صفحة جزء
[ ص: 609 ] ثم دخلت سنة إحدى وثمانين ومائة

فيها غزا أمير المؤمنين هارون الرشيد بلاد الروم ، فافتتح حصنا يقال له : الصفصاف . فقال في ذلك مروان بن أبي حفصة :


إن أمير المؤمنين المصطفى قد ترك الصفصاف قاعا صفصفا

وفيها غزا عبد الملك بن صالح بلاد الروم ، فبلغ أنقرة وافتتح مطمورة .

وفيها تغلبت المحمرة على جرجان .

وفيها أمر الرشيد أن يكتب في صدور الرسائل الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الثناء على الله عز وجل .

وفيها حج بالناس الرشيد وتعجل في النفر ، وسأله يحيى بن خالد أن يعفيه من الولاية ، فأعفاه وأقام يحيى بمكة .

ذكر من توفي فيها من الأعيان : الحسن بن قحطبة أحد أكابر الأمراء العباسية ، وحمزة بن مالك ، ولي إمرة خراسان في أيام الرشيد .

[ ص: 610 ] وخلف بن خليفة شيخ الحسن بن عرفة عن مائة سنة .

وعبد الله بن المبارك أبو عبد الرحمن المروزي ، كان أبوه تركيا مولى لرجل من التجار من بني حنظلة من أهل همذان ، فكان ابن المبارك إذا قدمها أحسن إلى ولد مولاهم ، وكانت أمه خوارزمية ، ولد سنة ثمان عشرة ومائة ، وسمع إسماعيل بن أبي خالد ، والأعمش ، وهشام بن عروة ، وحميدا الطويل ، وغيرهم من أئمة التابعين . وحدث عنه خلائق من الناس ، وكان موصوفا بالحفظ والفقه والعربية والزهد والكرم والشجاعة ، وله التصانيف الحسان ، والشعر المتضمن حكما جمة ، وكان كثير الغزو والحج ، وكان له رأس مال نحو أربعمائة ألف يدور يتجر به في البلدان ، فحيث اجتمع بعالم بلدة أحسن إليه ، وكان يربو كسبه في كل سنة على مائة ألف ، ينفقها كلها في أهل العلم والعبادة ، وربما أنفق من رأس المال .

قال سفيان بن عيينة : نظرت في أمره وأمر الصحابة ، فما رأيتهم يفضلون عليه إلا بصحبتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم .

وقال إسماعيل بن عياش : ما على وجه الأرض مثله ، وما أعلم خصلة من الخير إلا وقد جعلها الله في ابن المبارك ، ولقد حدثني أصحابي أنهم صحبوه من [ ص: 611 ] مصر إلى مكة ، فكان يطعمهم الخبيص ، وهو الدهر صائم .

وقدم مرة إلى الرقة ، وبها هارون الرشيد ، فلما دخلها انجفل الناس يهرعون إلى ابن المبارك ، وازدحم الناس حوله ، فأشرفت أم ولد للرشيد من قصر هناك فقالت : ما للناس؟ فقيل لها : قدم رجل من علماء خراسان يقال له : عبد الله بن المبارك . فانجفل الناس إليه . فقالت المرأة : هذا هو الملك ، لا ملك هارون الرشيد الذى يجمع الناس عليه بالسوط والعصا والرغبة والرهبة .

وخرج مرة إلى الحج ، فاجتاز ببعض البلاد ، فمات طائر معهم ، فأمر بإلقائه على مزبلة ، وسار أصحابه أمامه وتخلف هو وراءهم ، فلما مر بالمزبلة إذا جارية قد خرجت من دار قريبة منها ، فأخذت ذلك الطائر الميت ، فكشف عن أمرها وفحص ، حتى سألها ، فقالت : أنا وأختي هاهنا ، ليس لنا شيء إلا هذا الإزار ، وقد حلت لنا الميتة ، وكان أبونا له مال= عظيم ، فظلم وأخذ ماله وقتل . فأمر ابن المبارك برد الأحمال ، وقال لوكيله : كم معك من النفقة؟ فقال : ألف دينار . فقال : عد منها عشرين دينارا تكفينا إلىمرو ، وأعطها الباقي ، فهذا أفضل من حجنا في هذا العام . ثم رجع .

