صفحة جزء
[ ص: 568 ] ثم دخلت سنة ثلاث وسبعين ومائة

فيها توفي محمد بن سليمان بالبصرة ، فأمر الرشيد بالاحتياط على حواصله التي تصلح للخلفاء ، فوجدوا من ذلك شيئا كثيرا جدا ، فقبضوه; من الذهب والفضة والأمتعة التي يستعان بها على الحرب وعلى تقوي المسلمين من العدد والبرك وغير ذلك .

وهو محمد بن سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس ، وأمه أم حسن بنت جعفر بن حسن بن حسن بن علي ، وكان من رجالات قريش وشجعانهم . جمع له المنصور بين البصرة والكوفة ، وزوجه المهدي ابنته العباسة ، وكان له من الأموال شيء كثير ، وكان دخله كل يوم مائة ألف . وكان له خاتم من ياقوت أحمر لم ير مثله .

روى الحديث عن أبيه ، عن جده الأكبر - وهو ابن عباس - حديثا مرفوعا في مسح رأس اليتيم إلى مقدم رأسه ، ومسح رأس من له أب إلى مؤخره .

[ ص: 569 ] وقد وفد على الرشيد ، فهنأه بالخلافة ، فأكرمه وعظمه ، وزاده في عمله شيئا كثيرا . ولما أراد الخروج خرج معه الرشيد يشيعه إلى كلواذى .

توفي في جمادى الآخرة من هذه السنة عن إحدى وخمسين سنة .

وقد أرسل الرشيد من اصطفى من ماله الصامت ، فوجد له من الذهب ثلاثة آلاف ألف دينار ، ومن الدراهم ستين ألف ألف ، خارجا عن الأملاك والجواهر .

وقد ذكر ابن جرير أن وفاته ووفاة الخيزران في يوم واحد .

وقد وقفت جارية من جواريه على قبره ، فأنشأت تقول :


أمسى التراب لمن هويت مبيتا الق التراب فقل له حييتا     إنا نحبك يا تراب وما بنا
إلا كرامة من عليه حثيتا

وفيها توفيت الخيزران جارية المهدي وأم أميري المؤمنين الهادي والرشيد ، اشتراها المهدي وحظيت عنده جدا ، ثم أعتقها وتزوجها ، وولدت له خليفتين; موسى الهادي والرشيد ، ولم يتفق هذا لغيرها من النساء إلا لولادة بنت العباس العبسية ، زوجة عبد الملك بن مروان ، وهي أم الوليد وسليمان . وإلا لشاهفرند [ ص: 570 ] بنت فيروز بن يزدجرد ، ولدت لمولاها الوليد بن عبد الملك بن مروان ، يزيد وإبراهيم ، وكلاهما ولي الخلافة .

وقد روي من طريق الخيزران ، عن مولاها المهدي ، عن أبيه ، عن جده ، عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : من اتقى الله وقاه الله كل شيء .

ولما عرضت على المهدي ليشتريها أعجبته إلا دقة ساقيها ، فقال لها : يا جارية ، إنك لعلى غاية المنى لولا خموشة في ساقيك . فقالت : يا أمير المؤمنين ، إنك أحوج ما تكون إليهما لا تراهما . فاستحسن جوابها واشتراها ، وحظيت عنده جدا .

وقد حجت الخيزران مرة في حياة المهدي ، فكتب إليها وهي بمكة يستوحش لها ، ويتشوق إليها ، يقول :


نحن في غاية السرور ولكن     ليس إلا بكم يتم السرور
عيب ما نحن فيه يا أهل ودي     أنكم غيب ونحن حضور
فأجدوا في السير بل إن قدرتم     أن تطيروا مع الرياح فطيروا

فأجابته أو قالت لمن أجابه :


قد أتانا الذي وصفت من الشو     ق فكدنا وما فعلنا نطير
[ ص: 571 ] ليت أن الرياح كن يؤدي     ن إليكم ما قد يجن الضمير
لم أزل صبة فإن كنت بعدي     في سرور فدام ذاك السرور

وذكروا أنه أهدى إليها محمد بن سليمان نائب البصرة مائة وصيف ، مع كل وصيف جام من فضة مملوء مسكا . فكتبت إليه : إن كان ما بعثته ثمنا عن ظننا فيك فظننا فيك أكثر مما بعثت ، وقد بخستنا في الثمن ، وإن كنت تريد به زيادة المودة فقد اتهمتني في المودة . وردتها عليه .

وقد اشترت الدار المشهورة بها بمكة المعروفة بدار الخيزران ، فزادتها في المسجد الحرام .

وكان مغل ضياعها في كل سنة ألف ألف وستين ألفا .

