صفحة جزء
[ ص: 94 ] ثم دخلت سنة سبع وتسعين ومائة

استهلت وقد ألح طاهر بن الحسين بن مصعب وهرثمة بن أعين ، ومن معهما من الجنود في حصار بغداد والتضييق على محمد الأمين وهرب القاسم بن الرشيد ، وعمه منصور بن المهدي إلى المأمون فأكرمهما ، وولى أخاه القاسم جرجان واشتد الحصار ببغداد ونصبت عليها المجانيق والعرادات وضاق الأمين بهم ذرعا ، ولم يبق معه ما ينفق في الجند ، فاضطر إلى ضرب آنية الفضة والذهب دراهم ودنانير ، وهرب كثير من جنده إلى طاهر ، وقتل من أهل البلد خلق كثير ، وأخذت أموال كثيرة من التجار ، وبعث محمد الأمين إلى قصور كثيرة ، ودور شهيرة ، وأماكن ومحال كثيرة فحرقها لما رأى في ذلك من المصلحة فعل كل هذا فرارا من الموت ، ولتدوم الخلافة له فلم تدم ، وقتل ، وخربت دياره كما سيأتي قريبا وفعل طاهر مثل ما فعل الأمين ، حتى كادت بغداد تخرب بكمالها ، فقال بعض الشعراء في ذلك :


من ذا أصابك يا بغداد بالعين ألم تكوني زمانا قرة العين     ألم يكن فيك قوم كان مسكنهم
وكان قربهم زينا من الزين [ ص: 95 ]     صاح الغراب بهم بالبين
فافترقوا ماذا لقيت بهم من لوعة البين     أستودع الله قوما ما ذكرتهم
إلا تحدر ماء العين من عيني     كانوا فمزقهم دهر وصدعهم
والدهر يصدع ما بين الفريقين

وقد أكثر الشعراء في ذلك ، وقد أورد الإمام أبو جعفر بن جرير من ذلك طرفا صالحا ، وأورد في ذلك قصيدة طويلة جدا لبعض أهل ذلك الزمان ، فيها بسط ما وقع ، وهي هول من الأهوال اختصرناها بالكلية .

واستحوذ طاهر على ما كان في الضياع من الغلات والحواصل للأمراء وغيرهم ، ودعاهم إلى الأمان ، وخلع الأمين ، والبيعة للمأمون ، فاستجاب له جماعة ؛ منهم عبد الله بن حميد بن قحطبة ، ويحيى بن علي بن ماهان ، ومحمد بن أبي العباس الطوسي ، وكاتبه خلق من الهاشميين والأمراء ، وصارت قلوبهم معه .

واتفق في بعض الأيام أن ظفر أصحاب الأمين ببعض أصحاب طاهر ، فقتلوا منهم طائفة عند قصر صالح ، فلما جرى ذلك بطر الأمين ، وأقبل على اللهو والشرب واللعب ، ووكل الأمور ، وتدبيرها إلى محمد بن عيسى بن نهيك ، ثم قويت شوكة أصحاب طاهر وضعف جانب الأمين جدا ، وانحاز الناس إلى جيش طاهر ، وكان جانبه آمنا جدا ، لا يخاف أحد فيه من سرقة ولا نهب ، ولا [ ص: 96 ] غير ذلك ، وقد احتاز طاهر أكثر محال بغداد وأرباضها ، ومنع الملاحين أن يحملوا طعاما إلى من خالفه ، ليضيق عليهم ، فغلت الأسعار عندهم جدا ، وندم من لم يكن خرج من بغداد قبل ذلك ، ومنعت التجار من القدوم إلى بغداد بشيء من البضائع أو الدقيق ، وصرفت السفن إلى البصرة وغيرها ، وقد جرت بين الفريقين حروب كثيرة ؛ فمن ذلك وقعة درب الحجارة ، كانت لأصحاب محمد الأمين قتل فيها خلق من أصحاب طاهر ، كان الرجل من العيارين والحرافشة من البغاددة يأتي عريانا ، ومعه بارية مقيرة ، وتحت كتفه مخلاة فيها حجارة ، فإذا ضربه الفارس من بعيد بالسهم اتقاه بباريته فلا يؤذيه ، وإذا اقترب منه رماه بحجر في المقلاع فأصابه ، فهزموهم بذلك .

ووقعة الشماسية أسر فيها هرثمة بن أعين فشق ذلك على طاهر ، وأمر بعقد جسر على دجلة فوق الشماسية ، وعبر بنفسه ، ومن معه إلى الجانب الآخر فقاتلهم بنفسه أشد القتال حتى أزالهم عن مواضعهم ، واسترد منهم هرثمة ، وجماعة ممن كانوا أسروهم من أصحابه ، فشق ذلك على محمد الأمين وقال في ذلك :

[ ص: 97 ]

منيت بأشجع الثقلين قلبا     إذا ما طال ليس كما يطول
له مع كل ذي بدن رقيب     يشاهده ويعلم ما يقول
فليس بمغفل أمرا عنادا     إذا ما الأمر ضيعه الغفول

وضعف أمر محمد الأمين ابن زبيدة جدا ، ولم يبق عنده مال ينفقه على جنده ، ولا على نفسه ، وتفرق أكثر أصحابه عنه ، وبقي مضطهدا ذليلا . وانقضت هذه السنة بكمالها والناس في بغداد في قلاقل وزلازل وهيشات وقتال وحصار وحرق وغرق وسرق ، فإنا لله وإنا إليه راجعون .

وحج بالناس فيها العباس بن موسى بن عيسى الهاشمي ، ودعا للمأمون .

التالي السابق


الخدمات العلمية