صفحة جزء
[ ص: 99 ] ثم دخلت سنة ثمان وتسعين ومائة

فيها خامر خزيمة بن خازم على محمد الأمين وأخذ الأمان من طاهر . ودخل هرثمة بن أعين الجانب الشرقي ، وفي يوم الأربعاء لثمان خلون من المحرم وثب خزيمة بن خازم ومحمد بن علي بن عيسى على جسر بغداد فقطعاه ونصبا رايتهما عليه ، ودعوا إلى بيعة عبد الله المأمون وخلع محمد الأمين ودخل طاهر يوم الخميس إلى الجانب الشرقي ، فباشر القتال بنفسه ، ونادى بالأمان لمن لزم منزله ، وجرت عند دار الرقيق والكرخ وغيرهما وقعات ، وأحاط بمدينة أبي جعفر والخلد وقصر زبيدة ، ونصب المجانيق حول السور ، وحذاء قصر زبيدة ، ورماه بالمنجنيق ، فخرج محمد الأمين بأمه وولده إلى مدينة أبي جعفر ، وتفرق عنه عامة أصحابه في الطرق ، لا يلوي أحد على أحد . ودخل الأمين قصر أبي جعفر وانتقل من الخلد لكثرة ما يأتيه فيه من رمي المنجنيق ، وأمر بتحريق ما كان فيه من الأثاث والبسط والأمتعة ، وغير ذلك فحصر فيه حصرا شديدا . ومع هذه الشدة والضيق وإشرافه على الهلاك ، خرج ذات ليلة في ضوء القمر إلى شاطئ دجلة ، واستدعى بنبيذ وجارية فغنته ، فلم ينطلق لسانها إلا بالفراقيات وذكر الموت ، وهو يقول لها : غيري هذا . [ ص: 100 ] فتذكر نظيره ، حتى غنته آخر ما غنته أن قالت :


أما ورب السكون والحرك إن المنايا كثيرة الشرك     ما اختلف الليل والنهار ولا
دارت نجوم السماء في الفلك     إلا لنقل السلطان من ملك
غاو يحب الدنيا إلى ملك     وملك ذي العرش دائم أبدا
ليس بفان ولا بمشترك

قال : فسبها وأقامها من حضرته ، فعثرت في قدح كان له من بلور فكسرته ، فتطير بذلك . ولما ذهبت الجارية سمع صارخا يقول قضي الأمر الذي فيه تستفتيان [ يوسف : 41 ] فقال لجليسه : ويحك ، ألا تسمع ؟ فتسمع فلم يسمع شيئا ، ثم عاد الصوت بذلك ، فما كان إلا ليلة أو ليلتان حتى قتل في رابع صفر يوم الأحد ، وقد جهد في حصره ذلك ، بحيث إنه لم يبق عنده طعام ولا شراب ؛ فجاع ليلة فما أتي برغيف ودجاجة إلا بعد كلفة كبيرة ، ثم طلب ماء فلم يوجد له ، فبات عطشانا ، فلما أصبح قتل قبل أن يشرب الماء .

ذكر كيفية مقتله

لما اشتد به الأمر اجتمع عنده من بقي معه من الأمراء والخدم والجند ، فشاورهم في أمره ، فقالت طائفة : تذهب بمن بقي معك إلى الجزيرة أو الشام [ ص: 101 ] فتتقوى بالأموال ، وتستخدم الرجال ، وقال بعضهم : بل تخرج إلى طاهر وتأخذ منه أمانا ، وتبايع لأخيك ، فإذا فعلت ذلك فإن أخاك سيأمر لك بما يكفيك من أمر الدنيا ، وغاية مرادك الدعة والراحة ، وذلك يحصل لك . وقال بعضهم : بل هرثمة أولى بأن يأخذ لك الأمان ؛ فإنه مولاكم أحنى عليكم . فمال إلى ذلك ، فلما كانت ليلة الأحد الرابع من صفر بعد عشاء الآخرة واعد هرثمة أن يخرج إليه ، ثم لبس ثياب الخلافة ، وطيلسانا ، واستدعى بولديه فشمهما وضمهما إليه ، وقال : أستودعكما الله ، ومسح دموعه بطرف كمه ، ثم ركب على فرس سوداء ، وبين يديه شمعة ، فلما انتهى إلى هرثمة أكرمه وعظمه ، وركبا في حراقة في دجلة ، وبلغ ذلك طاهرا ، فغضب من ذلك ، وقال : أنا الذي فعلت هذا كله ويذهب إلى غيري ، وينسب هذا كله إلى هرثمة ! فلحقهما وهما في الحراقة ، فأمالها أصحابه فغرقت في الماء ، فغرق من فيها ، غير أن محمدا الأمين سبح إلى الجانب الآخر وأسره بعض الجند ، وجاء فأعلم طاهرا بذلك ، فبعث إليه جندا من العجم ، فجاءوا إلى البيت الذي قد أوى إليه ، وعنده بعض أصحابه ، وهو يقول له : ادن مني فإني أجد وحشة شديدة . وجعل يلتف في ثيابه شديدا ، وقلبه يخفق خفقانا عظيما ، كاد يخرج من صدره ، فلما دخل عليه أولئك ، قال : إنا لله وإنا إليه راجعون . ثم دنا منه أحدهم فضربه بالسيف على مفرق رأسه ، فجعل يقول : ويحكم ، أنا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أنا ابن هارون ، أنا أخو المأمون الله الله في دمي ! فلم يلتفتوا إلى شيء من ذلك ، بل تكاثروا عليه وذبحوه من قفاه ، وذهبوا برأسه إلى طاهر وتركوا جثته ، ثم جاءوا [ ص: 102 ] من باكر إليها ، فلفوها في جل فرس ، وذهبوا بها ، وكان ذلك ليلة الأحد لأربع ليال خلت من صفر من هذه السنة ، أعني سنة ثمان وتسعين ومائة .