واتفق موتها ببغداد ليلة الجمعة لثلاث بقين من جمادى الآخرة من هذه السنة ، فخرج ابنها الرشيد في جنازتها وهو حامل سريرها يخب في الطين ، فلما انتهى إلى المقبرة أتي بماء ، فغسل رجليه ولبس خفا ، وصلى عليها ، ونزل في لحدها ، فلما خرج من القبر أتي بسرير ، فجلس عليه ، واستدعى بالفضل بن الربيع ، فولاه الخاتم والنفقات . وأنشد الرشيد قول متمم بن نويرة حين دفن أمه الخيزران :

[ ص: 572 ]

وكنا كندماني جذيمة برهة     من الدهر حتى قيل لن يتصدعا
فلما تفرقنا كأني ومالكا     لطول اجتماع لم نبت ليلة معا

وممن توفي في هذه السنة غادر جارية كانت لموسى الهادي ، وكان يحبها حبا شديدا جدا ، وكانت تحسن الغناء جيدا ، فبينما هي يوما تغنيه إذ أخذته فكرة غيبته عنها ، وتغير لونه ، فسأله بعض الحاضرين : ما هذا يا أمير المؤمنين؟ فقال : أخذتني فكرة; أني أموت ، وأن أخي هارون يتولى الخلافة بعدي ، ويتزوج جاريتي هذه . ففداه الحاضرون ، ودعوا له بطول العمر ، فاستدعى أخاه هارون ، فأخبره بما وقع في فكره ، فعوذه الرشيد من ذلك ، فاستحلفه الهادي بالأيمان المغلظة من الطلاق والعتاق والحج ماشيا حافيا أن لا يتزوجها ، فحلف له ، واستحلف الجارية بالحج والعتاق ، فحلفت له ، فلم يكن إلا أقل من شهر حتى مات ، فلما كان بعد ذلك بعث الرشيد إليها يخطبها ، فقالت : كيف بالأيمان التي حلفتها وحلفتها؟ فقال : أنا أكفر عنك وعني . وتزوجها فحظيت عنده أيضا جدا حتى كانت تنام في حجره فلا يتحرك خشية أن يزعجها من منامها ، فبينما هي ذات ليلة نائمة معه إذ انتبهت مذعورة تبكي ، فقال لها : ما شأنك؟ فقالت : يا أمير المؤمنين ، رأيت الهادي مولاي في منامي هذا وهو يقول :


أخلفت عهدي بعد ما     جاورت سكان المقابر
ونسيتني وحنثت في     أيمانك الكذب الفواجر
ونكحت غادرة أخي     صدق الذي سماك غادر
[ ص: 573 ] أمسيت في أهل البلى     وغدوت في الحور الغرائر
لا يهنك الإلف الجدي     د ولا تدر عنك الدوائر
ولحقت بي قبل الصبا     ح وصرت حيث غدوت صائر

فقال لها الرشيد : إنما هذا أضغاث أحلام . فقالت : كلا والله يا أمير المؤمنين ، لكأنما كتبت هذه الأبيات في قلبي . ثم ما زالت تضطرب وترتعد حتى ماتت قبل الصباح .

هيلانة جارية الرشيد ، وهو الذي سماها هيلانة لكثرة قولها : هي لانة .

قال الأصمعي : وكان لها محبا ، وكانت قبله ليحيى بن خالد بن برمك ، فدخل الرشيد يوما منزله قبل الخلافة ، فاعترضته في الطريق ، فقالت : أما لنا منك نصيب؟ فقال لها؟ وكيف السبيل إلى ذلك؟ فقالت : استوهبني من هذا الشيخ . فاستوهبها من يحيى بن خالد ، فوهبها له فحظيت عنده ، ومكثت عنده ثلاث سنين ، ثم توفيت ، فحزن عليها حزنا شديدا ورثاها واسترثاها ، وكان من قوله فيها :


قد قلت لما ضمنوك الثرى     وجالت الحسرة في صدري
اذهب فلا والله لا سرني     بعدك شيء آخر الدهر

وقال العباس بن الأحنف في موتها :

[ ص: 574 ]

يا من تباشرت القبور بموتها     قصد الزمان مساءتي فرماك
أبغي الأنيس فما أرى لي مؤنسا     إلا التردد حيث كنت أراك
ملك بكاك وطال بعدك حزنه     لو يستطيع بملكه لفداك
تحمي الفؤاد عن النساء حفيظة     كيلا يحل حمى الفؤاد سواك

قال : فأمر له الرشيد بأربعين ألفا; لكل بيت عشرة آلاف .

التالي السابق


الخدمات العلمية