صفحة جزء
[ ص: 527 ] ثم دخلت سنة ست وستين ومائة

في المحرم منها قدم الرشيد من بلاد الروم ، فدخل بغداد في أبهة عظيمة ، ومعه الروم يحملون الجزية من الذهب وغيره .

وفيها أخذ المهدي البيعة لولده هارون من بعد موسى الهادي ، ولقب هارون بالرشيد .

وفيها سخط المهدي على يعقوب بن داود ، وكان قد حظي عنده حتى استوزره ، وارتفعت منزلته في الوزارة حتى فوض إليه جميع أمر الخلافة ، وفي ذلك يقول بشار بن برد :


بني أمية هبوا طال نومكم إن الخليفة يعقوب بن داود     ضاعت خلافتكم يا قوم فاطلبوا
خليفة الله بين الدف والعود

فلم تزل السعاة والوشاة بينه وبين الخليفة حتى أخرجوه عليه ، وكلما سعوا به إليه ، دخل إليه فأصلح أمره عنده ، حتى وقع من أمره ما سأذكره; وهو أنه دخل ذات يوم على المهدي في مجلس عظيم قد فرش بأنواع الفرش وألوان الحرير ، وحول ذلك المكان أشجار مزهرة بأنواع الأزاهير ، فقال : يا يعقوب ، [ ص: 528 ] كيف رأيت مجلسنا هذا؟ فقال : يا أمير المؤمنين ، ما رأيت شيئا أحسن منه . فقال : هو لك بما فيه ، وهذه الجارية ليتم بها سرورك ، ولي إليك حاجة أحب أن تقضيها لي . قال : وما هي يا أمير المؤمنين؟ فقال : حتى تقول : نعم . فقلت : يأمر أمير المؤمنين ، وعلي السمع والطاعة . فقال : آلله؟ فقلت : آلله . قال : وحياة رأسي . قلت : وحياة رأسك . فقال : ضع يدك على رأسي وقل ذلك . ففعلت ، فقال : إن هاهنا رجلا من العلويين أحب أن تكفينيه - والظاهر أنه الحسن بن إبراهيم بن عبد الله بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب - فقلت : نعم . فقال : وعجل علي . ثم أمر بتحويل ما في ذلك المجلس إلى منزلي ، وأمر لي بمائة ألف درهم وتلك الجارية ، فما فرحت بشيء فرحي بها ، فلما صارت إلى منزلي حجبتها من جانب الدار في الخدر ، فأمرت بذلك العلوي فجيء به ، فجلس إلي فتكلم ، فما رأيت أعقل منه ولا أفهم ، ثم قال لي : يا يعقوب ، تلقى الله بدمي وأنا رجل من ولد فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! فقلت : لا والله ، ولكن اذهب حيث شئت . فقال : إني أختار بلاد كذا وكذا . فقلت : اذهب كيف شئت ، ولا يظهرن عليك المهدي فتهلك وأهلك . فخرج من عندي وجهزت معه رجلين يسفرانه ويوصلانه بعض البلاد ، ولم أشعر بأن الجارية قد أحاطت علما بما جرى ، وبعثت بخادمها إلى المهدي فأعلمه بذلك ، وقالت له : هذا الذي آثرته بي قد فعل كذا وكذا . فغضب المهدي وبعث إلى تلك الطريق ، فردوا العلوي ، فحبسه عنده في بيت من دار [ ص: 529 ] الخلافة ، وأرسل إلي في اليوم الثاني ، فذهبت وأنا لا أستشعر أمر العلوي ، فلما دخلت عليه قال : ما فعل العلوي؟ قلت : مات . قال : آلله؟ قلت : آلله . قال : فضع يدك على رأسي ، واحلف بحياته . ففعلت ، فقال : يا غلام أخرج ما في هذا البيت . فخرج العلوي ، فأسقط في يدي ، فقال المهدي : دمك لي حلال . ثم أمر به فألقي في بئر في المطبق . قال يعقوب : فكنت في مكان لا أسمع فيه ولا أبصر ، فذهب بصري ، وطال شعري حتى صرت مثل البهائم ، ثم مضت علي مدد متطاولة ، فبينما أنا ذات يوم إذ دعيت فخرجت من البئر التي في ذلك المطبق ، فقيل لي : سلم على أمير المؤمنين . فسلمت وأنا أظنه المهدي ، فلما ذكرت المهدي في كلامي ، قال رحم الله المهدي . فقلت : الهادي؟ فقال : رحم الله الهادي . فقلت : الرشيد؟ قال : نعم . فقلت : يا أمير المؤمنين ، قد رأيت ما حل بي من الضعف والعلة ، فإن رأيت أن تطلقني . فقال : أين تريد تذهب؟ قلت : مكة . فقال : اذهب راشدا . فسار إلى مكة ، فما لبث بها إلا قليلا حتى مات ، رحمه الله تعالى .

وقد كان يعقوب هذا يعظ المهدي في تعاطيه شرب النبيذ بين يديه ، وكثرة سماع الغناء ، ويلومه على ذلك ويقول : ما على هذا استوزرتني ، ولا على هذا صحبتك ، أبعد الصلوات الخمس في المسجد الحرام يشرب عندك النبيذ ويسمع السماع بين يديك؟ فيقول : فقد سمع عبد الله بن جعفر . فقال : إن ذلك لم يكن من حسناته ، ولو كان هذا قربة لكان كلما داوم عليه العبد كان [ ص: 530 ] أفضل له .

وفي ذلك يقول بعض الشعراء :


فدع عنك يعقوب بن داود     جانبا وأقبل على صهباء طيبة النشر

وفيها ذهب المهدي إلى قصره المسمى بقصر السلام بعيساباذ - بني له بالآجر بعد القصر الأول الذي بناه باللبن - فسكنه وضرب هناك الدراهم والدنانير .

وفيها أمر المهدي بإقامة البريد بين مكة والمدينة واليمن ، ولم يفعل هذا قبل هذه السنة .

وفيها خرج موسى الهادي إلى جرجان ، وقد جعل على القضاء أبا يوسف يعقوب بن إبراهيم صاحب أبي حنيفة رحمهم الله .

وفيها حج بالناس إبراهيم بن يحيى بن محمد عامل الكوفة ، ولم يكن في هذه السنة صائفة; للهدنة التي كانت بين الرشيد وبين الروم .

[ ص: 531 ] وفيها توفي صدقة بن عبد الله السمين ، وأبو الأشهب العطاردي ، وأبو بكر النهشلي ، وعفير بن معدان .

التالي السابق


الخدمات العلمية