صفحة جزء
[ ص: 626 ] ثم دخلت سنة أربع وثمانين ومائة

فيها رجع الرشيد من الرقة إلى بغداد ، فأخذ الناس بأداء بقايا الخراج الذي عليهم ، وولى رجلا يضرب الناس على ذلك ويحبس ، وولى على أطراف البلاد ، وعزل وقطع ووصل .

وخرج بالجزيرة أبو عمرو الشاري ، فبعث إليه الرشيد من قتله بشهرزور .

وحج بالناس فيها إبراهيم بن محمد بن عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس العباسي .

وممن توفي فيها من الأعيان : أحمد ابن أمير المؤمنين الرشيد كان زاهدا عابدا قد تنسك ، وكان لا يأكل إلا من عمل يديه ، يعمل في الطين ، وليس يملك إلا مرا وزنبيلا - أي مجرفة وقفة - وكان أجرته في كل يوم يعمل فيه من الجمعة إلى الجمعة درهما ودانقا ، وكان لا يعمل إلا في يوم السبت فقط ، ثم يقبل على العبادة بقية أيام الجمعة ، وكان من زبيدة في قول بعضهم ، والصحيح أنه من امرأة غيرها كان الرشيد قد أحبها فتزوجها سرا ، فحملت منه بهذا الغلام ثم أحدرها إلى البصرة وأعطاها خاتما من ياقوت أحمر ، وأشياء معها [ ص: 627 ] نفيسة ، وأمرها إذا أفضت إليه الخلافة أن تأتيه . فلما صارت الخلافة إليه لم تأته ولا ولدها ، وبلغه أنهما ماتا ، ولم يكن كذلك ، فكان هذا الشاب يعمل بيده ، ويأكل من كدها ، فاتفق مرضه في دار من كان يستعمله في الطين ، فمرضه عنده ، فلما احتضر أخرج الخاتم ، وقال لصاحب المنزل : اذهب بهذا إلى الرشيد ، وقل له : صاحب هذا الخاتم يقول لك : إياك أن تموت في سكرتك هذه فتندم فلما مات ودفنه وطلب الحضور بين يدي الخليفة ، فقال : ما حاجتك؟ قلت : هذا الخاتم دفعه إلي رجل ، وأوصاني أن أقول لك كلاما . فلما نظر عرفه فقال : ويحك! وأين صاحب الخاتم؟ قال : فقلت : مات يا أمير المؤمنين ، وهو يقول لك : احذر أن تموت في سكرتك فتندم . قال : فقام الرشيد فضرب بنفسه البساط وجعل يتقلب ظهرا لبطن ويقول : والله لقد نصحتني يا بني . ثم قال : أتعرف قبره؟ قلت : نعم . قال : إذا كان العشي فأتني . فأتيته ، فذهب إلى قبره ، فلم يزل يبكي عنده حتى أصبح ، ثم أمر لذلك الرجل بعشرة آلاف درهم ، وكتب له ولعياله رزقا .

[ ص: 628 ] عبد الله بن مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير بن العوام ، أبو بكر القرشي الأسدي ، والد بكار . ألزمه الخليفة الرشيد بولاية المدينة ، فقبلها بشروط عدة اشترطها ، فأجابه إلى ذلك ، ثم أضاف إليه نيابة اليمن ، وكان من أعدل الولاة ، وكان عمره يوم توفي نحوا من سبعين سنة .

عبد الله بن عبد العزيز العمري أدرك أبا طوالة ، وروى عن أبيه وإبراهيم بن سعد ، وكان عابدا زاهدا ، وعظ الرشيد يوما فأطنب وأطيب; قال له وهو واقف على الصفا : انظر كم حولها من الناس؟ فقال : بشر كثير . فقال : كل منه يسأل يوم القيامة عن خاصة نفسه ، وأنت تسأل عنهم كلهم . فبكى الرشيد بكاء كثيرا ، وجعلوا يأتونه بمنديل بعد منديل للدموع . ثم قال له : يا هارون ، إن الرجل ليسرع في ماله فيستحق الحجر عليه ، فكيف بمن يسرع في أموال المسلمين كلهم؟! ثم تركه وانصرفوالرشيد يبكي . وله معه مواقف محمودة في غير هذا الموضع . توفي عن ست وستين سنة .

محمد بن يوسف بن معدان ، أبو عبد الله الأصبهاني ، أدرك التابعين ، ثم اشتغل بالتعبد والزهادة . وكان عبد الله بن المبارك يسميه عروس الزهاد .

[ ص: 629 ] وقال يحيى بن سعيد القطان : ما رأيت أفضل منه ، وكان كأنه قد عاين .

وقال ابن مهدي : ما رأيت مثله . قالوا : وكان لا يشتري زاده من خباز واحد ، ولا من بقال واحد ، ولا يشتري إلا ممن لا يعرفه ، يقول : أخشى أن يحابوني فأكون ممن يعيش بدينه . وكان لا يضع جنبه للنوم صيفا ولا شتاء . ومات ولم يجاوز الأربعين سنة ، رحمه الله .

التالي السابق


الخدمات العلمية