور غير مرة ، فلما أوقف بين يديه [ ص: 468 ] قال له المنصور : ويحك! يا ابن الفاعلة ، مثلك يهزم الجيوش؟ فقال الخارجي : ويلك ، سوءة لك! بيني وبينك أمس السيف والقتل ، واليوم القذف والسب! وما يؤمنك أن أرد عليك وقد يئست من الحياة ، فلا تستقيلها أبدا؟! قال : فاستحيا منه المنصور وأطلقه . فما رأى له وجها إلى الحول .

وقال أيضا : يا بني ، ليس العاقل من يحتال للأمر الذي وقع فيه حتى يخرج منه ، ولكنه الذي يحتال للأمر الذي غشيه حتى لا يقع فيه .

وقال المنصور أيضا يوما لابنه المهدي : يا بني ، لا تجلس مجلسا إلا وعندك من أهل العلم من يحدثك; فإن الزهري قال : علم الحديث لا يحبه إلا ذكران الرجال ، ولا يكرهه إلا مؤنثوهم ، وصدق أخو زهرة .

وقد كان المنصور في شبيبته يطلب العلم من مظانه والحديث والفقه ، فنال من ذلك جانبا جيدا ، وطرفا صالحا ، وقد قيل له يوما : يا أمير المؤمنين ، هل بقي شيء من اللذات لم تنله؟ قال : لا ، سوى شيء واحد . قالوا : وما هو؟ فقال : قول المحدث للشيخ : من ذكرت ، رحمك الله؟ فاجتمع وزراؤه وكتابه ، وجلسوا حوله ، وقالوا : ليمل علينا أمير المؤمنين شيئا من الحديث . فقال : لستم بهم ، إنما هم الدنسة ثيابهم ، المشققة أرجلهم ، الطويلة شعورهم ، برد الآفاق ، ونقلة الحديث .

[ ص: 469 ] وقال المنصور يوما للمهدي : كم عندك راية؟ فقال : لا أدري . فقال : هذا هو التقصير ، أنت لأمر الخلافة أشد تضييعا ، فاتق الله يا بني .

وقالت خالصة إحدى حظيات المهدي : دخلت يوما على المنصور وهو يشتكي ضرسه ، ويداه على صدغيه ، فقال لي : كم عندك من المال يا خالصة؟ فقلت : ألف درهم . فقال : ضعي يدك على رأسي واحلفي . فقلت : عندي عشرة آلاف دينار . قال : اذهبي فاحمليها إلي . قالت : فذهبت حتى دخلت على سيدي المهدي وهو مع وزوجته الخيزران ، فشكوت إليه ما قال أمير المؤمنين ، فركلني برجله ، وقال : ويحك! إنه ليس به وجع ، ولكني سألته بالأمس مالا ، فتمارض وإنه لا يسعك إلا ما أمرك به . فذهبت إليه خالصة ومعها عشرة آلاف دينار ، فاستدعى بالمهدي ، فقال له : تشكو الحاجة وهذا كله عند خالصة؟ !

وقال المنصور لخازنه : إذا علمت بمجيء المهدي فائتني بخلقان الثياب قبل أن يجيء . فجاء بها فوضعها بين يديه ، ودخل المهدي والمنصور يقلبها ، فجعل المهدي يضحك ، فقال له : يا بني ، من ليس له خلق ما له جديد ، وقد حضر الشتاء فنحتاج نعين العيال والولد . فقال المهدي : علي كسوة أمير المؤمنين وعياله . فقال : دونك فافعل .

وذكر ابن جرير عن الهيثم ، أن المنصور أطلق في يوم واحد لبعض أعمامه ألف ألف درهم . وفي هذا اليوم فرق في أهل بيته عشرة آلاف درهم ، ولا يعلم [ ص: 470 ] خليفة فرق مثل هذا في يوم واحد .

وقرأ بعض القراء عند المنصور : الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل [ الحديد : 24 ] . فقال : والله لولا أن المال حصن للسلطان ودعامة للدين والدنيا وعزهما وزينتهما ما بت ليلة واحدة وأنا أحرز منه دينارا ولا درهما; لما أجد لبذل المال من اللذاذة ، ولما أعلم في إعطائه من جزيل المثوبة .

وقرأ عنده قارئ آخر : ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط [ الإسراء : 29 ] . فقال : ما أحسن ما أدبنا ربنا عز وجل!

وقال المنصور : سمعت أبي يقول : سمعت أبي; علي بن عبد الله يقول : سادة الناس في الدنيا الأسخياء ، وفي الآخرة الأتقياء .