وهذا شيء من ترجمة الأمين

هو محمد أمير المؤمنين الأمين بن هارون الرشيد بن محمد المهدي بن المنصور ، أبو عبد الله ، ويقال : أبو موسى الهاشمي العباسي البغدادي ، وأمه أم جعفر زبيدة بنت جعفر بن أبي جعفر المنصور .

كان مولده بالرصافة سنة سبعين ومائة . وأتته الخلافة بمدينة السلام لثلاث عشرة ليلة بقيت من جمادى الآخرة سنة ثلاث وتسعين ، وقتل ليلة الأحد لخمس بقين من المحرم ، يعني سنة ثمان وتسعين ومائة ، قتله قريش الدنداني ، وحمل رأسه إلى طاهر بن الحسين فنصبه على رمح ، وتلا هذه الآية قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء الآية [ آل عمران : 26 ] . وكانت ولايته أربع سنين وسبعة أشهر وثمانية أيام ، وكان طويلا سمينا أبيض ، أقنى الأنف ، صغير العينين ، عظيم الكراديس ، بعيدا ما بين [ ص: 103 ] المنكبين ، وقد رماه بعضهم بكثرة اللعب والشرب ، وقلة الصلاة . وقد ذكر ابن جرير طرفا من سيرته في إكثاره من اقتناء السودان والخصيان ، وإعطائهم الأموال والجواهر ، وأمره بإحضار الملاهي والمغنين من سائر البلدان ، وأنه أمر بعمل خمس حراقات على صورة الفيل ، والأسد ، والعقاب ، والحية ، والفرس ، وأنفق على ذلك أموالا جزيلة جدا ، وقد امتدحه أبو نواس بشعر أقبح في معناه من صنيع الأمين فإنه قال في أوله :


سخر الله للأمين مطايا     لم تسخر لصاحب المحراب
فإذا ما ركابه سرن برا     سار في الماء راكبا ليث غاب

ثم وصف كلا من تلك الحراقات .

واعتنى الأمين ببنايات هائلة للنزهة وغير ذلك ، وأنفق في ذلك أموالا كثيرة جدا ، فكثر النكير عليه بسبب ذلك .

وذكر ابن جرير أنه جلس يوما في مجلس أنفق عليه مالا جزيلا في الخلد ، وقد فرش له بأنواع الحرير ، ونضد بآنية الذهب والفضة ، وأحضر ندماءه ، وأمر القهرمانة أن تهيئ له مائة جارية حسناء ، وأمرها أن تبعثهن إليه عشرا بعد عشر يغنينه ، فلما جاءت العشر الأول اندفعن يغنين بصوت واحد :

[ ص: 104 ]

هم قتلوه كي يكونوا مكانه     كما غدرت يوما بكسرى مرازبه

فغضب من ذلك ، وتبرم وضرب رأسها بالكأس ، وأمر بها أن تلقى إلى الأسد ، فأكلها ، ثم استدعى بعشر فاندفعن يغنين :


من كان مسرورا بمقتل مالك     فليأت نسوتنا بوجه نهار
يجد النساء حواسرا يندبنه     يلطمن قبل تبلج الأسحار

فطردهن ، واستدعى بعشر غيرهن ، فلما حضرن اندفعن يغنين بصوت واحد :


كليب لعمري كان أكثر ناصرا     وأيسر ذنبا منك ضرج بالدم

فطردهن وقام من فوره ، وأمر بتخريب ذلك المجلس وتحريق ما فيه .

وذكروا أنه كان كثير الأدب ، فصيحا ، يقول الشعر ويحبه ويعطي عليه الجوائز الكثيرة ، وكان شاعره أبا نواس ، وقد قال فيه أبو نواس مدائح حسانا جدا ، وقد وجده مسجونا في حبس الرشيد مع الزنادقة ، فأحضره ، وأطلقه ، وأطلق له مالا ، وجعله من ندمائه ، ثم حبسه مرة أخرى في شرب الخمر وأطال حبسه ، ثم أطلقه ، وأخذ عليه العهد أن لا يشرب الخمر ، ولا يأتي الذكران من العالمين ، فامتثل ذلك ، وكان لا يفعل شيئا من ذلك بعدما استتابه الأمين ، وقد تأدب على الكسائي ، وقرأ عليه القرآن .