وكان إذا عزم على الحج يقول لأصحابه : من عزم منكم على [ ص: 612 ] الحج؟ فيأخذ منهم نفقاتهم ، ويكتب على كل صرة اسم صاحبها ويجمعها في صندوق ، ثم يخرج بهم في أوسع ما يكون من النفقات والركوب ، وحسن الخلق والتيسير عليهم ، فإذا قضوا حجتهم يقول لهم : هل أوصاكم أهلوكم بهدية؟ فيشتري لكل واحد منهم ما وصاه أهله من الهدايا المكية واليمنية وغيرها ، فإذا جاءوا إلى المدينة اشترى لهم منها الهدايا المدنية ، فإذا قفلوا بعث من أثناء الطريق إلى بيوتهم فأصلحت وبيضت أبوابها ورمم شعثها ، فإذا رجعوا إلى أوطانهم عمل وليمة بعد قدومهم ودعاهم فأكلوا وكساهم ، ثم دعا بذلك الصندوق ففتحه وأخرج منه تلك الصرر ، ثم يقسم عليهم أن يأخذ كل واحد نفقته التي عليها اسمه ، فيأخذونها وينصرفون إلى منازلهم وهم شاكرون ناشرون لواء الثناء الجميل .

وكانت سفرته تحمل على بعير وحدها ، وفيها من أنواع المأكول من اللحم والدجاج والحلوى وغير ذلك ، يطعمه وهو صائم لله عز وجل في الحر الشديد .

وسأله مرة سائل ، فأعطاه درهما ، فقال له بعض أصحابه : إن هؤلاء يأكلون في غدائهم الشواء والفالوذج ، وقد كان يكفيه قطعة . فقال : والله ما ظننت أنه يأكل إلا البقل والخبز ، فأما إذا كان يأكل الشواء والفالوذج فلا بد من عشرة دراهم ، يا غلام : رده وأعطه عشرة دراهم . وفضائله ومناقبه ومآثره كثيرة جدا .

[ ص: 613 ] قال أبو عمر بن عبد البر : أجمع العلماء على قبوله وجلالته وإمامته وعدله . توفي عبد الله بن المبارك بهيت في هذه السنة في رمضانها عن ثلاث وستين سنة .

ومفضل بن فضالة ، ولي قضاء مصر مرتين ، وكان دينا ثقة ، سأل الله أن يذهب عنه الأمل ، فأذهبه ، فكان بعد ذلك لا يهنئه عيش ولا شيء من الدنيا ، فسأل الله أن يرده عليه فرده ، فرجع إلى حاله .

ويعقوب التائب العابد الكوفي ، قال علي ابن الموفق ، عن منصور بن عمار : خرجت ذات ليلة وأنا أظن أني قد أصبحت ، فإذا علي ليل ، فجلست إلى باب صغير ، وإذا شاب يبكي وهو يقول : وعزتك وجلالك ما أردت بمعصيتك مخالفتك ، ولكن سولت لي نفسي ، وغلبتني شقوتي ، وغرني سترك المرخى علي ، فالآن من عذابك من يستنقذني؟ وبحبل من أتصل إن قطعت حبلك عني؟ واسوأتاه على ما مضى من أيامي في معصية ربي! يا ويلي كم أتوب ، وكم أعود! قد حان لي أن أستحيي من ربي عز وجل . قال منصور : فقلت : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، بسم الله الرحمن الرحيم ياأيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون [ التحريم : 6 ] . قال : فسمعت صوتا واضطرابا شديدا ، فذهبت لحاجتي ، فلما أصبحت رجعت ، فلما مررت على ذلك الباب ، فإذا جنازة ، فسألت ، فإذا هو قد مات من سماع هذه الآية .

التالي السابق


الخدمات العلمية