ولما عزم المنصور على الحج في هذه السنة - أعني سنة ثمان وخمسين ومائة - دعا ولده المهدي ولي عهده من بعده فأوصاه في خاصة نفسه وفي أهل بيته وبسائر المسلمين خيرا ، وعلمه كيف يفعل الأشياء ، ويسد الثغور بوصايا يطول بسطها ، وحرج عليه أن لا يفتح شيئا من خزائن المسلمين حتى يتحقق وفاته; فإن بها من الأموال ما يكفي المسلمين لو لم يجب إليهم من الخراج درهم عشر سنين ، وعهد إليه أن يقضي ما عليه من الدين ، وهو ثلاثمائة ألف دينار ، [ ص: 471 ] فإنه لم ير قضاءها من بيت المال . فامتثل المهدي ذلك كله ، وأحرم المنصور بحج وعمرة من الرصافة ، وساق بدنه ، وقال : يا بني ، إني ولدت في ذي الحجة ، وقد وقع لي أني أموت في ذي الحجة ، وهذا هو الذي حداني على الحج عامي هذا . وودعه وسار ، واعتراه مرض الموت في أثناء الطريق ، فما دخل مكة إلا وهو مثقل جدا ، فلما كان بآخر منزل نزله دون مكة إذا في صدر منزله مكتوب : بسم الله الرحمن الرحيم .


أبا جعفر حانت وفاتك وانقضت     سنوك وأمر الله لا بد واقع
أبا جعفر هل كاهن أو منجم     لك اليوم من كرب المنية مانع

فدعا بالحجبة ، فأمرهم بقراءة ذلك ، فلم يروا شيئا ، فعرف أن أجله قد نعي إليه .

قالوا : ورأى المنصور في منامه ، ويقال : بل هتف به هاتف ، وهو يقول :


أما ورب السكون والحرك     إن المنايا كثيرة الشرك
عليك يا نفس إن أسأت وإن     أحسنت يا نفس كان ذاك لك
ما اختلف الليل والنهار ولا     دارت نجوم السماء في الفلك
إلا بنقل السلطان عن ملك     إذا انقضى ملكه إلى ملك
حتى يصيرا به إلى ملك     ما عز سلطانه بمشترك
[ ص: 472 ] ذاك بديع السماء والأرض وال     مرسي الجبال المسخر الفلك

فقال المنصور : هذا والله أوان حضور أجلي وانقضاء عمري .

وكان قد رأى قبل ذلك في قصره الخلد الذي بناه وتأنق فيه ، مناما أفزعه ، فقال للربيع : ويحك يا ربيع! لقد رأيت مناما هالني; رأيت قائلا وقف في باب هذا القصر ، وهو يقول :


كأني بهذا القصر قد باد آهله     وعري منه أهله ومنازله
وصار رئيس القوم من بعد بهجة     إلى جدث تبنى عليه جنادله

فما أقام في الخلد إلا أقل من سنة حتى خرج إلى الحج عامه هذا ، ومرض في طريق مكة ، فدخلها مدنفا ثقيلا . وكانت وفاته ليلة السبت لست - وقيل : لسبع - مضين من ذي الحجة .

وكان آخر ما تكلم به أن قال : اللهم بارك لي في لقائك . ويقال : إنه قال : يا رب ، إن كنت عصيتك في أمور كثيرة فقد أطعتك في أحب الأشياء إليك; شهادة أن لا إله إلا الله مخلصا . ثم مات .

وكان نقش خاتمه : الله ثقة عبد الله ، وبه يؤمن .

وكان عمره يوم وفاته ثلاثا وستين سنة على المشهور; منها ثنتان وعشرون [ ص: 473 ] سنة في الخلافة ، ودفن بباب المعلى ، رحمه الله .

قال أبو جعفر ابن جرير : ومما رثي به أبو جعفر المنصور ، رحمه الله ، قول سلم الخاسر الشاعر :


عجبا للذي نعى الناعيان     كيف فاهت بموته الشفتان
ملك إن غدا على الدهر يوما     أصبح الدهر ساقطا للجران
ليت كفا حثت عليه ترابا     لم تعد في يمينها ببنان
حين دانت له البلاد على العس     ف وأغضى من خوفه الثقلان
أين رب الزوراء قد قلدته ال     ملك عشرون حجة واثنتان
إنما المرء كالزناد     إذا ما أخذته قوادح النيران
ليس يثني هواه زجر ولا يق     دح في حبله ذوو الأذهان
قلدته أعنة الملك حتى     قاد أعداءه بغير عنان
يكسر الطرف دونه وترى الأي     دي من خوفه إلى الأذقان
ضم أطراف ملكه ثم أضحى     خلف أقصاهم ودون الداني
هاشمي التشمير لا يحمل الثق     ل على غارب الشرود الهدان
ذو أناة ينسى لها الخائف الخو     ف وعزم يلوي بكل جنان
ذهبت دونه النفوس حذارا     غير أن الأرواح في الأبدان

وقد دفن المنصور بثنية المعلى عند باب مكة ، ولا يعرف قبره; لأنه عمي قبره; فإن الربيع حفر مائة قبر ، ودفنه في غيرها لئلا يعرف .

التالي السابق


الخدمات العلمية