[ ص: 105 ] وروى الخطيب من طريقه حديثا أورده عنه لما عزي في غلام له توفي بمكة ، فقال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن المنصور ، عن أبيه ، عن علي بن عبد الله ، عن أبيه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : من مات محرما حشر ملبيا

وقد قدمنا ما وقع بينه وبين أخيه من الاختلاف والفرقة حتى أفضى ذلك إلى خلعه وعزله ، ثم إلى التضييق عليه وقتله ، رحمه الله وسامحه ، وأنه حصر في آخر أمره حتى احتاج إلى مصانعة هرثمة ، فخرج إليه ليجتمع به ، فألقي من الحراقة ، فسبح إلى الشط الآخر من دجلة فدخل دارا لبعض العامة ، وهو في غاية الخوف والدهش والجوع والعري والقلق ، فجعل الرجل يلقنه الصبر والاستغفار فاشتغل بذلك ساعة من الليل ، ثم جاء الطلب وراءه من جهة طاهر بن الحسين بن مصعب ، فدخلوا عليه ، وكان الباب ضيقا فدخلوا عليه يتدافعون ، وقام إليهم فجعل يدافعهم عن نفسه بمخدة في يده ، فما وصلوا إليه حتى عرقبوه وضربوا رأسه وخاصرته بالسيوف ، ثم ذبحوه ، وأخذوا رأسه وجثته فأتوا بهما طاهر بن الحسين ففرح بذلك فرحا شديدا ، وأمر بنصب الرأس فوق رمح هناك ، حتى أصبح الناس فنظروا إليه فوق الرمح عند باب الأنبار وكثر عدد الناس ينظرون إليه ، ثم بعث طاهر برأس الأمين مع ابن عمه محمد بن مصعب ، وبعث معه بالبردة والقضيب والمصلى وكان من خوص مبطن [ ص: 106 ] فسلمه إلى ذي الرياستين ، فدخل به على المأمون على ترس ، فلما رآه سجد وأمر لمن جاء به بألف ألف درهم . وقد قال ذو الرياستين حين قدم الرأس ، يؤلب على طاهر : أمرناه بأن يأتي به أسيرا ، فأرسل به عقيرا . فقال المأمون : قد مضى ما مضى . وكتب طاهر إلى المأمون كتابا ذكر فيه صورة ما وقع من القتال حتى آل الحال إلى ما آل إليه .

ولما قتل الأمين هدأت الفتن ، وخمدت الشرور ، وأمن الناس ، وطابت النفوس ، ودخل طاهر بن الحسين إلى بغداد يوم الجمعة ، فصلى بالناس الجمعة وخطبهم خطبة بليغة ، ذكر فيها آيات كثيرة من القرآن ، وأن الله يفعل ما يشاء ، ويحكم ما يريد ، وأمرهم فيها بالجماعة والسمع والطاعة ، ثم خرج إلى معسكره فأقام به ، وأمر بتحويل زبيدة من قصر أبي جعفر إلى قصر الخلد ، فخرجت يوم الجمعة الثاني عشر من ربيع الأول من هذه السنة ، وبعث بموسى وعبد الله ابني الأمين إلى عمهما المأمون بخراسان ، وكان ذلك رأيا سديدا .

وقد وثب طائفة من الجند بطاهر بعد خمسة أيام من مقتل الأمين وطلبوا منه أرزاقهم ، فلم يكن عنده إذ ذاك مال ، فتحزبوا واجتمعوا ، ونهبوا بعض متاعه ونادوا : يا موسى ، يا منصور . واعتقدوا أن موسى بن الأمين الملقب بالناطق بالحق هناك ، وإذا هو قد سيره طاهر إلى عمه المأمون وانحاز طاهر بمن معه من القواد ناحية ، وعزم على قتالهم ومناجزتهم بمن معه ، ثم رجعوا إليه ، واعتذروا ، وندموا على ما كانوا فعلوا ، فأمر لهم برزق أربعة أشهر ؛ بعشرين ألف دينار [ ص: 107 ] اقترضها من بعض الناس ، فطابت الخواطر ، واتسق الحال وصلح أمر بغداد .

وكان إبراهيم بن المهدي قد أسف على قتل محمد ابن زبيدة ، ورثاه بأبيات ، فبلغ ذلك المأمون فبعث إليه يعنفه ويلومه على ذلك ، وقد ذكر ابن جرير مراثي كثيرة للناس في الأمين ، وذكر من أشعار الذين هجوه طرفا ، وذكر من شعر طاهر بن الحسين حين قتله قوله :


ملكت الناس قسرا واقتدارا     وقتلت الجبابرة الكبارا
ووجهت الخلافة نحو مرو     إلى المأمون تبتدر ابتدارا



التالي السابق


الخدمات العلمية