صفحة جزء
[ ص: 488 ] ثم دخلت سنة إحدى وستين ومائة

فيها غزا الصائفة ثمامة بن الوليد ، فنزل دابق ، وجاشت الروم عليه ، فلم يتمكن المسلمون من الدخول إليها بسبب ذلك .

وفيها أمر المهدي بحفر الركايا وعمل المصانع وبناء القصور في طريق مكة ، وولى على ذلك يقطين بن موسى ، فلم يزل يعمل في ذلك إلى سنة إحدى وسبعين ومائة ، حتى صارت طريق الحجاز من أرفق الطرقات وآمنها وأطيبها .

وفيها وسع المهدي جامع البصرة من قبلته وغربه .

وفيها كتب إلى الآفاق أن لا تبقى مقصورة في مسجد جماعة ، وأن تقصر المنابر إلى مقدار ما كان منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ففعل ذلك في المدائن كلها .

وفيها اتضعت منزلة أبي عبيد الله وزير المهدي عنده ، وظهرت عنده خيانته ، فضم إليه المهدي من يشرف عليه ، فكان ممن ضم إليه إسماعيل ابن علية ، ثم أبعده وأقصاه وأخرجه من معسكره .

وفيها ولي القضاء عافية بن يزيد الأزدي ، فكان يحكم هو وابن علاثة في عسكر المهدي بالرصافة .

[ ص: 489 ] وفيها خرج رجل يقال له : المقنع . بخراسان في قرية من قرى مرو ، وكان يقول بالتناسخ ، واتبعه على ضلالته خلق كثير ، فجهز له المهدي عدة من أمرائه ، وأنفذ إليه جيوشا كثيرة ، منهم معاذ بن مسلم أمير خراسان ، فكان من أمره وأمرهم ما سنذكره .

وحج بالناس في هذه السنة موسى الهادي ابن أمير المؤمنين ، وهو ولي عهد أبيه ، كما قدمنا .

وفيها توفي إسرائيل بن يونس ابن أبي إسحاق السبيعي ، وزائدة بن قدامة ، وسفيان بن سعيد بن مسروق الثوري ، أحد أئمة الإسلام وعباده والمقتدى بهم ، أبو عبد الله الكوفي ، روى عن غير واحد من التابعين ، وروى عنه خلق من الأئمة وغيرهم .

قال شعبة وسفيان بن عيينة وأبو عاصم ويحيى بن معين وغير واحد : هو أمير المؤمنين في الحديث .

وقال ابن المبارك : كتبت عن ألف ومائة شيخ ، هو أفضلهم .

[ ص: 490 ] وقال أيوب : ما رأيت كوفيا أفضله عليه .

وقال يونس بن عبيد : ما رأيت أفضل منه .

وقال عبد الله بن داود : ما رأيت أفقه من الثوري .

وقال شعبة : ساد في الناس بالورع والعلم .

وقال سفيان بن عيينة : أصحاب الحديث ثلاثة; ابن عباس في زمانه ، والشعبي في زمانه ، والثوري في زمانه .

وقال الإمام أحمد : لا يتقدمه في قلبي أحد . ثم قال : أتدري من الإمام؟ الإمام سفيان الثوري .

وقال عبد الرزاق : سمعت الثوري يقول : ما استودعت قلبي شيئا قط فخانني .

وقال الثوري : لأن أترك عشرة آلاف دينار يحاسبني الله عليها أحب إلي من أن أحتاج إلى الناس .

قال محمد بن سعد : أجمعوا أنه توفي بالبصرة ، سنة إحدى وستين ومائة .

[ ص: 491 ] وكان عمره يوم مات أربعا وستين سنة . ورآه بعضهم في المنام يطير في الجنة من نخلة إلى نخلة ، وهو يقرأ : الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء فنعم أجر العاملين [ الزمر : 74 ] .

أبو دلامة

زند بن الجون ، الشاعر
الماجن ،
أحد الظرفاء ، أصله من الكوفة ، وأقام ببغداد ، وحظي عند أبي جعفر المنصور; لأنه كان يضحكه ، وينشده ويمدحه; حضر يوما جنازة امرأة المنصور وابنة عمه حمادة بنت عيسى ، وكان المنصور قد وجد عليها ، فلما شهد القبر نظر إليه المنصور ثم قال لأبي دلامة : ويحك يا أبا دلامة ! ما أعددت لهذا؟ فقال : ابنة عم أمير المؤمنين . فضحك المنصور حتى استلقى ، ثم قال : ويحك! فضحتنا بين الناس .

ودخل يوما على المهدي يهنئه بقدومه من سفره وأنشده :


إني حلفت لئن رأيتك سالما بقرى العراق وأنت ذو وفر     لتصلين على النبي محمد
ولتملأن دراهما حجري

فقال المهدي : أما الأول فنعم ، وأما الثاني فلا . فقال : هما كلمتان فلا يفرق بينهما . فملأ حجره دراهم ، ثم قال له : قم . فقال : إذا ينخرق قميصي . فأفرغت في أكياسها ، ثم قام وأخذها .

[ ص: 492 ] وذكر عنه ابن خلكان أنه مرض ابنه فداواه طبيب ، فلما عوفي قال له : ليس عندنا ما نعطيك ، ولكن ادع على فلان اليهودي بمبلغ ما تستحقه; حتى أشهد أنا وولدي عليه . فادعى عليه عند قاضي الكوفة محمد بن عبد الرحمن ابن أبي ليلى - وقيل : ابن شبرمة - فأنكر اليهودي ، فشهد عليه أبو دلامة وابنه ، فلم يستطع القاضي أن يرد شهادتهما ، وخاف من طلب التزكية ، فأعطى المدعي المال من عنده ، وأطلق اليهودي ، وجمع القاضي بين المصالح .

توفي أبو دلامة في هذه السنة ، وقيل : إنه أدرك خلافة الرشيد سنة سبعين والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية