صفحة جزء
يحيى بن خالد بن برمك ،

أبو علي الوزير ، والد جعفر البرمكي ،
ضم إليه المهدي ولده الرشيد ، فرباه وأرضعته امرأته مع الفضل بن يحيى ، فلما ولي الرشيد عرف له حقه ، وكان يقول : قال أبي . وفوض إليه أمور الخلافة وأزمتها ، ولم يزل كذلك حتى نكبت البرامكة ، فقتل جعفرا ، وخلد أباه في الحبس حتى مات في هذه السنة . وكان كريما فصيحا ، ذا رأي سديد ، [ ص: 677 ] ويظهر من أموره خير وصلاح .

قال يوما لولده : خذوا من كل شيء طرفا ، فإن من جهل شيئا عاداه .

وقال لأولاده : اكتبوا أحسن ما تسمعون ، واحفظوا أحسن ما تكتبون ، وتحدثوا بأحسن ما تحفظون .

وكان يقول لهم : إذا أقبلت الدنيا فأنفقوا منها فإنها لا تفنى ، وإذا أدبرت فأنفقوا منها فإنها لا تبقى .

وكان إذا سأله سائل في الطريق وهو راكب أقل ما يأمر له بمائتي درهم ، فقال له رجل يوما :

:

يا سمي الحصور يحيى أتيحت لك من فضل ربنا جنتان     كل من مر في الطريق عليكم
فله من نوالكم مائتان     مائتا درهم لمثلي قليل
هي منكم للقابس العجلان

فقال : صدقت . وأمر أن يسبق به إلى الدار ، فلما رجع سأل عنه ، فإذا هو قد تزوج ، وهو يريد أن يدخل على أهله ، فأعطاه صداقها أربعة آلاف ، وثمن دار أربعة آلاف ، وثمن الأمتعة أربعة آلاف ، وثمن الدخول أربعة آلاف ، وأربعة آلاف يستظهر بها . [ ص: 678 ] وجاء رجل يوما يسأله شيئا ، فقال : ويحك! لقد جئتني في وقت لا أملك فيه مالا ، ولكن قد بعث إلي صاحب لي يطلب مني أن يهدي إلي ما أحب ، وقد بلغني أنك تريد أن تبيع جارية لك ، وأنك قد أعطيت فيها ثلاثة آلاف دينار ، وإني سأطلبها منه ، فلا تبعها منه بأقل من ثلاثين ألف دينار ، فلما جائني يساومني فيها ألححت أن لا أبيعها بأقل من ثلاثين ألف دينار ، فبلغ ثمنها عشرين ألف دينار ، فلما سمعتها ضعف قلبي وأجبت إلى بيعها ، فلما اجتمعت بيحيى ، قال : بكم بعتها؟ قلت : بعشرين ألف دينار . قال : إنك لخسيس ، خذ جاريتك إليك ، وقد بعث إلي نائب فارس يطلب مني أن أستهديه شيئا ، وإني سأطلبها منه ، فلا تبعها بأقل من خمسين ألف دينار ، فجاءوني فوصلوا إلى ثلاثين ألف دينار ، فبعتها . فلما جئته لامني أيضا ، وردها علي ، فقلت : أشهدك أنها حرة ، وأني قد تزوجتها .

وذكر الخطيب أن الرشيد طلب من منصور بن زياد عشرة آلاف ألف درهم ، ولم يكن عنده منها سوى ألف ألف ، فضاق ذرعا ، وقد توعده إن لم يحملها في يومه ذلك وإلا قتله ، فدخل على يحيى بن خالد ، وذكر له أمره ، فأطلق له خمسة آلاف ألف ، واستطلق له من ابنه الفضل ألفي ألف ، وقال لابنه : [ ص: 679 ] يا بني ، بلغني أنك تريد أن تشتري بها ضيعة ، وهذه ضيعة تغل الشكر وتبقى مدى الدهر . وأخذ له من ابنه جعفر ألف ألف ، وأخذ له من جاريته دنانير عقدا مشتراه مائة ألف دينار ، وعشرون ألف دينار ، وقال للمترسم عليه : قد حسبناه عليك بألفي ألف . فلما عرضت الأموال على الرشيد رد العقد ، وكان قد وهبه لجارية يحيى ، فلم يعد فيه بعد أن وهبه لها .

وقد قال له بعض بنيه وهم في السجن والقيود : يا أبت ، بعد الأمر والنهي والنعمة صرنا إلى هذا الحال . فقال : يا بني ، دعوة مظلوم سرت بليل ونحن عنها غافلون ، ولم يغفل الله عنها . ثم أنشأ يقول :


رب قوم قد غدوا في نعمة     زمنا والدهر ريان غدق
سكت الدهر زمانا عنهم     ثم أبكاهم دما حين نطق

وقد كان يحيى بن خالد يجري على سفيان بن عيينة كل شهر ألف درهم ، وكان سفيان يدعو له في سجوده يقول : اللهم إنه قد كفاني أمر دنياي فاكفه أمر آخرته . فلما مات يحيى رآه بعض أصحابه في المنام فقال له : ما فعل الله بك؟ قال : غفر لي بدعاء سفيان .

وقد كانت وفاة يحيى بن خالد ، في الحبس بالرافقة لثلاث خلون من المحرم في هذه السنة عن سبعين سنة ، وصلى عليه ابنه الفضل ، ودفن على شط الفرات . وقد وجد في جيبه رقعة مكتوب فيها بخطه : قد تقدم الخصم والمدعى [ ص: 680 ] عليه بالأثر ، والحاكم الحكم العدل الذي لا يجور ، ولا يحتاج إلى بينة . فحملت إلى الرشيد ، فلما قرأها ما زال يبكي يومه ذلك ، وبقي أياما يتبين الأسى في وجهه .

وقد قال بعض الشعراء في يحيى بن خالد هذا :


سألت الندا هل أنت حر فقال لا     ولكنني عبد ليحيى بن خالد
فقلت شراء؟ قال لا بل وراثة     توارثني عن والد بعد والد

التالي السابق


الخدمات العلمية